23 نوفمبر، 2024

كتاب مفتوح إلى دولة الرئيس نبيه بري

لم أكن يوماً من مؤيديك ولا من مريديك، ولكنني لا أسمح لنفسي بأن أكتب لك أو عنك بغير لغة الاحترام الواجب عليّ تجاهك وتجاه أي كان، مسؤولاً في الدولة أو زميلاً في التعليم أو رفيقاً في الحزب أو صديقاً افتراضياً . وإن نسيت فلن أنسى تواضعك حين كنت أنت من بادر للاتصال بي على رقم هاتفي لتوجه لي إطراء على “بعضٍ”، على البعض فقط، من مقالة لي كنت قد نشرتها في جريدة السفير، ولم تكن موافقاً على بعضها الآخر، مقالة هي عبارة عن نقد صريح وقاسٍ للدور الذي لعبه كل من الحزب الشيوعي وحركة أمل في معاركهما قبل الاجتياح، بالنيابة عن منظمة التحرير الفلسطينية والنظام السوري. وأظن، مع أن بعض الظن إثم، أن ما لفتك في المقالة استعانتي، لشرح فكرتي، بهذا البيت من شعر المتنبي:
ومن يجعل الضرغام للصيد بازه تصيده الضرغام في ما تصيّدا
وإن نسيت فلن أنسى أنني قصرت بحق خطابك حين توليت رئاسة المجلس أول مرة. قلت عنه لصديق مشترك في حينه، إنه خطاب رجل دولة من الطراز الرفيع. كان علي أن أعرب عن إعجابي به، لكنني لم أكن قادراً، وما عودت نفسي يوماً، على مدح أحد ذي موقع في السلطة السياسية، حتى لا أرمى بالتزلف. هذا كان سلوكي مع رفيق الحريري الذي تقبل نقدي القاسي بصدر رحب، ومع جورج حاوي يوم كنت عضواً في الحزب وكان أميناً عاماً. الاستثناء الوحيد هو المقالة التي أشدت فيها بالرئيس السنيورة ورأيت فيه واحداً من أهم رجال الدولة في العالم العربي، وقد فعلت ذلك لأن موقعه في السلطة، في حينه، لم يكن ليحسد عليه، ولأن الطلب الذي كان يمكنه أن يستجيب لي فيه هو الاستعجال في التوقيع على مرسوم إنهاء خدماتي(استقالتي) من الجامعة اللبنانية. ولا أظنك تلومني على مثل هذا السلوك، لأن مهنة المثقف ومحنته في آن هي التزامه الموقف النقدي والاعتراضي وإحجامه عن الوقوف على باب الحاكم .
دولة الرئيس
هي المرة الأولى التي أخاطبك فيها بشكل مباشر، مع يقيني من أنك لم تكن تفوتك شاردة ولا واردة في كل شأن يتعلق بالجنوب والشيعة، ولا سيما ما تنشره الصحف ووسائل الإعلام، ومن أنك كنت على علم بكتاباتي المتعلقة بنهج الشيعية السياسية في إدارة الشأن الشيعي والشأن الوطني، الكتابات التي بدأتها في ثمانينات القرن الماضي، وعلى وجه التحديد، بعد اندلاع الحرب على المخيمات، وانفجار الاشتباكات المدمرة التي أطلقوا عليها على سبيل التهكم، حرب الشيعة والمتاولة، والتي شهدت قريتي جرجوع آخر فصولها الدموية، ثم بعد اغتيال قادة في الحزب الشيوعي واغتيال المفكر الدكتور الشيخ حسين مروة والفيلسوف مهدي عامل الذي شكل اغتياله نقطة انعطاف في نظرتي إلى القضايا الحزبية والوطنية والتحالفية، حملتني على إعادة النظر بكل ما له علاقة بالحرب الأهلية، وجعلتني أستنتج أن الأولوية ينبغي أن تتركز على حماية الوحدة الوطنية وتحصين البلاد ضد الحروب، وأن السبيل إلى ذلك يتمثل في استعادة الدولة دورها في إدارة الشأن العام بديلاً عن النهج الميليشوي الذي ساد خلال الحرب الأهلية والذي تجسد، في ما تجسد، في المعارك “الأخوية” بين الحزب الشيوعي الذي انتميت إليه و”حليفته اللدود” حركة أمل. وقد استكملت نقدي للحرب الأهلية والفصائل المشاركة فيها وضمنته برنامجاً للانقاذ في الكتب التي نشرتها، أولها عن “الأصوليات” وثانيها عن “اغتيال الدولة” وثالثها عن ” الشيعية السياسية”.
هي المرة الأولى، لأنني في كل ما كتبته في السابق كنت أمارس عملية نقد ذاتي لتجربتي الشخصية والحزبية وعملية نقد لتجارب كل المشاركين في الحرب الأهلية. هذه المرة أتوجه إليك لأمرين أثارا، في الأيام الأخيرة، جدلاً كبيراً وأطلقا زوبعة من كلام يطال مقامك ودورك ومسؤوليتك الوطنية.الأمر الأول هو الموقف من قضية اختفاء الإمام موسى الصدر والملابسات التي رافقت انعقاد مؤتمر القمة العربي في بيروت. والثاني تصريحك القائل بضرورة إقامة الدولة المدنية حلاً وحيداً للأزمة اللبنانية.
لا شك أن قضية الإمام الصدر كان ينبغي أن تشكل قضية وطنية، لكن ما جعلها تخسر بعدها الوطني أمران، الأول هو “فلسفة” التحالفات العربية والأممية التي كانت رائجة يومذاك في مواجهة الإمبريالية والصهيونية والاستعمار، بحسب الخطاب القومي الذي تبنته أحزاب الحركة الوطنية اللبنانية وارتبطت بموجبه بتحالف مع نظام القذافي؛ والثاني فهم مغلوط لمعنى العلمانية وضع حركة الإمام موسى الصدر والقوى العلمانية في مواجهة بعضها. وقد شكل ذلك مبرراً، حتى لو كان مبرراً جزئياً وغير كاف وغير مقنع، لأن تستخدم حركة أمل كل ما تملكه من وسائل التعبئة، لا في مواجهة النظام الليبي فحسب، بل في مواجهة حلفائه اللبنانيين.
غير أن تحالف حركة أمل المقدس مع النظام السوري ألغى مصداقية هذا المبرر الجزئية، عملاً بالقاعدة القائلة بأن أصدقاءك ثلاثة : صديقك وصديق صديقك وعدو عدوك. وإذا كان التضامن معكم في قضية وطنية هي قضية الإمام الصدر منقوصاً فلأنه كان يؤخذ عليكم انكم كنتم تخاصمون حلفاء النظام الليبي في لبنان وتظهرون الود، في الوقت ذاته، لحلفائه خارج لبنان، مع علمكم بما يتم تداوله على وسائل التواصل الاجتماعي من كتابات تؤكد أن إخفاء الإمام لم يكن من بنات أفكار القذافي، بل هو نتيجة عمل منسق بين قوى الاستبداد المنتشرة في أرجاء الأمتين العربية والإسلامية، وأنكم وافقتم على حضور النظام الليبي أيام القذافي مؤتمراً للقمة في بيروت وترفضون اليوم حضور النظام الذي أطاح بالقذافي.
دولة الرئيس
أما عن الدولة المدنية فأنت خير العارفين، ونخجل من موقعك، وأنت رجل القانون ورأس السلطة التشريعية، إن أخبرناك أن النظام اللبناني هو نظام علماني، على ما يقول سماحة الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين، وأنه نظام صفته الأساسية أنه برلماني ديمقراطي، لا ينص دستوره على دين للدولة، وأن المواطنين فيه متساوون أمام القانون، وأنه يقوم على الفصل بين السلطات، الخ. وتلك هي بعض مقومات الدولة المدنية.
لكننا لا نخجل من القول بأننا، نحن اللبنانيين، انخرطنا في تقويض دعائم هذا النظام واستبدلناه بنظام يتبنى نهجاً ميليشيوياً في الحكم استخدم السلاح خلال الحرب الأهلية وظل يلجأ إلى استخدامه كلما دعت حاجته إليه في فترات السلم الأهلي. وإذا كان كل طرف لبناني يجد تبريره لاستخدام السلاح في مواجهة عدو خارجي أو خصم داخلي خلال الحرب الأهلية وبعدها، فليس هناك من تفسير لانتهاك الدستور والقوانين بعد الطائف إلا حاجة القوى الخارجية للقضاء على هذه البؤرة الوحيدة في الشرقين العربي والإسلامي التي كادت تنفرد بوضع بعض أسس النظام السياسي المدني العلماني الديمقراطي، وكان من الطبيعي أن تتعاون كل الأنظمة الاستبدادية في المنطقة على تهديمه، ثم تتشارك في التباكي عليه.
غير أن الخارج عجز عن القيام بهذه المهمة من دون الاستعانة بأطراف داخلية يقدم لها العون في بداية الأمر بهدف توظيفها لاحقاً لصالح مشاريعه، على أن يصادر قرارها وينزع عنها انتماءها الوطني، ويحولها إلى أدوات. هذا ما حل بأحزاب اليمين اللبناني التي استعانت بإسرائيل ثم بسوريا لمواجهة خصومها في الداخل، وهو ما حل أيضاً بالأحزاب الشيوعية التي ناضلت بصدق وتفان من أجل قضايا شعبها لكنها لم تنجح في إزالة شبهة “اليسار الدولي” عنها، وهو ما ينطبق على مجاهدي حزب الله الذين سطروا ببطولاتهم أول انتصار عربي ضد العدو الصهيوني لكن انتماءهم الوطني اللبناني منتقص، في نظر اللبنانيين، بسبب انخراطهم المعلن في حزب ولاية الفقيه الإيراني، وهو ما يصح قوله، بشكل خاص، على حركة أمل التي صارت أسيرة مشروع النظام السوري المسؤول مسؤولية مباشرة عن القضاء على المؤسسات الدستورية في الدولة اللبنانية، وعن بدعة الترويكا وعن تهشيم القضاء وعن إلغاء دور مؤسسات الرقابة وعن ابتكار آليات للنهب وتعميم ثقافة الفساد.
الدولة المدنية هي تلك التي كانت قائمة في بلادنا قبل الحرب الأهلية، وقد كلفتنا التعديلات التي أقرتها وثيقة الوفاق الوطني من الضحايا البشرية ومن الخسائر المادية ما يكفي لوقف هذا السجال البيزنطي حول الميثاقية والشرعية، السجال الذي يطيح بالدستور ويجعل الدولة كأنها غنيمة في أيدي غزاة محاصصين ليس همهم لا الوطن ولا الدولة، بل التنافس على تقاسم السلطة والثروة والبلاد والعباد.
الدولة المدنية، يا دولة الرئيس، أنت مؤتمن عليها، من موقعك على رأس السلطة التشريعية، وقيامها متوقف على تطبيق دستورنا لا على خوض الحروب لتعديله تبعاً لأهواء القوى الخارجية ومشاريعها. الدولة المدنية ليست شيئاً آخر سوى دولة القانون والمؤسسات والكفاءة وتكافؤ الفرص، دولة الحريات والديمقراطية، دولة السيادة. والسيادة ليست شيئاً آخر سوى سيادة القانون.
مع فائق الاحترام

المصدر :

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=625739