17 أبريل، 2024

خطأ شائع (8)النقد المحرّم في الأحزاب

15 كانون الثاني 2022

https://www.nidaalwatan.com/article/65901

لامني أصدقاء لأنّني أكتب عن حزب لا يستحقّ، على ما قالوا، أن يُكتب عنه لأنه مات ولأن الضرب في الميت حرام، فيما أنا مصر على متابعة نقد القيادة الحزبية لأنها تفضّل بقاء الصيغة القديمة حيّة لعجزها عن مجاراة التحولات الجديدة بعد انهيار التجربة الاشتراكية المحققة، وهي لذلك توكل مهمة التفاعل مع النقد إلى الذباب الإلكتروني الحزبي المنتشر على وسائل التواصل.

بدأت كتابتي النقدية لتجربة عزيزة عليّ في ثمانينات القرن الماضي وبالتحديد، يوم اغتيال مهدي عامل. ختمت رثائي لرفيقي وصديقي وأستاذي مهدي، وكنت قد نشرته في جريدة السفير بتاريخ 20-6-1987، بالعبارة التالية: «وإذا كنا يا حسن قد فقدنا بغيابك بعضاً من نكهة الصبر وشهية العناد، فلأن الكورس قد شرد عن اللحن، ولأن أفراد الجوقة تاهوا في ركام من عزف منفرد. وتبقى أنت الأغنية وتبقى أنت النشيد».

أجل، منذ ذاك التاريخ وأنا أكتب في نقد القيادة. قصدت بالجوقة والكورس الأوساط العليا في القيادة. هي وحدها فهمت معنى كلامي يومذاك فعاتبتني لأنني بحت بسرّ يتعلق بالخلافات العاصفة داخلها لم تكن ترغب بإعلانه. تلك القيادة كانت تفهم معنى الكلام وكانت تحترم نفسها فاكتفت بالعتاب. من لا يعرف هذه الواقعة ولا يحترم الرأي الآخر، وهم الأكثرية التي ما زالت تجهل حقيقة الأزمة التي عصفت بالحزب في منتصف الثمانينات، وبالتحديد مع التحضير للمؤتمر الخامس، يردّ على النقد ببذيء الكلام، سباباً وشتائم من اللغة السوقية «الدارجة» على وسائل التواصل وفي إعلام الممانعة.

النقد مكتوب وموثق، منذ ذلك التاريخ، على موقعي الخاص www.drmoukaled.com وفي الصحف وفي كتبي المنشورة، أما الشفوي منه فيفترض أن يكون موثقاً في أرشيف القيادة التي استمريت عضواً مشاكساً فيها حتى عام 2007. أي اللحظة التي أعفت القيادة نفسها من الإصغاء لأي نقد مكتوباً كان أم شفوياً.

عشرون عاماً من النقد والنقد الذاتي داخل الهيئات. في التسعينات نشرت كتاب «الأصوليات»، وحصة الأصوليات الماركسية فيه هي الأكبر. في 2006 نشرت كتاب «اغتيال الدولة» وفيه اتهام صريح لكل الأحزاب المشاركة في الحرب الأهلية، بما فيها الحزب الشيوعي، بتدمير مؤسسات الدولة. بعد ذلك ومن خارج الهيئات، نشرت كتاب «الشيعية السياسية» وفيه إدانة للثنائي الذي يكرر خطأ المارونية السياسية، وكتاب «هل الربيع العربي ثورة»، وآخرها كتاب «أحزاب الله» الصادر في أول أيام الثورة اللبنانية، أي في 17 تشرين الأول 2019.

أحزاب الله المقصودة هي كل الأحزاب التوتاليتارية، بما فيها الأحزاب الشيوعية، والكتاب نقد لمنهج التفكير والعمل لدى هذه الأحزاب، ولا سيما لموقفها جميعاً من عملية بناء الدولة. قلت فيه ما سبق لي أن قلته في وثيقة منشورة باسم الحزب عام 1995 وعنوانها «في سبيل إعادة بناء الوطن والدولة»، وأعدت قوله بعد أن تخلت القيادة عنه. كل كتاباتي النقدية تدور حول فكرة واحدة عنوانها الدولة هي الحل، سبيلاً للخروج من الحرب الأهلية وتفادياً لتكرارها. ومن أسف أنني أزداد يقيناً بأن من لا يقبل النقد هو من لا زال غارقاً في أوهام الماضي وراغباً في الحفاظ على عدة الحرب الأهلية.

كتاب «أحزاب الله» هو، في جزء كبير منه، مساجلة مع فكر مهدي عامل، زميلي في التعليم وأستاذي في النضال، حاولت فيها أن أنقذه من قرّائه وأن أفكّ تبعيته لمنطق القيادة. هو الذي كان يكتب الإطار النظري لخط سياسي ترسمه قيادة تجهل النظرية، بحسب قوله. الخطوة الأولى للدخول إلى محرابه كانت حين توليت توزيع أكثر من مئة نسخة من كتابه الصعب، في التناقض، عام 1977، ثم كتبت بعد عام في جريدة «النداء» مقالة عن الجزء الثاني من الكتاب، في نمط الإنتاج الكولونيالي، وصفته فيها، من موقع الإعجاب بفكره وبحماسة تشبه حماسة من اقتبسوا البارحة من كتبه صفحات كثيرة وأدرجوها في مشاريع الوثائق التحضيرية، بإنه إبن خلدون زماننا، وبتواضع العالم لم يقبل يومذاك بمبالغتي.

هو الذي عرفناه بأسمائه كلها، حسن حمدان الأستاذ الجامعي، مهدي عامل الفيلسوف، هلال بن زيتون الشاعر وطارق خطيب المنابر. حين حكم الذباب الحزبي بعدم معرفتي بمهدي، تذكرت قول الشاعر، «لماذا، كلبة الحياة العوراء، كلما التقيتها لا تكف عن النباح في وجهي». تساجلت معه تخليداً لذكراه وحتى لا يغتاله الجهل الرفاقي مرة ثانية.

في حديث معنعن منقول عن مهدي عامل عن ماركس، الفكر الثوري إما أن يكون نقدياً أو لا يكون. وعن فلاسفة اليونان، لا يمكن أن نغتسل بمياه النهر مرتين، والشمس التي تشرق اليوم ليست هي ذاتها التي أشرقت البارحة أو التي ستشرق غداً. العالم يتغير من حولنا، ولا يمكن أن تراه عيوننا بالصورة ذاتها في كل يوم. هذا ما تربينا عليه في ذروة النضال وعزه.

وحدها قيادة الحزب ما زالت مصرة على أن الماركسية دين لا منهج تفكير وعلى أن ميزة عصرنا هي الانتقال إلى الاشتراكية، ومصرة على تعميم أفكارها حول تحريم النقد والتهديد بالويل والثبور وعظائم الأمور وتكلف الرعاع برشق التهم والكلام السوقي في وجه من يلج هذا الباب الموصد.

قال لي النائب والوزير السابق أنور الصباح أنهم، أي الأسعديين، كانوا يطلبون من «عيونهم» أن يرصدوا ما يتم تداوله بين الشيوعيين في سوق النبطية لعل ذلك يساعد أهل السلطة على تصويب أعمالهم وقراراتهم. هذا كان نهج حزب يملكه فرد، فكيف بحزب يعتبر نفسه ملكية عامة وكان اسمه في يوم من الأيام حزب الشعب؟

إعتقاد الجهلة ومحدودي المعرفة بأن الحزب ملكية خاصة هو ليس من الأخطاء الشائعة فحسب، بل من الأخطاء القاتلة.