هزمونا لأنهم قصفونا ولم نكن قادرين على الرد . وهزمونا لأنهم لم يردوا. يتناوبون على هزيمتنا أعداء وحكاماً، ومع ذلك نقيم احتفالات النصر في الشوراع وعلى الشاشات، والويل لمن لا يشارك في حفلة الانتصار بالهزيمة. نعم كذبت الامبريالية حين تذرعت بأسلحة الدمار الشامل لتجتاح العراق، لكن مجازر صدام الكيماوية واستبداده الذي فاق كل خيال وقتله الأقارب والرفاق والأصدقاء والحلفاء كان أكثر خطراً على شعبه من كل أسلحة الدمار الشامل. ربما يكون الامبرياليون الثلاثة قد كذبوا حين تذرعوا بالسلاح الكيماوي ليبرروا عدوانهم، لكن النظام السوري هو الذي استقدم جيوش العالم واستولد العنف الديني والمخابراتي ليدمر سوريا حجراً وبشراً، مفضلاً الكرسي على مستقبل الوطن.
الاحتفالات بالنصر غداة كل هزيمة جزء من تراثنا القومي. من العدوان الثلاثي على مصر إلى العدوان الثلاثي على سوريا. من أحمد سعيد إلى علوج وزير الإعلام في اجتياح العراق، وصولاً إلى العدوان الإمبريالي على البعث الكيماوي في العراق، حكايات من سلالة واحدة. اعتدنا على لغة التهويل ثم التهليل ثم الشكوى إلى مجلس الأمن، واعتادت الأمة العربية على رفع راية النصر أياً تكن نتائج المعارك، اعتدنا على ياسر عرفات حين كان يرفع من بين الأنقاض علامة النصر بالإصبعين، وعلى نظام البعث الذي كان يقيس الانتصار بصمود الحزب في السلطة، وعلى تسويغ لغوي لا يعترف بالهزيمة لأننا ممن يخسرون المعركة ولا يخسرون الحرب.
نخوض الحروب وننظم الشعر بالسهولة ذاتها. حين ألقى أحدهم ما يحسبه على الشعر العمودي، تساءل أحد الظرفاء عما إذا كان الخطيب قد قاس أشعاره بالقشة لا بأوزان الخليل. في الحروب يستعيرون مقياس القشة ذاته، أو ما يشبهه، ليعلنوا النصر على صواريخ التحالف الدولي التي لم تصب أهدافها واقتصرت أضرارها على عدد قليل من الجرحى، وليقيموا طقوس الغبطة والشموخ في الشوارع، وليس لأحد أن ينتقد وإن انتقد فالويل والثبور وعظائم الأمور، وقبلها رجم بالشتائم وتهم الخيانة.
الاعتراض ممنوع، النقد محظور. من المحيط إلى الخليج وقفنا مع الثورة الجزائرية ولكن لا ليكون انقلاب وراء انقلاب ثم حرب أهلية ثم يقعد الرئيس المقعد إلى الأبد. ووقفنا خلف عبد الناصر في مواجهة العدوان الثلاثي، لكن لا لتكون الناصرية مقبرة للحريات ولا ليكون الجيش المصري ضحية قيادته الجاهلة، إن لم نقل الخائنة. ومن المحيط إلى الخليج وقفنا مع الثورة الفلسطينية لكن لا ليتباهى عرفات بأنه دمر لبنان، ولا لتصبح الثورة ثورتين والدويلة دويلتين في رام الله وغزة؛ ومع سوريا في مواجهة إسرائيل ولكن لا لينفذ النظام في لبنان ما عجزت عنه إسرائيل، ولا ليغتبط بمحاصرة عرفات في رام الله ويحتفل بموته مثلما احتفل بموت عبد الناصر، ولا لتمعن أجهزة مخابراته بقتل القادة اللبنانيين، ولا ليشارك القائد الخالد إلى الأبد بحرب الأمبريالية على رفيقه صدام حسين؛ ومع حزب الله ضد كل أعدائه وخصومه ولكن لا ليرمي بالخيانة أي لبناني معترض على سياسته الداخلية وأي شيعي معترض على مجاهرته بالانحياز لدولة الولي الفقيه الإيراني.
بعد كل النكبات والنكسات وسائر الهزائم يحق لأي مواطن عربي، لأي معترض، لأي شاك ومتألم مما آلت إليه أحوال الأمة، أن يسأل لا عن الوحدة العربية الموؤودة بل عن وحدة سوريا ووحدة العراق ووحدة السودان ووحدة اليمن؛ عن أحوال أصحاب الرأي الآخر في المنافي والقبور والسجون، عن ملايين اللبنانيين والسوريين والمصريين والجزائريين والمغاربة الموزعين في أربع أرجاء الأرض، لماذا غادروا بلادهم وصاروا في عداد المتحدرين من أصول عربية؟
الحقيقة الجارحة والمؤلمة ذاتها تتكرر. ليست الهزيمة الأولى ولا هي الاحتفالات الأولى. حكايتان مؤلمتان، عن الممانعة وانتصاراتها ربما تبدلان، لأنهما مضحكتان طريفتان، جو الحزن والقهر والذل الذي نحن فيه. الحكاية الأولى بطلها شخص مغمورفي عالم السياسة، إسمه عبد المطلب الأمين، وهو من بلدة شقرا في جنوب لبنان، والده المرجع الشيعي الكبير السيد محسن الأمين كان يقيم مع العائلة في دمشق قبل أن ترتسم الحدود القطرية بين الأوطان في العالم العربي. بعد الاستقلال ظل الحي الذي سكنت فيه العائلة في العاصمة السورية يحمل إسمها، حي الأمين. كان عبد المطلب شاعراً مثقفاً، حمل إجازة في الحقوق عام 1939، و شغل وظائف كبرى في لبنان كما في سوريا، قاضياً في الجمهورية اللبنانية ، و أول قائم بالأعمال في سفارة سوريا في موسكو. وكان إلى جانب نسبه وثقافته ظريفاُ خفيف الظل ذكياً سريع البديهة. الكلمة التي ألقاها أمام وزير الخارجية بمناسبة تقديم أوراق اعتماده تضمنت، إلى جانب العبارات الدبلوماسية المعروفة، العبارة التالية: يهمني، يا سعادة الوزير، أن أطمئنكم إلى أنه ليست لسوريا أية أطماع في الاتحاد السوفياتي، ما أثار ضحك الوزير الذي لا يضحك.
بعد أن عاد من مهمته الدبلوماسية تولى وظائف في الدولة السورية، كان من بينها وظيفة إدارية في وزارة الدفاع خلال النكسة. وبحكم معرفته اللغة الروسية رافق الوفد العسكري السوفياتي الذي جاء زائرا في جولة تفقدية للجبهة بعد الهزيمة مع كبار ضباط الجيش. في ختام الجولة أسرّ باللغة الروسية لأحد ضيوفه بأن كل المعلومات عن حجم الخسائر في العديد والعدة، التي زودكم بها الضباط السوريون مغلوطة جملة وتفصيلاً. ثم غادر بعدها دمشق على عجل، تاركاً القصيدة الشهيرة التي تحاكي أغنية فيروز والتي ظلت مجهولة النسب وقتاً طويلاً، ثم نسبت لاحقاً إلى الشاعر نزار قباني، وعارضها شعراء آخرون، وهي في الحقيقة لعبد المطلب الأمين ألذي، ترك ديواناً من الشعر نشر بعد وفاته ولم تذكر فيه تلك القصيدة التي نظمها بعد أن ترك وظيفته في دمشق وعاد إلى بيروت ليعيش كفاف يومه، محرراً في جريدة النداء الناطقة باسم الحزب الشيوعي اللبناني.
في القصيدة من السخرية بقدر ما فيها من مرارة. يمكن الاطلاع على القصيدة وعلى أخرى عارضتها على موقع الغوغل. رداً على مطلع أغنية فيروز:”الآن الآن وليس غداً أجراس العودة فلتقرع” تقول القصيدة:
عفواً فيروز ومعذرة أجراس العودة لن تقرع
خازوق دق بأسفلنا من شرم الشيخ إلى سعسع
الحكاية الثانية عن احتفالات النصر في حرب تشرين. ردح من الزمن يفصلنا عن ذاك الانتصار. نصف قرن تقريباً. ولم يسأم المحتفلون من إلقاء الخطب ولا تقلصت مظاهر الزينة ولا توقفت الجموع عن برقيات التحية تحملها الوفود إلى القيادة. سئل أحدهم هل انتصرنا حقاً ؟ اليس صحيحاً أن اسرائيل احتلت في تلك الحرب عشرات القرى والمزارع وأضافتها إلى الجولان الذي احتلته في حرب النكسة؟ وكان الجواب الانتصاري كالعادة: صحيح أننا لم ننتصر في الحرب، لكننا منعنا العدو من تسجيل الانتصار. لم يحقق العدوان هدفه وظل النظام صامداً.
أحد المبعدين من سوريا علق قائلاً: لا تصدقوا هذا الكلام. إنهم يؤسسون لدولة تكون ضمن قائمة الدويلات المعروفة باسم العائلات في التاريخ. دولة بني الأسد، دولة بني بويه، أو بني حمدان أو البرامكة أو السلاجقة أو الطولونيين أو الأخشيديين. حين ضحكنا من هذا الكلام، قال لنا اسمعوا هذه الطرفة.
في حرب تشرين نزح سوريون من الأراضي المحتلة. قال الموظف لزميله هل نعد لهم الإضبارات على غرار ما فعلنا مع نازحي 48 ونازحي 67، فنسميهم نازحي 73؟ نبهه زميله إلى أن هذا التصنيف يتنافى مع نتائج المعركة، منتصرون ونازحون ؟ وأشار إليه أن يضعهم في عداد نازحي الحروب والهزائم السابقة. زميل ثالث وجد الحل : نكتب على غلاف الإضبارة: المتضررون من النصر.
لن تزول الهزائم ولا احتفالات النصر المزعومة إلا بزوال أنظمة الاستبداد
مقالات ذات صلة
هل يكتب التاريخ الحديث بمصطلحات طائفية؟
جامعة الأمة العربية ومحكمة العدل الشعبية
نقول لحزب الله ما اعتدنا على قوله