نعم هي ثورة. فهل استحقت هذه التسمية؟ ولماذا؟
إجماع على أنها اعتراض سلمي، واختلاف على التوصيف. ففيما تصر الثورة على وقوفها ضد النهج السياسي الذي اعتمدته السلطات في إدارة شؤون الدولة منذ اتفاق الطائف، يصر آخرون على طابعها المطلبي وعلى الفساد في أجهزة السلطة ومؤسساتها السياسية والإدارية والمالية. فما هي الأسباب الحقيقية للثورة، وهل تتغير هويتها إذا ما تغير الهدف الذي تصوب عليه؟ لقمة العيش ليست سوى صاعق، والانفجار حصل ضد الفساد السياسي. هذا ما قلته لأحد الأصدقاء بعد أن أصر على الطابع الطبقي للثورة. ربما كان جواب عدنان الأمين على صفحته أكثر بلاغة، “الوجع اقتصادي والمرض سياسي”. هذا هو لب الموضوع، ولا تتوضح حقيقته إلا بمعرفة السياق الذي أدى إلى إنهاء الحرب الأهلية والذي تشكلت خلاله هذه السلطة السياسية الفاسدة المفسدة.
المعارك الأخيرة في الحرب الأهلية التي مهدت لاتفاق الطائف هي: حرب انفجرت ظاهرياً بين أمل وحزب الله على أرض الجنوب اللبناني، ولم تكن في حقيقتها سوى حرب بالواسطة بين النفوذ السوري والنفوذ الإيراني في لبنان. كلمة رئيس أمل في حينه معبرة: الجنوب عربي لا فارسي؛ حرب هي في ظاهرها بين القوات اللبنانية وميشال عون قائد الجيش في حينه، لكن المستتر منها يخفي صراعاً على النفوذ بين صدام حسين وحافظ الأسد؛ قبلها بسنوات حرب الجبل بين الدروز والمسيحيين، قدم فيها النظام السوري، لتدعيم نفوذه، دعماً للدروز، فيما أملت القوات اللبنانية بدعم إسرائيلي لم تحصل عليه؛ حرب المخيمات التي شنتها حركة أمل ضد مخيمي عين الحلوة في صيدا وصبرا وشاتيلا في بيروت، وهي في حقيقتها حرب سورية على إلغاء أي احتمال لعودة النفوذ العرفاتي إلى لبنان. في كل هذه المعارك المنتصر الوحيد هو النظام السوري، وفي ظل انتصاره عقد اتفاق الطائف، وكانت جميع بنوده تتطلب موافقة القيادة السورية قبل إقرارها من جانب المؤتمرين من أعضاء البرلمان اللبناني.
اتفاق الطائف قضى، في جوهره، بإعادة تشكيل السلطة السياسية بما من شأنه معالجة الأسباب التي فجرت الحرب الأهلية، وضمان عدم تجددها. وقد حصل المنتصر، أي النظام السوري، على وكالة عربية ودولية بالإشراف على تنفيذ الاتفاق وعلى إعادة بناء الدولة اللبنانية. غير أنه تصرف بهذه الوكالة بما يضمن مصالح نهجه المعتمد في إدارة الشأن الداخلي السوري كما في إدارة الصراع على القضايا القومية ولا سيما منها القضية الفلسطينية. من نتائج هذا الإشراف رعايته قيام نظام أمني مخابراتي أشرف على إلغاء مقومات الدولة والديمقراطية في النظام اللبناني. وقد تجلى ذلك في تنظيم انتخابات بمحادل التعيين وإلغاء مبدأ الفصل بين السلطات من خلال الترويكا وإلغاء مبدأ الكفاءة وتكافؤ الفرص وتعميم قيم الزبائنية وتعزيز سلطة الميليشيات في أجهزة الدولة وتدمير السلطة القضائية وإلغاء المؤسسات ولا سيما الرقابية منها. أما في الشأن الخارجي فقد ألغى سيادة الدولة وناب عنها في إجراء المفاوضات مع الدول ووظف بطولات المقاومين اللبنانيين لا بهدف تحرير الأرض المحتلة بل لتحسين شروط تسوية افتراضية لم يكن جاداً بتحقيقها.
لقد درّب النظام السوري وكلاءه اللبنانيين على إدارة شؤون الدولة بهذه الطريقة، موفراً لهم غطاء عسكرياً بوجود جيشه، حتى إذا خرج الجيش، بعد اغتيال الحريري، انكشف الوجه الميليشيوي العسكري والسياسي للوكلاء وانحدرت ممارساتهم السلطوية، فبدوا كأنهم عصابات فالتة لا يردعها رادع عن انتهاك الدستور والقوانين وعن سرقة المال العام وممارسة كل أنواع الفساد والمقامرة بثروة البلاد المالية والعقارية والبشرية وتوزيعها بالتحاصص، والاعتداء على الحريات العامة وكم الأفواه، وبلغ الانحدار حضيضه حين تحول أركان السلطة إلى أدوات داخلية توفر تغطية لانتهاك السيادة الوطنية من قبل القوى الخارجية.
خلال العقود الثلاثة من حكم نظام الوصاية ووكلائه المحليين باءت بالفشل كل المحاولات الرامية إلى تشكيل حالة اعتراضية، لأن الجيل المخضرم، الذي تخرّج من مدرسة الحرب الأهلية حاملاً بعضاً من ثقافتها من دون أن يخرج من عباءتها ، استمر ينظر إلى أزمات الوطن الداخلية بعين انقسام اللبنانيين واصطفافهم تبعاً للموقف من القضايا الخارجية. حتى بعد اغتيال رفيق الحريري ظلت المبارزة قائمة بين ساحتين وانتفاضتين في الثامن والرابع عشر من آذار 2005، لتعبّر عن استمرار اللبنانيين في الانقسام بين مؤيد لنهج الممانعة ومعارض له.
غير أن جيلاً جديداً ولد في خضم المعاناة ومن رحمها ودفع غالياً ثمن نهج سلطوي مدمر للحجر والبشر والبيئة، ومهجّر للكفاءات ومعمّم قيم الفساد والإفساد والتشبيح الميليشيوي. خرج هذا الجيل في السابع عشر من تشرين الأول 2019، ليعلن ولادة لبنان الجديد.
رحت أشارك في بعض الساحات، أسعدني أن يكون عدد الذين تعرفت على وجوههم قليل جدا بين أكثرية ساحقة من شباب الثورة وصباياها في الساحات أراها لأول مرة، أي أنها ليست من جيل الحرب الأهلية ولا من الجيل المخضرم. نعم. كنا في جميع نشاطاتنا نفتقر إلى وجود جيل شاب ونشكو من غيابه. وحين كنا نلتقي في محاضرة أو ندوة أو اجتماع نلاحظ أن معدل أعمار الموجودين هو فوق الخمسين. كنا ندعوهم ولا يلبون الدعوة. كنا نكابر ولا نعترف لهم ولا لأنفسنا بأننا، نحن جيل الأهل، عجزنا عن معرفة سر المرض في النظام اللبناني وشخصناه بطريقة خاطئة ووصفنا له علاجاً خاطئاً. كنا نعتقد أنهم عازفون عن العمل السياسي، غارقون في اللغة الرقمية والحاسوب ووسائل التواصل، إلى أن رأيناهم بأم العين يحملون الراية الوحيدة، علم الوطن، يحتلون الساحات والشوارع، ويقبضون بكلتا اليدين بأعناق من أوصلوا البلاد إلى حضيض السمعة وأسفل قائمة الأوطان.
لكن، كان قد بلغ السيل الزبى، ونضج الجيل الجديد فتقدم الصفوف كاسراً القيود والحواجز الطائفية والمذهبية والمناطقية، ليفجر ثورة، طال انتظارها، على القضايا الداخلية، وبالتحديد على طريقة تشكيل السلطة وعلى طريقة إدارتها شؤون البلاد. فجر الثورة جيل ولد من رحم الأزمة وتفتحت عيونه على موبقات أهل الحكم، فكان ينمو وتنمو في داخله بذور ثورة ناضجة، كأن الشاعر محمد الماغوط كان ينطق باسمهم حين قال في قصيدته “كل العيون نحو الأفق”:
“مذ كانت رائحة الخبز شهية كالورد
كرائحة الأوطان على ثياب المسافرين
وأنا أسرح شعري كل صباح، وأرتدي أجمل ثيابي، وأهرع كالعاشق في موعده الأول
لانتظار الثورة التي يبست قدماي بانتظارها”
من أجلها أحصي أسناني كالصيرفي
أداعبها كالعازف قبل فتح الستار
بمجرد أن أراها وألمح سوطاً من سياطها أو رصاصة من رصاصاتها
سأضع يدي حول فمي وأزغرد كالنساء المحترفات
سأرتمي على صدرها كالطفل المذعور وأشكو لها
كم عذبني الجوع وأذلني الإرهاب
نعم. انتظرناها طويلاً. وما كان ممكناً أن تولد تلك الثورة على أيدي خريجي مدرسة الحرب الأهلية، بمن فيهم من قرأ التجربة بعين نقدية. كان يلزم أن ننتظر جيلاً جديداً لم يتكوّن وعيه في غمرة الصراع بين المعسكرين، ولم يولد من رحم أحزاب تقاتلت على قضايا قومية وأممية أكبر من الوطن ولا على قضايا مذهبية وطائفية أصغر من الوطن. انتظرنا جيلاً يغني للثورة وينشد النشيد الوطني على مساحة الوطن ولا يرفع غير العلم الوطني، ويجعل الساحات في أربع أرجاء الوطن مسرحاً لاحتفالات الوحدة الوطنية. لكنها، ككل الثورات، عزم وتصميم وثبات وإرادة ووعي وابتعاد عن المماحكات وعن تكبير الكلام، لكنها، من بين كل الانتفاضات التي ألصقوا فيها إسم الثورة، هي وحدها الثورة، وهي الأجمل والأنقى والأرقى. هي استحقت كل هذه الصفات لأنها احتضنت في صميم الوحدة تنوعاً وتعدداً هما سبب قوتها، ويعمل أعداء الثورة على جعلهما سبب هلاكها.
للتنوع أشكال ومستويات. من كل الأعمار ومن كل المناطق ومن كل الطوائف والمذاهب ومن كل المدارس والجامعات الخاصة والرسمية، من لبنان المقيم ومن لبنان المغترب، سافرات الوجوه أو بالحجاب، تصمت الساحات إذا ما قرع جرس كنيسة أو ارتفع أذان على مئذنة، يتبادلون الزيارات بين المدن والساحات، ويبتكرون أشكالاً من التعبير ما خطرت ببال، فاحتار فيهم أهل القمع وارتبكوا. أكثر ما أربكهم أن الثورة موحدة على برنامج الإنقاذ رغم تنوع المطالب والشعارات. لكن أشكال التعبير عن الغضب تشي بأسباب الأزمة ولا تفصح عنها، وهنا بالضبط يكمن سر التباين والتفاوت والتعارض والتناقض في قراءة الأحداث وفي صياغة الحلول من جانب أهل الثورة.
قيل عن الثورة إنها انتفاضة، وإنها مؤامرة على العهد وعلى جبهة الممانعة، وقيل إن أهل السلطة جميعاً (كلهم يعني كلهم) يتحملون مسؤولية وصول البلاد إلى حافة الانفجار، وقيل إنها أبهى صور الصراع الطبقي بين الفقراء والأغنياء. وتبارى خبراء الاقتصاد في تقديم حلول، وهتافو المظاهرات في صياغة الشعارات، والقادة الافتراضيون في التعبئة ملء الساحات والشوارع، فيما راح المئات يطلب كل منهم ما حرمتهم السلطة منه، فرص عمل لبعضهم، ومطالب مزمنة في الضمان الصحي والجندرة وغيرها لآخرين والتنديد بجور المحاكم الدينية، وحصل سباق بين الثائرين والمندسين وأعداء الثورة، فظهرت الدراجات النارية على مداخل ساحتي الشهداء ورياض الصلح كنسخة لبنانية عن موكب الإبل في ساحات القاهرة، وارتفعت أصوات الهجاء أو المديح كل بزعيمه، وأصوات الإشادة بدور الجيش اللبناني في حماية المتظاهرين.
في لوحة التنوع هذه يكمن شيطان التفاصيل. وكما في كل الثورات، لا يأتي الشيطان من الخارج، بل قد يكون مختبئاً خلف حقيقة مموهة أو شعار مضلِّل. وقد يكون الخلط بين الشعارات والمطالب والبرنامج وجهاً من وجوه ذلك الشيطان. ومع أن الثورة أجمعت على خارطة طريق واحدة تبدأ باستقالة الحكومة وتشكيل أخرى على أسس سليمة مع صلاحيات استثنائية في التشريع يكون في رأس إنجازاتها إجراء انتخابات نيابية على أساس قانون انتخاب جديد، واسترداد الأموال المنهوبة ومحاكمة الفاسدين من سارقي المال العام، إلا أن الشعارات تشي بتباين بين الأولويات، بين المطالب الاجتماعية الاقتصادية من جهة والحلول السياسية من جهة أخرى. خطورة هذا التباين تظهر في إصرار أهل السلطة على استبعاد الحل السياسي وتشديدهم على نظرية المؤامرة. ومن حسن حظ الثورة أن الحرب الأهلية “الجوّالة” بين محيط العالم العربي وخليجه، كانت قد بدأت من لبنان، ومنها تعلم ثوار لبنان أن الوحدة الوطنية هي سلاحهم السلمي الأمضى في وجه عدو يتخفى أحياناً خلف حصون الطائفية والقضايا القومية، ويستخدم شتى أساليب القمع والتهويل، ويتمثل للثورة أحياناً بشراً سوياً ليشق الصفوف بالتعمية على الحقيقة وبالترغيب والترهيب. فمن هو هذا العدو؟ هل هو النظام السياسي أو بعضه أو بعض رموزه؟ هل هو النظام المالي والمصرفي؟ هل هو الدستور أم نواقص وثغرات فيه؟ هل هي الطائفية والمذهبية وقوانين الأحوال الشخصية؟
انخراط الشيوعيين في الثورة كان محط أنظار المراقبين والمشاركين ومدعاة اعتزاز وتنويه من كل الساحات والمناطق، ولاسيما أنهم تجرأوا، حيث لم يتجرأ سواهم، على مواجهة الثنائي الشيعي في مناطق نفوذه الأساسية في الجنوب والبقاع. حصل ذلك بعد تردد وارتباك في الموقف بدأ منذ أن انفجرت أزمة الحركة الشيوعية في ثمانينات القرن الماضي، إلى أن جاءت الثورة لتعيدهم إلى موقعهم الطبيعي في صميم الحركة الشعبية، إلى موقع كنت قد ناديتهم إليه منذ اتفاق الطائف، ولهذا فإن حكاية انتظار الثورة تجعلني أنظر إليها وكأنها حققت لي حلماً شخصياً، لا بشعاراتها وأهدافها فحسب، بل باحتمالات الخروج من خيبة أمل يسارية واحتمالات ولادة يسار جديد، وذلك من باب الاعتقاد بأن اليسار حاجة وطنية، وبأن معيار اليسارية اليوم ليس بناء الاشتراكية بل الانخراط في في صفوف ثورة الجيل الجديد، لا بحثاً عن دور “طليعي”، بل من أجل إعادة بناء الوطن والدولة على أسس ديمقراطية. اليساري اليوم هو كل ثائر على الأرض اللبنانية ضد الاستبداد بكل وجوهه.
بعد سنوات قليلة على اتفاق الطائف، وفيما كنا نلملم خيباتنا الوطنية التي رمانا بها رفاق الخندق الواحد “الوطني القومي الإسلامي”، وفيما كان نهج الممانعة يملي على قيادة الحزب الشيوعي اللبناني التحالف مع مطلقي النار على صدور المقاومين أو في ظهورهم، علت صرخات الوجع داخل المجلس الوطني للحزب، وجاء الرد على الوجع في البيان القيادي القائل إن الحزب يقف في مواجهة “الحكم والحكومة والنظام”، ثم في مرافعات تؤكد على عمق التحالف في جبهة واحدة مع القوى المواجهة “للصهيونية والامبريالية والاستعمار”، أي مع الثنائي الشيعي في لبنان ومن خلفه النظام السوري وقوى أخرى، جبهة أطلقوا عليها إسم الممانعة.
كان ذلك البيان قد كتب، ومعه المرافعات، في أعقاب عدوان إسرائيلي واسع حصل عام 1993على مناطق الجنوب المحررة، استناداً إلى تقرير حزبي ورد فيه أن المقاومين أبلوا بلاء بطولياً في مواجهة قصف جوي دمّر، من بين ما دمّر، أحياء بكاملها في جباع والنبطية وكفرصير. بطولات المقاومة لا يرقى إليها شك، فهي التي أرغمت جيش العدو على الاندحار مذلولاً، لكن ذلك العدوان بالذات اقتصر على قصف جوي حيث لا حيلة للمقاومة بمواجهته. هذا يفسر كيف كان نهج النظام الأمني قد بدأ يتسلل إلى داخل الأطر النضالية، وكيف صارت التقارير تحرص على تقديم صورة كاذبة عن المشهد خارج الحزب ليحافظ كاتبها على رتبة قيادية، وقت لم تعد القيادة تملك للدفاع عن المقاومة الوطنية وحمايتها من المتربصين بها غير الإشادة بدورها والتغني ببطولاتها، لتحولها في وقت لاحق إلى مجرد ذكرى جميلة.
بدا التصويب على “الحكم والحكومة والنظام” مجرد “تكبير حجر” وهروب من مواجهة الحقيقة، حقيقة انعطافة كبرى في “حركة التحرر الوطني” قرر النافذون فيها حصر دور المقاومة بتحسين شروط التسوية وجعلوا مهمة التحرير تهمة يعاقب عليها المقاومون، ورأوا من الضروري، أمام إصرار الشيوعيين على التحرير، إلغاء دورهم في المقاومة وتقليصه في السياسة.
موقف القيادة ذاك شوش صورة القضية التي ناضل الشيوعيون، جيلاً بعد جيل، في سبيلها، وطرح أسئلة عن معنى الإصرار على التحالف مع من يعمل على تحجيم المقاومة وعلى تهديم مقومات الدولة. حين لم تجد هذه الأسئلة أجوبة مقنعة ظهرت أعراض تململ واعتراض على المضي في مدح المقاومة، رغم انتزاع رايتها من يد الشيوعيين وإبعادهم قسراً عن ساحتها، واعتراض على التحالف مع نظام الوصاية المصمّم، لاعلى وقف نشاط المقاومة الوطنية فحسب، بل على ملاحقة المقاومين وعلى تدمير مقومات الوطن والدولة في لبنان.
لاحظ رئيس المجلس الوطني، في ذلك الوقت، نديم عبد الصمد، أن وراء شكواي المتكررة في اجتماعات المجلس الوطني وجهة نظر هي أكثر من مجرد تعبير عن تذمر، ورأى أن يطرحها للنقاش في اجتماع يكون مخصصاً لهذه الغاية. حضر الاجتماع بضعة عشر عضواً من أصل تسعين، من بينهم عضوان في المكتب السياسي، وتناولت في موضوع المحاضرة أزمة الديمقراطية في الممارسة السياسية، واقترحت فيه تجديداً في النظرية الحزبية على ضوء الانهيارات الكبرى الثلاثة في المعسكر الاشتراكي وحركة التحرر العربية والحركة الوطنية اللبنانية. نشر نص المحاضرة حينذاك في عددين من جريدة النهار بتاريخ 28-29/3/1995، ثم ضمنته لاحقاً في كتابي، اغتيال الدولة، تحت عنوان: أزمة الديمقراطية في مشروع الحريري وفي مشاريع المعارضة اليسارية. أجد من المفيد، بعد مضي ربع قرن على كتابة ذلك النص، أن أستعيد مقاطع طويلة منه أضعها بين أيدي جيل الثورة وفي متناول الراغبين بتأسيس يسار جديد أو بتجديد اليسار.
في أزمة الديمقراطية.
“الكلام على الديمقراطية يحيلنا إلى مرجعيتها، أي إلى النظام الرأسمالي الذي أطلقها بديلاً عن أشكال الارستقراطية في أنظمة كانت قائمة قبل ثورة 1789 الفرنسية.
لم ينحصر معنى الديمقراطية بمدلولها القاموسي، أي سيادة الشعب، بل اغتنت هذه العبارة بمضامين عديدة، على امتداد القرنين السابقين، فارتبطت ارتباطاً وثيقاً بحقوق الإنسان، وبالحريات العامة، ثم جاءت الحركات الاشتراكية والثورة البلشفية لتضيف إليها بعداً اقتصادياً، أي شرطا من شروط التوزيع العادل للثروة، فكانت المعادلة التالية: الديمقراطية السياسية توزيع عادل للسلطة، والديمقراطية الاقتصادية توزيع عادل للثروة.
…أدى التأويل الميكانيكي والتفسير السطحي للمقولة الماركسية القائلة بأولية العامل الاقتصادي إلى نزعة اقتصادوية … كما أن سقوط التجربة الاشتراكية حصل نتيجة جملة من الأسباب، على رأسها وفي طليعتها غياب الديمقراطية السياسية. على ضوء هذه المقدمة،هل يمكن الحديث عن بعد سياسي في مشروع رفيق الحريري؟ وبالتالي هل هناك هم ديمقراطي في مشروعه وفي مشروع الحزب الشيوعي؟
يحدد الحريري خطته في مجالين أساسيين: “الأول هو تمتين وحدتنا الداخلية وتحصينها بكل ما يفترض ذلك من عناصر لتعطيل الانقسامات بين اللبنانيين بغية التوصل إلى الصيغة المثلى لوفاقنا، والثاني هو بناء مؤسساتنا في الدولة أولاً وفي القطاعات الحيوية والإنتاجية، والعمل، ليس فقط على إعادة بناء ما تهدم، بل إعداد لبنان لمواجهة تحديين: “مواكبة ركب التطور للدول المتقدمة ومواجهة متطلبات المرحلة المقبلة” (وهو يعني بالمرحلة المقبلة مرحلة ما بعد اتفاقات السلام في الشرق الأوسط). هذا الكلام للرئيس الحريري ورد في لقاء المدرسة المركزية – جونية، بتاريخ 14 شباط 1994، الصحف.
لا يختلف اثنان حول صحة هذا الكلام ولا حول أهميته. فالخطاب السياسي الراهن، أيا كان صاحبه، يحمل هذه الهموم، بعناوينها الكبرى: إعادة بناء لبنان المهدم بفعل الحرب، إعادة بناء البنية التحتية، إعادة بناء الدولة، بناء أسس للتقدم والتطور، في القطاعات الحيوية والإنتاجية، ومواجهة الاستحقاقات الإقليمية المقبلة، الخ…
غير أن هذا المشروع بعناوينه الكبرى يواجه مأزقاً، هو مأزق الساعين إلى تحقيقه والمؤيدين له ممن هم في السلطة السياسية أو خارجها على حد سواء، الذين لم يحسنوا القبض على الحلقة المركزية فيه وعلى نقطة الانطلاق من أجل وضعه موضع التنفيذ.
الموافقة اللفظية على هذا البرنامج هي موضع إجماع القوى السياسية اللبنانية دون استثناء، إلا أن الانخراط العملي في تنفيذه مرتبط بمصالح هذه القوى أولاً وبالأسس الأيديولوجية والنظرية التي يقوم عليها خطابهم السياسي، ولهذا فإن مصالح عدد منها تتعارض مع هذا البرنامج حتى ولو تظاهرات أو أظهرت حرصها عليه في بياناتها وخطب ممثليها ومواقف هيئاتها، بحيث تبدو غير معنية بمأزق البرنامج، ولا بالبحث عن حلول له أوعن مخارج ، بقدر ما هي سعيدة بتعمق هذا المأزق.
من بين هذه القوى أيضاً القوى الديماغوجية التي تحسن “تكبير الكلام” وتلميع الشعارات البراقة، وهي في حقيقة مواقفها ترمي إلى الحفاظ على مصالحها الضيقة السياسية منها والاقتصادية، فتمتطي صهوة الغرائز “الوطنية” أو المذهبية أو المناطقية فيتوهج كلامها بينما تنحدر ممارساتها دون أن يعتري مواقفها أي تناقض ظاهري.
ومن بينها أيضاً تلك التي تأتلف مصالحها المباشرة مع قيام دولة القانون والمؤسسات فتستفيد من موقعها في السلطة وتجعل نفسها فوق القانون، أو من موقعها خارج السلطة فتعتدي على القانون وتمضي في ذلك أملاً منها بتهديم أسس الدولة وقيام دولة أخرى تعتبرها دولتها هي (دولة اشتراكية، دولة إسلامية، دولة قومية، دولة انفصالية، الخ… هذا على الأقل في اللاوعي السياسي لممارساتها).
إذا لم يكن المأزق مأزق هؤلاء، فهو مأزق من إذن؟ إنه مأزق أصحاب المصلحة في تنفيذه، وأعني بهم الأغلبية الساحقة من الشعب اللبناني، الذين يتجلى مأزقهم في عجزهم عن بلورة أطر تمثيلهم السياسي ويرزحون تحت أثقال التمثيل الطائفي والمذهبي، إلا أن عجز الأحزاب السياسية عن قراءة تجربة الحرب وما سبقها قراءة نقدية هو الذي يفاقم المأزق ويجعل قضية التمثيل الشعبي أزمة يتحمل مسؤوليتها المعنيون بالتمثيل الشعبي قبل سواهم، أعني بهم الأحزاب عموماً، وأحزاب التغيير التقدمية اليسارية على وجه الخصوص، وبوجه أخص منها الحزب الشيوعي اللبناني ومرد هذا التخصيص، في نظرنا، هو أن الحزب الشيوعي قد ظل وحده ، بفعل الصدف والتوازنات السياسية، في منأى عن التباسات العلاقة بين الحزب والسلطة. أما سائر الأحزاب الأخرى المتحدرة من مشروع الحركة الوطنية اللبنانية فهي في مكان آخر من النقاش، غارقة إما في “الطمأنينة” العميقة لصحة برامجها ومواقفها، بدليل وصولها إلى السلطة، إما في الذهول مما حل ويحل بوطننا وأمتنا وفي عدم القدرة، بالتالي، على الاستيقاظ.
مأزق مشروع الحريري يكمن في كون أصحاب المصلحة في تحقيقه، ممن هم في السلطة أو خارجها على حد سواء، يرتكبون خطأين قاتلين: الأول هو أنهم ينطلقون من الاقتصاد لإنجاز مهمة التنمية الشاملة أما ممثلو رأس المال فلأنهم يستسلمون لمنطق رأس المال ذاته الذي لا حياة له من دون استثمارات وأرباح وتراكم، أما المعارضة عموماً واليسارية خصوصاً فلأن بينها وبين رأس المال خصومة تملي عليها أن تبدأ معارضتها انطلاقاً من محاربة جشعه.
الخطأ الثاني هو أنهم يضعون قائمة من العناوين التفصيلية لهذه التنمية “العصية”، التي تتساوى فيها جميع المهمات وتغيب فيها بالتالي أية أولوية. فالنهوض الاقتصادي والوفاق الوطني، وإعادة إعمار البنية التحتية وإلغاء الطائفية السياسية وتحرير الأرض من الاحتلال وغيرها وغيرها مهمات على المستوى ذاته من الأولوية، ومن السهولة بمكان صياغة الفذلكات السياسية والقانونية والبرنامجية من جانب السلطة، كما المعارضة، للتدليل على ذلك.
إنهما خطآن قاتلان. دليلنا على ذلك تاريخ تكون النظام الرأسمالي ذاته، وتاريخ لبنان، وتاريخ اليسار. فالرأسمالية، كنظام اقتصادي، قامت في هولندا وفي بريطانيا على الأقل، قبل أن تقوم في فرنسا. إلا أن ولادة الرأسمالية رسمياً، أو تتويجها رسمياً مرتبط بالثورة الفرنسية عام 1789، لا بثورة كرومويل الاقتصادية في انكلترا قبلها بمئة عام. يعني ذلك أن الرأسمالية مرتبطة بتشييد السلطة السياسية للرأسمالية لا بسيطرة علاقات رأسمالية على الصعيد الاقتصادي فحسب.
أما في لبنان فبإمكاننا الاستعانة بما توصل إليه فؤاد شهاب حيث قال:
“إن المؤسسات السياسية اللبنانية والأصول التقليدية المتبعة في العمل السياسي لم تعد، في اعتقادي، تشكل أداة صالحة للنهوض بلبنان وفقاً لما تفرضه الستينات في جميع الميادين… إن الغاية هي الوصول إلى تركيز ديمقراطية برلمانية صحيحة ومستقرة، وإلى إلغاء الاحتكارات بتوفير العيش الكريم والحياة الفضلى للبنانيين في إطار نظام اقتصادي حر سليم يتيح سبل العمل وتكافؤ الفرص”. هذا في الستينات. فكيف بعد أن انحدرت في التسعينات المؤسسات السياسية اللبنانية وآليات العمل السياسي إلى دركها المذهبي؟!
هكذا اكتشف فؤاد شهاب، قبل ثلاثين عاماً، أن عوائق قيام “نظام اقتصادي حر سليم” كامنة أولاً في بنية السلطة السياسية. وأن حل المأزق يبدأ من السياسة لا من غيرها.
أما تاريخ اليسار فمليء بالدروس: إذا كانت سلطة الشعب وسيلة أو سبيلاً لتغيير نمط الإنتاج الاقتصادي (من الرأسمالية إلى الاشتراكية في تجربة لينين مثلاً، أو من الإقطاعية إلى الرأسمالية في تجربة الثورة الفرنسية) فإن السلطة السياسية هي التي تحدد مدى نجاح هذا النمط من الإنتاج أو غيره ومدى تماسكه واستمراره. أي، بعبارة أخرى، إن أية خطة اقتصادية هي رهن، في نجاحها أو عدمه، للبنية السياسية التي تحكمها وتوجههها.
مأزق الحريري في مشروع الحريري
بصرف النظر عن الملاحظات الجوهرية التي يبديها البعض على تفاصيل مشروع الحريري، لا سيما بجانبه الاقتصادي (المديونية الخارجية)، فإن الصعوبات التي تعترض هذا المشروع تكمن أولاً في كونه لم يوفر لنفسه عناصر قوته السياسية. وإذا كانت تجربة فؤاد شهاب مماثلة، بهذا المعنى، لتجربة الحريري، فإن الشهابية وجدت نفسها مضطرة للجوء إلى قوة الجيش، وهو ما يدفع بعض المراقبين إلى التخوف من تحويل التجربة الحريرية إلى تجربة شهابية بسبب حاجتها لمراكز قوى تدعم مشروعها. غير أن هذا التخوف يعني، من جملة ما يعنيه، إقراراً صريحاً بأن أركان السلطة السياسية القائمة لا تدعم هذا المشروع، بل هي تسعى، فوق ذلك، إلى تعطيله من داخله، فتمارس عليه كل أشكال الضغوط والاعتراضات.
المأزق، في نظرنا، يكمن في أن صاحب المشروع استند، في تنفيذ مشروعه إلى قوى ليست صاحبة المصلحة في تنفيذه. فمن نافل القول إن زيادة الاستثمارات والتوظيفات، في ظل الآلية الراهنة لممارسة اللعبة السياسية اللبنانية، لا تؤدي إلى تراكم يستفيد منه الاقتصاد الوطني، بل إلى تراكم تسعى قوى في السلطة إلى تقاسمه على أساس نوع من “التشبيح” الاقتصادي والمالي بدل توزيعه ضمن خطة تنمية شاملة متوازنة بين المناطق وبين القطاعات.
تتفاقم هذه الأزمة في ظل تخوف الطبقة الرأسمالية اللبنانية من عدم الاستقرار النسبي المرتبط باستمرار الاحتلال الإسرائيلي، وباستمرار بقايا النهج الميليشياوي بعد اتفاق الطائف، وتخوف الرساميل المتوسطة والصغيرة من الدخول في معترك المنافسة مع الرساميل العملاقة التي يقف وراءها مشروع الحريري، الأمر الذي يحرم هذا المشروع من الدعم الضروري واللازم من جانب الطبقة الرأسمالية.
لا الطبقة السياسية ولا الطبقة الرأسمالية تقفان وراء المشروع ولا هما تدعمانه (الرساميل اللبنانية ما تزال في غالبيتها خارج لبنان) لهذا ينحصر دعم المشروع بتوازنات خارجية وبالجانب “الأخلاقي” الذي تجسده مسلكية الحريري الشخصية ومؤسساته الخيرية والتعليمية التي توزع المساعدات بحساب أو من غير حساب، وهذا الشكل من الدعم معرض للانهيار عند أول مفترق سياسي إقليمي يدفع المشروع إلى ارتداد نحو خطوط دفاعه الأخلاقية، والأخلاق بنية واهية ومحتقرة في اللعبة السياسية اللبنانية.
كما تتفاقم هذه الأزمة أيضاً في رضوخ مشروع الحريري لموازين القوى السياسية (لأنها تعارض مشروعه، ولأنه بحاجة إليها أو لأنها مفروضة عليه) والدخول معها في مساومات لغير صالحه الأمر الذي أفقد مشروعه الزخم الذي يحمله، وذلك منذ لحظة قرارات التعيينات الإدارية التي نجت دفعتها الأولى فحسب من خطر المساومات لتقع دفعاتها التالية في فخها اللعين. وتتالت المساومات (حصص ملوك الطوائف من ميزانية الدولة، وكان آخرها حصة معرض طرابلس الدولي).
منطق هذه المساومات معروف: موافقة القوى الأخرى على دعم المشروع جملة (وهذا مستبعد) أو دعم بند من بنوده أو منعطف من منعطافته مقابل حصة تقتطعها هذه القوى الداعمة أو تلك من جسم الدولة الإداري أو الاقتصادي أو المالي. وهكذا يجد مشروع الحريري نفسه كلما حصل على دعم جديد أو على تجديد دعم كلما قدم من جسمه الحي ثمناً لهذا الدعم، مما يجعلنا نتصور أن الدعم الشكلي لمشروع الحريري من جانب القوى الرسمية سيتم وسيتأمن لحظة يفقد المشروع محتواه ويموت. إذاك تخلو الساحة للقوى الداعمة التي تجد نفسها أمام مشروع ميت فتستحضر مشاريعها الحاضرة دائماً في ذاكرة الدولة الطائفية البعيدة، وفي الذاكرة الميليشياوية القريبة.
قوة المشروع الحريري وسواه من المشاريع تكمن في الحرص على الجانب السياسي قبل سواه من جوانب مشروع النهوض، وبالتحديد في الحرص على تأمين السلطة السياسية الملائمة لهذا المشروع، وهو ما لم يحصل عبر المساومات ولا يمكن له أن يحصل إلا عن طريق دور فاعل لسلطة الدولة العصرية، دولة المؤسسات وسيادة القانون. إذا لم توضع عملية إعادة بناء الدولة في رأس قائمة الأولويات من بنود خطة النهوض سيجد الحريري نفسه أمام عدد هائل من الرساميل الموضوعة الآن تحت تصرفه وإدارته، والآيلة غداً أو بعده إلى عهدة قوى لا يهمها من المشروع إلا توزيعه حصصاً على ذوي النفوذ في السلطة القائمة التي ليست هي سلطة الدولة بل سلطة المجموعات النافذة الناطقة شكلياً باسم الدولة والساعية فعلياً وعملياً إلى تقوض أسس بناء الدولة.
المشروع الحريري بحاجة إلى واحد من هذه العوامل أو إليها جميعاً لكي يرى سبيله للنجاة من المتضررين منه. إنه بحاجة إلى دعم من الجيش، (وهو دعم يحاط بالخشية ممن خبروا تجارب الجيوش في لبنان والمنطقة والعالم الثالث)، وإلى دعم الرأسمال الوطني، أو إلى دعم حركة شعبية تقودها أحزاب ذات امتداد ونفوذ جماهيريين (وهو دعم يحاط بالحذر من جانب الحريري ومن جانب الأحزاب اليسارية على السواء بسبب تراث الخصومة العميقة بين رأس المال والعمل) أو إلى دعم خارجي (وهو محاط بالحذر من جانب اللبنانيين جميعاً لأن الاستقواء بالعوامل الخارجية أمر محفوف بمخاطر الانقلاب على أصحابه)، أو هو بحاجة إلى قيام حزبه الخاص الذي لم يظهر حتى الآن أي مؤشر على قيامه. وحين ينجح مشروع الحريري في تأمين بعض هذه الدعائم تصبح الطريق مفتوحة أمامه لبناء سلطة سياسية تحميه، وإلا فمن المستحيل الكلام عن “مشروع” إذا كانت السلطة التي توجهه معادية له. وحين يتأمن حد أدنى من الوضوح في الجانب السياسي من المشروع يصبح نقاش الجانب الاقتصادي منه أمراً معقولاً وممكناً. إذن الإصلاح السياسي هو المدخل لحماية جميع المشاريع. هذا هو التحدي المطروح على مشروع الحريري وهذا هو مقتله إن لم يبادر إلى ولوجه.
مفتاح الحل في بناء الدولة العصرية هو سلطة القانون التي ينبغي أن تسود فلا تعلو فوقها سلطة (نذكر ما تناقلته الصحف غداة استقالة رئيس مجلس الخدمة المدنية حيث قيل من موقع الاستغراب: وهل تكون سلطة هذا الموظف فوق سلطة الرؤساء المسؤولين عنه في الحكومة؟!!) وجوابنا: نعم إن سلطة القانون الذي يمثله ويسعى إلى تطبيقه هي فوق سلطة من يضع القانون ومن يعين الموظف، بل ينبغي أن تكون كذلك… ولا يستغربن أهل السلطة!
سلطة القانون هي بالتأكيد سلطة الكفاءة وتكافؤ الفرص، وهي من باب أولى سلطة ديمقراطية مفقودة في وطننا. نقول ذلك من موقع اعترافنا بالهامش الواسع من الحريات، وبعمليات الانتخاب والاقتراع التي تمارس في بلدنا تجسيداً لقوانين اللعبة الديمقراطية. إلا أن الديمقراطية المتوفرة ليست جزءاً أصيلاً من بنية النظام السياسي المأمول بقدر ما هي مساحة لازمة للفصل بين منازعات ممثلي الطوائف، وهذا النوع من الديمقراطية هو الشرط الملازم لبقاء الطائفية، بينما يحتاج بلدنا إلى ديمقراطية تكون شرطاً لازماً لإلغاء الطائفية ولا سبيل إلى ذلك إلا بإصلاح النظام البرلماني أي كما يقول فؤاد شهاب، باتجاه “ديمقراطية برلمانية صحيحة ومستقرة”، أو كما يقول عدد كبير من القوى السياسية اللبنانية، باتجاه نظام برلماني، يكون فيه المجلس النيابي ممثلاً بصدق لقوى الشعب اللبناني، ممثلاً الأكثرية فيه كما للأقليات في ظل قانون يجعل لبنان كله دائرة انتخابية واحدة وتخاض فيه الانتخابات على قاعدة النسبية وعلى أساس برامج ولوائح، نظام تفصل فيه السلطات فصلاً فعلياً وتلغى كل أشكال التداخل، بما في ذلك بنية الترويكا، حتى يكون كل مسؤول مسؤولاً عما يقرره، وترفع فيه تدخلات السلطة السياسية في شؤون القضاء والإدارة والجيش إلا ضمن الأطر القانونية والدستورية.
مأزق المعارضات ومأزق الحزب الشيوعي
بعد دخول لبنان في الأزمة، قبيل اندلاع الحرب الأهلية وخلالها تبلورت قوى المعارضة وتحلقت في جبهة أطلقت على نفسها اسم “الحركة الوطنية اللبنانية” بقيادة كمال جنبلاط، ثم ما لبثت أن غابت بغيابه وتبعثر مشروعها فدخل جزء منه في ميثاق الطائف وأسدل الستار على جزء آخر.
بعد توقف الحرب الأهلية وجد لبنان نفسه أمام سلطة من غير معارضة فعلية، ما خلا بعض المشاكسات التي كانت تقوم بها قوى غير راضية عن قيام دولة / سلطة الطائف، حالمة بدولة أخرى (إسلامية أو مسيحية بعد تراجع المشاريع الأخرى) أو اعتراضات قوى استبعدت من هيكلية السلطة التشريعية أو السلطة التنفيذية، واستقرت المعارضة الفعلية مجسدة في مؤسسات المجتمع الأهلي الثقافية والنقابية، إلا أن هذه المعارضة كانت تحسن معرفة ما ترفضه وتعجز عن معرفة ما تريده وترضاه، أو عن صياغته في برنامج.
أما الأحزاب اليسارية فهي إما في سبات عميق، لأنها لم تقرأ تجربتها قراءة نقدية، كما لم تقرأ ما استجد من المعطيات النظرية والسياسية والاقتصادية على الصعيدين الداخلي والخارجي. طمأنينة بعض هذه الأحزاب ناجمة عن دخولها السلطة، أما البعض الآخر ومنه الحزب الشيوعي اللبناني فهو في غفلة مما يجري يتجاذبه الحنين إلى ماض مضى والرغبة في تجديد نفسه، وما يزال يغالب نفسه في مرحلة انتقالية مات فيها القديم ولم يتبلور الجديد بعد.
أزمة الحزب الشيوعي تكمن في كون الحزب مازال متمسكاً بتنظيمه ونظريته وبرنامجه، ولم يتمكن الصامدون في داخله من إعادة بعثه وبنائه، وما استمرارهم الراهن فيه إلا بقوة الزخم القديم، وهي قوة ذات أصول أخلاقية لا تكفي وحدها للحفاظ على هذه الاستمرارية، أو هي قوة ناجمة عن غياب البديل اليساري خارج الحزب الشيوعي.
برنامج الحزب القديم كان يقوم على معارضة جذرية لنظام الاقتصاد الحر تستهدف القضاء عليه واستبداله بنظام اشتراكي، أو كمرحلة أولى، بنظام وطني ديمقراطي يفسح في المجال أمام الانتقال إلى الاشتراكية. انطلاقاً من هذه النقطة المحورية كان الحزب يرسم عناوين برنامجه المتعددة ومفاصل خطته، ويصنف القوى السياسية ويوزعها على جبهتي الصراع الطبقي: جبهة أولى قطبها البرجوازية الكبرى ومعها البرجوازية الوسطى والتجار والإقطاع السياسي وجبهة ثانية قطبها الطبقة العاملة ومعها البرجوازية الصغرى والفلاحون والمثقفون الثوريون وقطاعات الشباب والطلاب والنساء الخ…
بعد انهيار المعسكر الاشتراكي وانهيار المشروع الوطني الذي حصل في غمرة هزيمة المشروع القومي العربي، وبعد اتفاق الطائف أضمر الحزب مشروعه الاشتراكي معلناً برنامجاً من أربع نقاط هي: تثبيت السلم الأهلي، القضية الوطنية وتعني تحرير الأرض الوطنية من الاحتلال وتعزيز السيادة والدفاع عن الاستقلال وتحقيق الوفاق الوطني، القضية الديمقراطية وتعني الدفاع عن الحريات العامة والنضال من أجل إلغاء الطائفية السياسية وقيام مجتمع مدني، قضية التقدم والعدالة الاجتماعية وفيها أعرب الحزب عن “اقتناعه بعدم جواز حرق مراحل التطور الاجتماعي التاريخية” (وثيقة المؤتمر السادس – ص 42) إلى جانب جملة من العناوين التفصيلية المتعلقة بالقضايا المطلبية وإنشاء الميثاق الاقتصادي – الاجتماعي. غير أن هذا الانكفاء الذي عبرت عنه عناوين البرنامج أرفق بتبرير خجول قوامه أن هذا البرنامج الجديد هو “اشتراكية من نوع جديد” مما يعني أن التراجع عن اعتبار الاشتراكية فكرة محورية ليس تراجعاً حاسماً.
في مؤتمره السابع أضاف الحزب إلى برنامجه نقطة توضيح، هي بمثابة انكفاء جديد عن الاشتراكية حيث تقول الوثيقة التحضيرية: “إن تناولنا لهذه العناوين لا بد أن يجري من ضمن منطق شامل تحكمه فكرة محورية هي ضرورة المحافظة على السلم الأهلي وبناء الدولة اللبنانية على أسس الديمقراطية والتنمية والعدالة الاجتماعية وتعزيز السيادة والاستقلال الوطني – السياسي والاقتصادي”.
الانكفاء عن الاشتراكية هو، في الحقيقة، نقطة تقدم باتجاه مزيد من الوضوح والتماسك في خطة الحزب. لكن الوثيقة سرعان ما تطيح بهذا الوضوح فتستند إلى فكرة محورية ذات رأسين: “بناء الدولة اللبنانية على أسس… وتثبيت السلم الأهلي”، وبما أن السلم الأهلي لا يمكن أن يستتب إلا بتحرير البلد من الاحتلال فالفكرة المحورية تنتقل من بناء الدولة إلى مقاومة الاحتلال.
باختصار، يمكن القول أن الحزب الشيوعي لا يزال يتصرف، وفي لا وعيه السياسي برنامجه القديم وفكرته المحورية، الاشتراكية، بينما يحاول، في ظروف لبنان الملموسة، أن يكون إلى جانب قيام دولة رأسمالية. فكيف يتصرف حزب الطبقة العاملة إذا كانت الدولة التي يناضل في سبيلها دولة البرجوازية الكبرى لا دولة دكتاتورية البروليتاريا؟ هذا هو المأزق النظري والسياسي الذي يقع فيه الحزب. التجاذب بين الاشتراكية الكامنة في اللاوعي السياسي وبين بناء الدولة الظاهر ظهوراً خجولاً في برنامج الحزب، هذا التجاذب يتجلى في ميل خطة الحزب إلى عملية تجميع سياسي قائمة أساساً على التحريض ضد “الحكم والحكومة والنظام” كما ورد في أحد تقارير المكتب السياسي السابقة، رغم دعوته الصريحة إلى “التمييز بين كيان الدولة والوطن وبين النظام والسلطة” ، ورغم حتمية تطور لبنان “في المستقبل المنظور ضمن إطار الرأسمالية حيث لا إمكانية للسير في مسار تطور اقتصادي اجتماعي مختلف”، وبناء عليه فإن النضال من أجل “الحد من توحش الاقتصاد الحر… لصالح سياسة اقتصادية (رأسمالية) أكثر عقلانية” ، يندرج في سياق دولة رأسمالية، لكن غير متوحشة، لا في سياق نمط اقتصادي اجتماعي مختلف.
كان مبرراً حسب هذا المنطق أن يحمل الحزب أدوات الهدم لتقويض أسس الدولة القائمة، بصفتها دولة رأسمالية، وذلك بالدخول في تنافس مع السلطة على قيادة الجماهير وانتزاع الحصانة الشعبية منها، أما وقد غدا، هو والحكومة، في موقع واحد، موقع النضال من أجل بناء دولة رأسمالية فإن الاختلاف بينه وبين السلطة لم يعد اختلافاً نوعياً ولا جوهرياً، بل هو اختلاف على التفاصيل، أي على القضايا الملموسة في قضية إعادة بناء الدولة، ولا شك أن الخلاف على التفاصيل كبير وكبير جداً، لكن المعيار في تحديد الفريق المنتصر بين المختلفين هو معيار البرنامج، والقوة التي لا تملك برنامجها لا تملك القدرة على المنافسة. وكم من قضية ملموسة ظهر الحزب فيها متخلفاً عن مجابهة الأخطاء والثغرات في ممارسات السلطة وبرامجها (سوليدير، خطة النهوض الاقتصادي، السياسة الضرائبية)، مكتفياً بمواقف يعلنها المكتب السياسي للحزب غير مقنعة في غالب الأحيان، حتى لقواعده.
حين كان الحزب قابضاً على فكرة محورية، أي على نقطة توهج، هي الاشتراكية في برنامجه السابق، كان يوفر لبرنامجه عناصر التماسك. ذلك أن نقطة التوهج هذه هي التي تضيء عناوين البرنامج الأخرى، وإليها تعود وفيها تصب كل روافد المهمات النضالية السياسية والاقتصادية والمطلبية والأيديولوجية. في غياب نقطة التوهج هذه تفقد العناوين العديدة، وهي بالعشرات، عنصر تماسكها، وتغدو مجرد رصف لمطالب لا تؤول إلى شيء محدد ولا تصب في نقطة محددة، ويغدو البرنامج مراكمة كمية لجملة من القضايا التي يتساوى فيها الحزب مع غيره. فمن من القوى السياسية، على اختلافها، لا يرفع شعارات المقاومة وتحرير الأرض وحماية الديموقراطية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان وغير ذلك مما تنطوي عليه شعارات الحزب العامة أو التفصيلية؟
على الحزب إذن، إذا كان مقتنعاً بأن الاشتراكية لم تعد شعاراً قابلاً للتحقيق في المدى المنظور، وبأنها عملية طويلة معقدة، أو سيرورة تاريخية، عليه أن يحسم خياره النظري والسياسي ويحدد نقطة توهج جديدة تؤمن تماسك برنامجه ولائحة مطالبه ونقترح أن تكون نقطة التوهج هذه، أو الفكرة المحورية، هي قضية بناء الدولة على الأسس التي حددتها وثيقة المؤتمر السابع: دولة عصرية، ديموقراطية، دولة القانون وتكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية، مع ما يترتب على ذلك من حسم خيارات نظرية وإعادة قراءة للتناقضات بحيث يعاد الاعتبار لحقيقة كون التناقضات الداخلية هي الأساس في بناء النظرية السياسية للحزب، بدل النظر إلى العنصر الداخلي من زاوية التناقضات الخارجية.
عامل آخر ساهم في أزمة برنامج الحزب هو وقوعه في الاقتصادية، وهو الخطأ إياه الذي وقع فيه مشروع الحريري. فحين يركز برنامج الحزب على الجانب الاقتصادي المطلبي يتحول إلى حركة نقابية فحسب، في حين أن الحركة المطلبية النقابية ليست سوى رافد من روافد البرنامج.
حين تصبح عملية إعادة بناء الدولة هي نقطة التوهج التي يتمحور حولها البرنامج يغدو ممكناً أن يستقر الحزب على تحالفات جديدة، يحددها موقف القوى الأخرى من هذه القضية، ونعتقد أن النضال في سبيل هذه القضية سيعيد فرز القوى بين أنصار بناء الدولة وأعدائه، على أن أنصاره هم الأغلبية الساحقة من القوى المتنورة، من المثقفين، من القوى الديمقراطية، والقوى العلمانية، وأهل الكفاءة في أجهزة الدولة والقضاء والجيش والجامعة اللبنانية ومؤسسات الرقابة، الرأسمال المتنور الذي يرى مصلحته الفعلية في توحيد البلد أو المجتمع على أسس عصرية تضمن له وحدة السوق وحرية الحركة، فضلاً عن القوى المسحوقة اجتماعياً التي تجعلها بنية النظام الطائفي وقوداً لها في الحرب كما في السلم. أما أعداء بناء الدولة فمنهم داخل السلطة ومنهم خارجها ممن يتمسكون بالبنى الطائفية و المذهبية. إنهم فحسب القوى التي تستشعر الخطر على مصالحها في بناء دولة القانون. القوى التي تعتدي على القانون، من داخل السلطة، فتسخره لمصالحها وتجعل نفسها فوقه. القوى التي توزع سلطة الدولة على سلطات رديفة من خارج الدولة في الطوائف والميليشيات. القوى التي تتماهى في الدولة وتصور للمجتمع أن السلطة هي الدولة والدولة هي السلطة. القوى التي تخلط بين ثروتها الخاصة والثروة العامة فتوزع خزينة الدولة على قياس مصالحها، الخ…
بناء الدولة وترسيخ سلطة القانون على الجميع، بمن في ذلك أهل السلطة، شعار واقعي ممكن التحقيق. وبتحقيقه تلغى الطائفية السياسية تلقائياً ويتحقق شعار فصل السلطات وعدم تسلط السلطة السياسية على أجهزة الأمن والجيش والقضاء والإدارة وغير ذلك مما اعتادت السلطات أن تتسلط عليه، وتحته تندرج قضايا التحرير وبسط سلطة الدولة على كل الأراضي اللبنانية، وعليه تقاس مصداقية القوى المختلفة في مواقفها من تطوير الوطن في بنيته السياسية وفي نظامه الاجتماعي، وعليه أيضاً تبنى معارضة صحيحة قادرة على تجميع أوسع القوى حول برامج واضحة، وينهض العمل الحزبي وتستعيد الحياة السياسية عافيتها. المشكلة الوحيدة التي تواجه هذا الشعار هي التالية:
كيف يكون الحزب الشيوعي مع بناء الدولة الرأسمالية، وكيف السبيل إلى أن تكون هذه الدولة دولته، في حين أن عليه أن يناضل ضد توحش رأس المال؟ بتعبير آخر: كيف يمكن للحزب أن يكون مناصراً لقيام سلطة سياسية رأسمالية ومعارضاً لنزوع رأس المال إلى إفقار الفئات المسحوقة وإغناء الفئات الغنية؟ إنه التحدي الذي واجهته اللينينية غداة وصولها إلى السلطة في ما أسمي يومذاك بسياسة “النيب”. لقد واجهته وهي في موقع السلطة، فكيف تواجهه القوى التقدمية من خارج السلطة؟ (جريدة النهار 28-29/3/1995 )
ربع قرن من عمر الحزب ضاع.. من ربع قرن كنا قد اقترحنا على الحزب في تلك المحاضرة، وكان ذلك بعد انهيار التجربة الاشتراكية وحركة التحرر الوطني العربية(شاركت في الهجوم”الإمبريالي” على العراق، والحركة الوطنية اللبنانية(استبعدت من اتفاق الطائف) “أن تكون نقطة التوهج الجديدة أو الفكرة المحورية في برنامج الحزب أو عموده الفقري، هي قضية إعادة بناء الوطن والدولة، مستندين في ذلك إلى اقتناعنا بأن الخروج من الحرب الأهلية يستوجب إعادة بناء الوحدة الوطنية من داخل التنوع اللبناني، وهو ما لا يمكن تحقيقه إلا من خلال دولة هي دولة القانون والمؤسسات والكفاءة وتكافؤ الفرص والديمقراطية وتداول السلطة. ذلك يتطلب قبل كل شيء تغليب المصلحة الوطنية اللبنانية على مصالح القوى الخارجية، صديقة كانت أم عدوة. لكن أن تأتي متأخراً خير من ألا تأتي أبداً.
بدا شعار “الدولة هي الحل”، في حينه بمثابة سباحة عكس التيار. مع ذلك ركبنا موجة الخطر ورحنا نروج له على كل المنابر المتاحة من شمال لبنان إلى جنوبه، فأصدرنا نصاً حزبياً باسم قيادة الجنوب في الحزب الشيوعي اللبناني، طبعته قيادة الحزب ثم ندمت على فعلتها، ثم جعلناه محور البرنامج السياسي في الحملات الانتخابية في أعوام 1996 و2000، و2005 و2009 مع لائحة الخيار الديمقراطي التي كان يرئسها المناضل حبيب صادق، ثم في ترشحي منفرداً عن دائرة النبطية، لنفضح من خلاله ممارسات أهل السلطة الممعنين بتخريب مؤسسات الدولة، فيما كانت قيادة الحزب الشيوعي على الجبهة الأخرى تسعى إلى الحصول على مقعد نيابي بالتعاون مع لوائح السلطة.
غير أن الوعي الشعبي بأهمية الدولة والوحدة الوطنية ولاسيما بعد اندحار القوات الإسرائيلية وخروج القوات السورية، راح يتعزز رغم أن الشيعية السياسية وظفت اغتيال الرئيس الحريري في عملية شحن مذهبي، وتعاونت مع القوى الأخرى على إدارة شؤون البلد بآليات ميليشيوية، ضاربين عرض الحائط كل مبادئ الشفافية والكفاءة وتكافؤ الفرص، فضلاً عن تدميرهم أسس النظام البرلماني الديمقراطي بقضائهم على مبدأ الفصل بين السلطات، وتدخلهم الفض في شؤون القضاء وتحويله من سلطة إلى جهاز إداري، واعتمادهم المحاصصة في السيطرة على أجهزة الدولة وفي نهب المال العام، وتعميم الفساد والتراشق فيما بينهم بلغة سوقية، والتضييق على الحريات، الخ.
ظاهرياً كانت قوى السلطة تعلن انتصارها على قوى اعتراضية مشتتة. فيما راح الذين قرأوا تجربة الحرب الأهلية بعين نقدية يغذون السير بحثاً عن أطر تجمعهم تحت راية الشعار: “الدولة هي الحل”. بذلنا في سبيل ذلك جهوداً للتجميع، لكننا فشلنا، لأننا كنا نجرجر وراءنا بعضاً من آثار تجربة الحرب، فيما تحتاج مهمتنا إلى آليات لبناء السلم. لم نيأس، عقدنا لقاءات في كل المناطق اللبنانية من صور إلى حلبا في عكار وفي الجبل وفي البقاع وأنشأنا أطراً تجمّع فيها العشرات من المناضلين الحزبيين وقدامى الضباط في الجيش اللبناني والعشرات من مؤسسات المجتمع المدني، و كان كل واحد من مئات الاجتماعات ناجحاً في حد ذاته لكننا فشلنا في توحيد تلك الأطر داخل جبهة عريضة في مواجهة نهج السلطة.
غير أن نهج السلطة الميليشيوي كان يحفر قبره بيديه، إذ راح يولد من رحم المعاناة جيل جديد تعمق وعيه بأهمية الوحدة الوطنية وبضروة إعادة بناء الدولة على أساس احترام الدستور والقوانين، وتراكم إحساسه بالقهر والاستبداد الذي كانت تمارسه قوى السلطة، تارة باسم الطائفية وأخرى باسم القضية القومية وثالثة باسم الصراع مع الكيان الصهيوني، فكان لا بد من أن تنفجر جماهير الشعب اللبناني في السابع عشر من تشرين الأول، لتعلن ثورتها في إطار الربيع العربي، ثورة غاب عن شعاراتها الصراع مع الإمبريالية والصهيونية والاستعمار، وتركز برنامجها على إسقاط سلطة الميليشيات وقيام دولة القانون والمؤسسات. نعم هي الثورة أتت لا تحمل سياطاً ولا رصاصاً، سلاحها الوحيد رغبة وعزيمة وإرادة حرة، وحناجر تنشد الحرية والدولة والقانون وتنادي باستبدال رجال السياسة الفاسدين المفسدين برجال دولة.
هي الثورة محمولة على أكتاف جيل الشباب الذي تعلم الدرس الأهم من دروس الحرب الأهلية، من غير أن يخوضها، درس الوحدة الوطنية التي فرطت بها الأجيال السابقة. امتلأت الساحات بشباب وصبايا كنا نرميهم بالعبثية وبعدم الاهتمام بالشأن الوطني، وإذا بهم يكتنزون إلى جانب العلم والمعرفة شعوراً بالانتماء الوطني خالياً من أمراض الطائفية والمذهبية والعنصرية. بعد ربع قرن، انبرى جيل الشباب يحمل الراية ويمضي بها واثق الخطى راسخ العزيمة عميق الإيمان بالوطن. كتب عنهم سمير عطالله قائلاً:
“الذي وحّد هؤلاء البشر هو شعورهم بالغربة على أرضهم. طبقة سياسية لا تتحدث لغتهم، ولا احساس لها بحقوقهم، ولا مشاعر لديها بأي شيء. طبقة متشابكة بينها، متفائلة في ما بينها، متواطئة في ما بينها، حول سمسرات واحدة، براً وبحراً وجواً وسدوداً تحصد شجر لبنان وبقايا خضرته ودمعة حياته. للمرة الأولى منذ مجاعة الحرب الكبرى حكى اللبناني عن الجوع. لكن الجوع ليس إهانة، ولا ذلاً. الذل ان يلتفت السياسيون حولهم ليبحثوا عن المزيد في خزائنه الخاوية. لولا هذه الوقاحة واللجاجة واللحاحة التي لا سابقة لها، لما كان هذا الخروج الذي لا سابق له، على رموز التهافت والانهيار”.
قيل عن الثورة إنها انتفاضة، وإنها مؤامرة على العهد وعلى جبهة الممانعة، وقيل إن أهل السلطة جميعاً (كلهم يعني كلهم) يتحملون مسؤولية وصول البلاد إلى حافة الانفجار، وقيل إنها أبهى صور الصراع الطبقي بين الفقراء والأغنياء. وتبارى خبراء الاقتصاد في تقديم حلول، وهتافو المظاهرات في صياغة الشعارات، والقادة الافتراضيون في التعبئة ملء الساحات والشوارع، فيما راح المئات يطلب كل منهم ما حرمتهم السلطة منه، فرص عمل لبعضهم، ومطالب مزمنة في الضمان الصحي والجندرة وغيرها لآخرين والتنديد بجور المحاكم الدينية، وحصل سباق بين الثائرين والمندسين وأعداء الثورة، فظهرت الدراجات النارية على مداخل ساحتي الشهداء ورياض الصلح كنسخة لبنانية عن موكب الإبل في ساحات القاهرة، وارتفعت أصوات الهجاء أو المديح كل بزعيمه، وأصوات الإشادة بدور الجيش اللبناني في حماية المتظاهرين.
كل ما قيل صحيح لكنه لا يقول كل الحقيقة ، بل إن بعضه يموّهها ويخفيها. من الطبيعي أن يدرك العهد ومعه قوى الممانعة، من غير لبس ولا إبهام، أن الثورة قامت ضدهم، لكنها، خلافاً لأقوالهم، لم تلبس لبوس مؤامرة لأنها انفجرت في العلن وأمام كل وسائل الإعلام المتاحة، بوجوه مكشوفة من غير أقنعة. ومن الطبيعي أن ينفجر غضب الثوار ضد نهج الحكم في إدارة شؤون البلاد في وجه السلطة بكل رموزها، لكن أشكال التعبير عن الغضب تشي بأسباب الأزمة ولا تفصح عنها، وهنا بالضبط يكمن سر التباين والتفاوت والتعارض والتناقض في قراءة الأحداث وفي صياغة الحلول من جانب أهل الثورة. هنا يكمن شيطان التفاصيل.
إجماع على وجود أزمة. لكن الأزمة لم تتبع مساراً خطياً واحداً ولا كانت تجلياتها واحدة في جميع مراحلها، ويعود ذلك إلى أنها ما قبل اغتيال الحريري تختلف اختلافاً جوهرياً عما بعده. قبله كان نظام الوصاية مسؤولاً عن تدمير ركائز الدولة والديمقراطية وبعده تولى اللبنانيون بأنفسهم مهمة التدمير. الانتفاضة الأولى الآذارية اتخذت شكل تحرر وطني من سيطرة خارجية أما الثانية فقد ارتقت من انتفاضة مسدودة الآفاق إلى ثورة محملة بالآمال لأنها نشدت تغيير أسس النظام السياسي. قد يساعد هذا التمييز على تفسير تسمية الأولى انتفاضة والثانية ثورة ، كما على تفسير الانقلاب المفاجئ في موقف الحزب الشيوعي، من محجم عن الانتفاضة إلى منخرط في الثورة، كما أن هذا التمييز ضروري لمساعدة الثورة على رسم خارطة طريق واضحة وسليمة وإيصالها إلى خواتيمها السعيدة، انطلاقاً من الملاحظات التالية:
أولاً: انتفاضة آذار 2005 انطوت على مضمون تحرري ولهذا سميت انتفاضة الاستقلال. غير أن هذا المضمون حمل دلالات متناقضة، بسبب كونه متحدراً من نظرية حركة التحرر الوطني من الاستعمار الغربي الرأسمالي، وهي نظرية تخص قوى اليسار والقوى الممانعة بقيادة النظام السوري، لكن، لا أهل الانتفاضة كانوا جزءاً من حركة التحرر ولا هم نجحوا في تأمين إجماع لبناني على اعتبار النظام السوري استعماراً أو على المساواة بين تدخل الشقيق وتدخل العدو في الشأن اللبناني. ربما شكل ذلك ذريعة نظرية، فضلاً عن أسباب أخرى، لعدم انخراط الحزب الشيوعي فيها ولمواجهتها، لكنه شكل سبباً مؤكداً على أن الانتفاضة مضت في غير طريقها الصحيح، ولا سيما بعد اتفاق فريقي الصراع اللبناني على إعادة تقاسم السلطة بمحاصصات تعكس موازين القوى المحلية والإقليمية، وعلى إدارة شؤون الدولة بمنطق الميليشيات لا بمنطق الدستور والقوانين.
ثانياً: عثر الحزب الشيوعي في ثورة 17 تشرين على ما افتقدته انتفاضة الاستقلال، ولاسيما بعد أن رُفعت شعارات ومطالب شعبية ذات طابع اجتماعي ومعيشي عززت يقينياته الطبقية، وبعد أن تعممت الاحتجاجات مخترقة كل الحواجز الجغرافية والطائفية والمذهبية التي أقامتها الدويلات الميليشيوية، فيما اقتصرت شعارات الأولى على المطالبة بخروج الجيش السوري. فما أن تناهى إلى سمع الشيوعيين تصويب على الدولة الطائفية وعلى الفساد المالي وعلى السياسة الضرائبية، حتى اكتشفوا أن جلباب الممانعة لا يصلح لباساً لهذه المصطلحات المتحدرة من قاموس ثورة “طال انتظارها”، وبدت علاقتهم بها كعلاقة الماغوط أيضاً بقلمه،” الذي يشم رائحة الحبر كما يشم الذكر راحة الأنثى… ما أن يرى صفحة بيضاء حتى يرتجف كاللص أمام نافذة مفتوحة”.
ثالثاً: التفسير الطبقي يركز على أن الثورة انفجرت لأسباب اجتماعية اقتصادية، ويضاف إلى تفسيرات أخرى تركز على الأسباب السياسية. هذا جزء من التنوع الذي احتضنته شعارات الثورة. غير أنه يستحيل على هذا التفسير المضي إلى نهاياته المنطقية، إي إلى رفع شعار “الاشتراكية هي الحل”، ولاسيما أن ثورات الربيع العربي، ومنها لبنان، أجمعت على أن الحل يبدأ بسن دستور على أساسه يتم العمل بإعادة تشكيل السلطة السياسية . لذلك بدا كأن الشعارات التي رفعها اليساريون، استناداً إلى التفسير الطبقي، لا تتناغم مع أهداف الثورة في أمرين اثنين: التصويب على رأس المال المتوحش بدل التصويب على الفساد والإفساد وسرقة المال العام، والمطالبة بحكومة تدعم المقاومة وتواجه أميركا وإسرائيل، استجابة لمهمات التحرر الوطني، بديلاً من مهمات قيام دولة القانون والمؤسسات. إن الإصرار على التمايز وعدم التناغم قد يهدد بتبديد الفرصة التي أعادت الشيوعيين إلى موقعهم الطبيعي في قلب الحركة الشعبية، وأعادت توحيد صفوفهم داخل الساحات وفي المظاهرات والاعتصامات، كخطوة على طريق توحيد صفوفهم داخل الحزب.
رابعاً: اليسار عنصر ضروري لنجاح الثورة، لكن بمضمون جديد وبرنامج جديد. فقد اختلط حابل اليسار بنابل اليمين بعد انهيارالتجربة الاشتراكية والاتحاد السوفياتي والثنائية القطبية في الصراع على الصعيد العالمي، ولم يعد الانتقال إلى الاشتراكية هو سمة العصر، بحسب القاموس السوفياتي، وصار اليساري هو من يناضل من أجل بناء دولة القانون والمؤسسات لا من أجل بناء الاشتراكية، من غير أن يفقد حقه في التفكير بإعادة الاعتبار لفكرة الاشتراكية أو لابتكار أي شكل من العدالة الاجتماعية مستلهم من تلك الفكرة. على أن يترافق تعديل البرنامج بتعديل الدور والإطار. لقد حققت وسائل التواصل الاجتماعي نقلة نوعية في تنظيم العلاقات والاجتماعات والمظاهرات والاحتجاجات، وخلقت بدائل عن القيادة التقليدية ممثلة بأمين عام أو رئيس ومكتب سياسي، وصار تعميم الموقف نتيجة منطقية لتعميم المعلومة والوعي، وصار المكان الإلكتروني بديلاً من المكان الجغرافي لاتخاذ القرار.
خامساً: في كل ثورة صرخات وجع وشعارات ومطالب متنوعة ومتعددة ، وفيها سعي وبحث عن حلول، غير أن عدم التمييز بين أسباب المرض السياسية وأعراضه الاجتماعية قد يؤدي إلى تشويه الوعي وتشتيت الجهود وشق الصفوف. لذلك يبدو من الطبيعي والضروري أن تحتضن الثورة هذا التنوع، وأن تسعى، في الوقت ذاته، إلى توضيح الرؤيا وتوحيد الأهداف أمام جمهورها. في الحالة اللبنانية يحتاج الأمر إلى التنبه من مغبة الوقوع في شعبوية المطالب أو في نخبويتها، ولاسيما في شعارات مثل إسقاط النظام وإلغاء الطائفية والعلمنة والدولة المدنية وحكم المصارف والطغمة المالية وكلّن(كلّهم) يعني كلّن.
سادساً: لقد رفع شعار “الشعب يريد إسقاط النظام في كل بلدان الربيع العربي”، وذلك من أجل إقامة أنظمة دستورية بديلاً عن أنظمة غير دستورية أو عن أنظمة تنتهك السلطات فيها دساتير الدول وقوانينها. بعبارة أخرى، رفع هذا الشعار للتخلص من استبداد الأنظمة غير الدستورية، أو من استبداد تمارسه السلطات في الأنظمة الدستورية بأشكال متنوعة تحمل خصوصيات بلدانها، كإعلان حالة الطوارئ أو الأحكام العرفية أو الاستثنائية أو اعتماد قوانين انتخاب تقتصر الديمقراطية فيها على صندوقة الاقتراع، وصولاً إلى تحكم أجهزة الاستخبارات في الحياة العامة للتضييق على الحريات.
خصوصية النظام اللبناني تكمن في أن نظامه ديمقراطي برلماني، على ما ينص عليه الدستور، غير أن السلطات الحاكمة، ولاسيما مع وجود الجيش السوري ثم بعد انسحابه، كانت تنتهك الدستور وتتحايل على القوانين. من ناحية ثانية، كلف تعديل الدستور اللبنانيين حرباً أهلية ومئات آلاف القتلى والجرحى، فضلاً عن أنها كانت، في لاوعي المحاربين، حرباً على الدولة ودستورها وقوانينها لا حرباً على الطائفية. لهذه الأسباب الثلاثة بدا أن شعار”الشعب يريد تطبيق النظام” أقرب إلى الواقعية السياسية، وأن تطبيقه سيكون، بالتأكيد، أقل كلفة من شعار إسقاط النظام والبدء من نقطة الصفر الإصلاحية.
في الواقع، إن السلطات السياسية في لبنان وظفت التنوع الطائفي لتمارس شكلاً من الاستبداد خاصاً بالنظام اللبناني يختلط فيه الاجتماعي بالسياسي بالثقافي، ما دفع حركة الإصلاح العلمانية واليسارية إلى جعل إلغاء الطائفية مطلباً دائماً. غير أن تجربة قرن كامل من عمر الوطن أثبتت أن أهل السلطة يمارسون لعبة خادعة، ظاهرها أن كلاً منهم يمثل طائفته ويدافع عن حقوق مزعومة لها، فيما هم، في الحقيقة، يستخدمونها ستاراً لتأمين مصالح شخصية لهم وللدوائر المحيطة بهم من الأزلام والمحاسيب، ويتحاصصون، باسم التوازن الطائفي، الدولة وإدارتها وثروة البلاد المالية والبشرية، ويعممون قيم الولاء الانتهازي، ويضربون عرض الحائط قيم الكفاءة وتكافؤ الفرص. فكيف إذا كان أهل السلطة متحدرين من أصول ميليشيوية سياسية وعسكرية أو من مدارس الأجهزة الأمنية؟
يمكن أن أختصر بكلمة سمعتها من الراحل الكبير ميشال إده وقلبت مجرى تفكيري، رأساً على عقب، حين قال لي متسائلاً، إذا التزم المسؤول بأحكام الدستور وبالقوانين، فبماذا تهمك بعد ذلك هويته المذهبية والطائفية؟ نعم. من موقع الالتزام بنبذ الطائفية، يمكن القول إن الالتزام بأحكام الدستور هو أقرب السبل إلى قيام دولة “لا دين لها” بحسب قول الإمام محمد مهدي شمس الدين، وهو السبيل إلى إلغاء الطائفية من الممارسة السياسية، وأن تعديل ما يلزم تعديله من المواد الدستورية سيكون أقل كلفة من إلغاء الدستور وإسقاط النظام، وأن شعار إلغاء الطائفية السياسية كان على الدوام خشبة خلاص يستخدمه أهل السلطة لاستنفار محازبيهم كلما هبت عواصف التغيير الديمقراطي، وينجحون على الدوام في تصويره وكأنه شعار إسلامي يستهدف انتزاع صلاحيات رئيس الجمهورية، ويقابلونه بشعار العلمنة الذي يظهر كأنه مطلب مسيحي يستهدف قوانين الأحوال الشخصية عند المسلمين.
سادساً: العلمنة والدولة المدنية والديمقراطية ودولة القانون والمؤسسات، مصطلحات مشتقة من شجرة عائلة واحدة، غير أن دلالاتها في الوعي الشعبي ليست واحدة، بعد أن تشوهت مضامينها على أيدي دعاة الاستبداد السياسي. فقد صور المتشددون العلمنة وكأنها نوع من الإلحاد، ساعدهم على ترسيخ هذه الصورة سلوك الأحزاب التي حملت راية العلمانية، كما صوروا دعاة الدولة المدنية أعداء للدين ورجال الدين. لذلك، ربما يكون مفيداً تفادي استخدام ما يؤذي الثورة من الشعارات، وربما كان شعار دولة الحق، دولة القانون والمؤسسات والديمقراطية، الذي يعني في ما يعنيه، اعتماد الكفاءة وتكافؤ الفرص وتداول السلطة والفصل بين السلطات، وحماية الحريات العامة والخاصة، والالتزام بأحكام الإعلان العالمي لحقوق الانسان، هو الشعار المناسب لتفادي المواجهات مع أعداء الثورة.
سابعاً: من بين الشعارات المرفوعة تلك المستلهمة من تراث يساري طالما صوب على الطغمة المالية ورأس المال المتوحش، والموجهة ضد المصارف والمصرف المركزي والمطالبة “ببنوك أهداف ضد سياسية الفساد وإفقار الدولة والشعب”. لقد بات من الثابت أن ما يحصل في الشارع اللبناني ليس ثورة على طريق الاشتراكية، ولا هو ثورة ضد الرأسمالية ونظامها الاقتصادي، بل هي ثورة داخل الرأسمالية لتعديل النظام السياسي وتحويله من نظام محاصصة ميليشيوي إلى نظام ديمقراطي. ومن الثابت أيضاً أن الطبقة الحاكمة في لبنان لا تمثل البرجوازية ولا الطغمة المالية ولا رأس المال المالي، بل هي من سلالة ميليشيوية أوليغاشية مافياوية، ومن الضروري أن تعمل الثورة على تحفيز البرجوازية للانضمام إلى صفوفها، لأن ضحايا الاستبداد الميليشيوي ليسوا من طبقة دون سواها بل هم لبنان كله شعباً ووطناً ودولة.
إن من مصلحة الثورة أن تتولى البرجوازية بنفسها إدارة الشأن الاقتصادي والمالي والنقدي بديلاً عن سلطة الميليشيا التي أرعبت البرجوازية(التي تخاف من خيالها- وهذا من طبيعة رأس المال الجبان) وطوعتها وصادرت قرارها وشرعت لما يشبه الخوة تدفعها البرجوازية من أرباحها أو تستولي عليها الميليشيات من المال العام. ذلك يعني أن من الضرورة استدراج البرجوازية إلى حلبة الصراع لتكون جزءاً من الثورة لا خصماً لها، وبعد أن تحقق الثورة أهدافها يصبح لكل حادث حديث.
أنجزت الثورة الكثير في الشهر الأول من عمرها. لكن الدرب طويل.
مقالات ذات صلة
نظام التفاهة (٤)هل حقاً هذا رئيسُكُم؟
الخطاب الانتخابي الخشبي