في يوم الهجمة على المصرف المركزي ومصارف شارع الحمراء، تساءلنا باستغراب عما إذا كانت الثورة اللبنانية ثورة ضد الرأسمالية أم ضد سلطة الميليشيات والفساد ونهب المال العام؟ وباستغراب أيضاً سألني أحدهم، ألست ممن كانوا ينادون بالاشتراكية؟ وحين قلنا إن الأزمة سياسية وأن حلها يبدأ بإعادة تشكيل السلطة، وبأن تدمير النظام المصرفي ليس بنداً من برنامج الثورة للحل، قال لي صديقي، أنت تدافع عن المصارف كأنك صاحب مصرف. ربما كان عليه أن يلاحظ أنني لا أدين الهجوم بل وسائله وأدواته ومبرراته وأهدافه المغلوطة. فالمسؤولية لا تقع على المقرات والمباني والواجهات وكاميرات المراقبة التي تتعرض للغزو والتدمير ليلاً، ولا على الموظفين الذين يتعرضون للضغط النفسي والإهانة نهاراً.
نعرف أن الوجع الشعبي بلغ ذروته، غير أن الهجمة على المصارف يقودها فريقان: الفريق الأول، وهو المسبب لكل الأوجاع، وهو المسؤول الحقيقي عن الفساد ونهب المال العام وانتهاك الدستور وتدمير الدولة، يفعل ذلك لحرف الأنظار عن المرتكبين، أو بعبارة كريم جابر البليغة كأصلها القرآني: “وفي النظامِ مواقعُ هنّ أمّ الفساد والبلاء، وأُخَرُ متشابهات، فأمّا الذين في قلوبهم زيغ، فيصوّبون على المتشابه، يبتغون الفتنة”؛ والثاني يشكو من الوجع لكنه يصوب على الأعراض لا على سبب العلة، ويمثله مناضلون يعتقدون اعتقاداً صادقاً وراسخاً بمسؤولية المصارف عن الأزمة المالية. الفريق الأول همه التخريب على الثورة، فيما يعتقد الفريق الثاني أنه يمارس “عنفاً ثورياً” على أهل الحل والربط من الممسكين بمقاليد “البنية التحتية” أي الاقتصاد، من باب الوفاء لما تراكم في ذاكرته اليسارية عن الثورة والعنف من خلال التجربتين الفرنسية والبلشفية.
هذه المقالة لا تناقش فريق التخريب، بل تتوجه إلى الصادقين من المناضلين، ولا سيما المتحدرين من التجارب الشيوعية المختلفة والغارفين من المخزون الثقافي لتجارب اليسار والثورات العالمية والمستلهمين لينين وغيفارا والماوية، أو المستخلصين من ثورات الربيع العربي دروساً عن التكتيك والتغيير الثوري والنضال السلمي.
قال الطبيب لمريضه، إن البثور التي تراها على الجلد قد تكون أسبابها داخلية في طريقة عمل الكبد، وقال لمريض آخر، المعالجة الجذرية لهذه البقع تقتضي معالجة الهر الذي يعيش معكم في المنزل، فهذه البقع على جلدك هي نتيجة مرض في الجهاز الهضمي للهر. هذا يشبه تشخيص أمراض النظام السياسي التي تتخفى وراء استبداد تمارسه الميليشيات والمافيا السياسية والعسكرية بإدارة المرشد الروحي في النظام الأمني. يا ثوار الأرض اللبنانية، لا تصوبوا على غير المافيا الميليشيوية. الشعار الأكثر دقة في تشخيص المرض،”يسقط يسقط حكم الأزعر”، والأزعر ليس شخصاً بل منظومة ونهج وعصابة.
مقالة صحافية لا تكفي لتبديد التباسات عمرها قرن كامل من الزمن، قرن هو عمر الأفكار التي ترسخت في ثقافتنا عن مصطلحات الثورة والدولة والأوليغارشية والرأسمالية والاشتراكية والنظام المصرفي، وهو كذلك عمر الوطن اللبناني في مئويته الأولى. استفضنا في الحديث عنها، ولا سيما عن “الثورة” و”الرأسمالية” و”التحرر الوطني” في كتابنا، “أحزاب الله” الصادر حديثاً، ونكتفي هنا بنقاش هادئ حول مسؤولية رأس المال والمصارف عن الأزمة اللبنانية.
قيل إن الرأسمالية نشأت مع المكوك وآلة الحياكة وبداية الانتقال من الحرفة إلى المشغل، لكنها بدأت أيضاً مع المصارف. على الثوار أن يتذكروا أن صكوك الغفران الكنسية هي التي أشعلت ثورة لوثر في الإصلاح البروتستانتي؟ ميلاد واحد تقريباً وعلاقة علة بمعلول بين رأس المال والمصارف والسندات والحوالات والشيكات والبورصة وكل المصطلحات في التبادل النقدي والمالي والتجاري. المصرف ليس من أعراض الرأسمالية بل هو قلبها وشرايينها ودورتها الدموية. هذا يفسر كيف يكون لشعار “يسقط يسقط حكم المصرف” في ثورة تنشد الاشتراكية معنى مختلفاً تماماً عن معناه في ثورة من أجل الديموقراطية. إسقاط المصرف يعني موت الرأسمالية أو قتلها لاستبدال آلياتها الاستغلالية بأخرى مؤنسنة، ولا أظن عاقلاً أو مجنوناً في ثورتنا اللبنانية يسعى إلى إطلاق رصاصة الرحمة على النظام الرأسمالي في لبنان، بعد أن لم يمض وقت طويل على تشييع البديل الذي ظل جميلاً في مخيلتنا فحسب لا في الواقع.
الاختلاف بين الثورة والانتفاضة ليس لفظياً. الانتفاضة ردة فعل وتعبير مشروع عن غضب، أياً يكن شكل هذا التعبير. هي لا تبغي غير توجيه الأذية للظالم بالتدمير والتخريب من غير حساب، وهي لحظية وعابرة وموقتة. أما الثورة فشأن مختلف. تضع برنامجاً لما بعد سقوط الظالم. هذا ما فعلته الثورة اللبنانية حين شددت في برنامجها الواضح ومن اللحظة الأولى، من أجل إنقاذ البلاد، على ضرورة إعادة تشكيل السلطة السياسية، أي على استبدال الحكام بآخرين، من داخل الأطر الدستورية، ولا أظن الثورة غبية لتؤسس للخراب. وغبي من لا يدرك أن ترميم الدمار سيكون على حساب الشعب لا على حساب المؤسسات المدمرة، والرأسمال يتقن لعبة استرداد خسائره مضاعفة من الشعب. نعم هذه أملاك الشعب حتى لو كانت مسجلة بأسماء شركات خاصة مغفلة. يكون أمراً طبيعياً لو كان هذا التخريب تعبيراً عن انتفاضة، أما الثورة ففي رأس حساباتها إعادة البناء.
المصارف مؤسسات تبغي الربح. مبرر وجودها الربح، أو بمصطلحات اللغة النضالية السطو على القيمة الزائدة. وهي أداة رأس المال المثلى لتحقيق ذلك، إلى جانب الشركات التي تستثمر في الصناعة والزراعة والتكنولوجيا والتواصل والمضاربات والبورصة والتجارة، بما في ذلك تجارة المال.
رأس المال هذا هو الذي يتولى السلطة السياسية في البلدان الرأسمالية، أو هو الذي يختار ممثليه فيها. أما الأنظمة “الكولونيالية” بحسب تعبير مهدي عامل، فقد اختارت صيغة أخرى مختلفة أوكل رأس المال بموجبها إدارة الشأن السياسي لفئات أخرى متحدرة من سلالات الممالك والأمبراطوريات والإقطاعيات والعائلات، أو أذعن لمصادرة دوره من قبل ضباط الجيوش. في حالة لبنان لم تكن “الطغمة المالية” هي الحاكمة ولا كان يتم اختيار الرئيس بقوة رأس المال بل بقوة التوازنات الخارجية. لتحديد هوية الطبقة الحاكمة نحت اليسار مصطلحاً جديداً هو الإقطاع السياسي وربيبته الطائفية السياسية اللذان ترحم اللبنانيون عليهما بعدما صار البديل ميليشيات ومحاصصة. (راجع مقالاتنا السابقة عن الثورة)
البرجوازية اللبنانية، بصفتها الممثل لرأس المال، لم ترتكب خطأ بل خطيئة، حين لم تجرؤ على انتزاع دورها من العائلات الإقطاعية قبل الحرب الأهلية، ولا من الميليشيات في نهاية الحرب، كما أنها عجزت عن مواجهة إرهاب الأجهزة الأمنية. التجربة الوحيدة التي تجرأ فيها رأس المال على مواجهة حكام من غير طينته هي تجربة رفيق الحريري، ولهذا السبب بالذات تم اغتياله. خطيئة رأس المال الأولى إذن هي عزوفه عن تولي الحكم مباشرة، حتى أن بعض ممثليه انخرطوا في الميليشيات وترشحوا في لوائحها الانتخابية، بدل أن يتولوا بأنفسهم تشكيل اللوائح.
المافيا والميليشيات هي الحاكمة في لبنان. خطيئة المصارف إذعانها وتواطؤها على نهب المال العام. المصارف سكتت عن النهب لأنها جنت أرباحاً خيالية من فوائد الدين العام. وهي وحدها التي تعرف كيف كانت تستخدم أموال الخزينة في صفقات السياسيين. الدين العام لا يشكل، في حد ذاته، سبباً في الانهيار المالي والنقدي. أكبر بلدين مديونية في العالم هما الولايات المتحدة الأميركية واليابان. الضمانة هي اقتصاد قوي وحكم يقوم على الشفافية واحترام القانون. قد يقول قائل إن المصارف تتحمل جانباً من المسؤولية عن وضع البلاد على حافة الانهيار، لأن أعراض الأزمة ظهرت على أبواب البنوك وانعكست جوعاً وقلقاً على مستقبل الوطن، وقهراً وخوفاً على المدخرات. مسؤوليتها تكمن في تواطؤها مع الميليشيات. مسؤولية الميليشيات أكبر خطراً، فهي التي دمرت الدولة ومؤسساتها وحكم القانون. وعلى كل من الطرفين أن يخضع للمحاسبة والمعاقبة.
لن ينقذ الوطن من أزمته إلا قيام دولة القانون والمؤسسات، الدولة المدنية العلمانية. شرط قيام هذه الدولة هو سقوط حكم الميليشيات. لكنها لن تقوم إذا سقطت المصارف. هذا ما يملي على الثورة أن تمارس نوعين من الضغوط، الأول على السلطة السياسية الحاكمة، التنفيذية والتشريعية، لإرغامها على الرضوخ لمطالب الشعب القاضية بإعادة تشكيل السلطة السياسية، من خلال الالتزام بآليات دستورية ترعى تشكيل الحكومة بعيداً عن منطق المحاصصة(أهم حكومة في تاريخ الوطن تشكلت، عام 1958، من اثنين من السنة واثنين من الموارنة، وهي التي سنت التشريعات اللازمة لبناء دولة المؤسسات، ولم يعترض أحد على شرعيتها وميثاقيتها).
أما الثاني فهو الضغط على المصارف لإرغامها على المساهمة في حل الأزمة النقدية والمالية، وذلك بإعفاء الدولة من سداد الدين الداخلي، ودفع أصحاب رؤوس الأموال من اللبنانيين للمشاركة مشاركة فعالة في الإطاحة بالطاقم الميليشيوي الحاكم، بهدف إعادة بناء دولة القانون والمؤسسات.
مقالات ذات صلة
نظام التفاهة (٤)هل حقاً هذا رئيسُكُم؟
الخطاب الانتخابي الخشبي