21 نوفمبر، 2024

الإرشاد الرسولي ضد الاستبداد

11-11-2012

وردت العبارات التالية في الإرشاد الرسولي:

  • ترغب الكنيسة في تخطي كل تمييز على أساس العرق والجنس والطبقة الاجتماعية
  • إن طبيعة الكنيسة ودعوتها الكونية تتطلبان منها إقامة حوار مع أعضاء باقي الديانات الأخرى . يرتكز هذا الحوارفي الشرق الأوسط إلى علاقات روحية وتاريخية تجمع المسيحيين مع اليهود والمسلمين
  • يتقاسم المسيحيون مع المسلمين الحياة اليومية نفسها في الشرق الأوسط ، حيث وجودهم ليس عرضيا أو حديثا ، إنما تاريخي
  • الحرية الدينية هي تاج كل الحريات . إنها حق مقدس وغير قابل للتفاوض. إنها تشمل في الوقت ذاته الصعيدين الفردي والجماعي. حرية اتباع الضمير في المسائل الدينية وكذلك حرية العبادة .
  • يجب أن يسمح للإنسان بممارسة ديانته والتعبير عن رموزه بحرية ، دون أن يعرض حياته وحريته الشخصية للخطر
  • هذا كله هو ” ثمرة حياة شركة مع الله ومع  القريب… شركة ملزمة بالنسبة للمسيحيين … ومنفتحة أيضا على أشقائنا اليهود والمسلمين…”

نقرأ هذه العبارات وسواها في سياق الكلام الوارد في المقطع الثاني من المقدمة ، حيث يعدد الإرشاد مروحة واسعة متنوعة من المؤمنين تتسع كنيسة روما لاحتضانها ، ممن ينتمون إلى الكنائس الشرقية الكاثوليكية ، كنيسة الاسكندرية البطريركية للأقباط ، كنائس أنطاكيا الثلاث ، الروم الملكيين والسريان والموارنة، كنيسة بابل للكلدان وكنيسة قيليقيا للأرمن، الكنيسة اللاتينية ، أبرشيتي الهند، أومؤمنين جاؤوا من أثيوبيا وإريتريا،الخ.

 جوهر هذا الكلام وزبدته هو دعوة المتنوعين إلى العيش بشراكة، يعني إلى قبولهم بعضهم بعضا .أي إلى قبول الآخر. إن قبول الآخر واحترام الرأي المختلف وحماية التنوع وتحصين الوحدة في ظل التنوع ، كل ذلك هو المدماك الأول في عمارة الدميقراطية، وهو ليس سوى دعوة إلى الانخراط في مشروع الدولة الحديثة ، التي لا تقوم بغير الديمقراطية .

نحن ، في لبنان  وفي الأمتين العربية والإسلامية ، رفضنا الدخول في دولة الحضارة الرأسمالية ، أي الدولة الديمقراطية، حين عرض علينا ذلك ،  وفضلنا عليها نماذج أخرى تصنف كلها في خانة الدول الاستبدادية .واعتمدنا أطرا وتنظيمات وإيديولوجيات لا تقبل التنوع : من دولة الحزب الواحد وحكم السلالات  والسلاطين والأمراء ، إلى الجمهوريات الوراثية والرئيس إلى الأبد ، إلى الأحزاب الدينية، أو حزب العائلة أو الطائفة  أوالمذهب، التي إن صح توجيه رسالة الإرشاد الرسولي إلى أحد ، فإليها، دولا وأنظمة وأحزابا ابتكرت كل صيغ الاستبداد ومجافاة الديمقراطية.

نحن في لبنان ابتكرنا صيغا متعددة للاستبداد ، لكن تحت خيمة شكلية من  الديمقراطية، فمضينا إلى تطبيق الديمقراطية مبتدئين بصندوق الاقتراع ، أي من المحل الذي ينبغي أن تنتهي إليه خطوات كثيرة أخرى،أولها احترام حق الاختلاف والاعتراف بالآخر .فوق ذلك، اخترنا آلية انتخابية يلغي فيها بعضنا بعضا ، آلية تلغي الأقلية ، أية أقلية ، حتى لو حازت على 49%من الأصوات .

جوهرالديمقراطية هو الاعتراف بالاخر . أما رفضه أو نفيه أو إلغاؤه فهذا هو الاستبداد. بهذا المعنى لا يكون القانون الانتخابي ديمقراطيا إن اعتمد على النظام الأكثري ، أيا يكن حجم الدوائر ، صغيرا أو كبيرا أو متوسطا أو دوائر فردية .

كما أننا رحنا نطبق الديمقراطية في ظل أحزاب دينية أو طائفية أو مذهبية . والديمقراطية لا تستقيم مع هذا النوع من البنى الحزبية ، لأن آفاق التنافس بين هذه الأنماط الحزبية ستبقى مغلقة على الدين أو الطائفة أو المذهب .

أما في عالمنا العربي فقد كان التحايل على الديمقراطية أمرّ وأدهى ، إذ زعمت الأنظمة والأحزاب أنها تنطق باسم الأمة وأنها تمثل الإجماع ، واتهمت كل معترض على هذا الإجماع المزعوم بالخيانة وحكمت عليه بالموت أو بالسجن أو بالنفي .

إذا كان الإرشاد الرسولي دعوة إلى قبول الآخر فهو إذن دعوة لمواجهة الاستبداد في العالم العربي ولمناصرة أهل الربيع المزهر حولنا . وهو، في الوقت ذاته ، دعوة إلى ربيع لبناني لا بد أن يزهر على أنقاض كوارث الحرب الأهلية، التي كان أخطر ما فيها استدراج الغريب والاستقواء بالأجنبي من أجل إلغاء الآخر من أبناء الوطن.

إذا كان علينا أن نستكمل رسالة الإرشاد فليس أمامنا إلا سبيل وحيد يتمثل بالالتفاف حول مشروع الدولة ، دولة القانون والمؤسسات ، بدايته قانون انتخاب عصري يعتمد لبنان دائرة واحدة على أساس النسبية.

استوقفني في الإرشاد الرسولي كلام عن العلمانية الإيجابية وعن علمانية تصل ، في بعض أشكالها ، حد التطرف والعنف.

أعتقد أن الإرشاد الرسولي مازال يتعامل مع العلمانية بردة فعل على صيغتها الفرنسية ، وخصوصا على تعاطي نابليون بونابارت مع الكرسي البابوي ، في مرحلة بناء الدولة الحديثة ، دولة القانون والمؤسسات.

لا تتفرد الكنيسة وحدها بالنظر إلى العلمانية بعين الريبة . وليست وحدها التي ترى فيها شيئا من  “الإلحاد واللاأخلاقية ” ،  وليس ذلك حكرا على “بعض المسؤولين السياسيين والدينيين ” ، بل إن الكنيسة الإسلامية كلها تجمع  ،مع  الأغلبية الساحقة من رجال الدين، على اعتبار العلمانية ظاهرة إلحادية بالمعنى الكامل للكلمة.

الكنيسة الإسلامية والمسيحية من جهة ، والعلمانيون من جهة أخرى تبادلوا الإساءة كل منهما للآخر. الذين زعموا العلمانية في بلادنا لم يكونوا علمانيين أبدا ، بل كانوا مستبدين ، على إيمان أو على غير إيمان. تلك هي حالة الأحزاب التقدمية والقومية ، ومنها البعث الذي نكل بشعبيه في العراق وسوريا . غير أن إساءة العلمانيين المزعومين لم تكن سوى الوجه الآخر من إساءة الكنيسة إلى العلمانية. كلاهما حرف العلمانية عن معناها الأصلي ليمارس ، باسم هذا التحريف ، نوعا من الاستبداد المقنع ، مضمونه الوقوف في وجه قيام الدولة الحديثة .

العلمانية ليست مقطوعة من شجرة، بل هي تستمد معناها ودلالتها القاموسية والاستعمالية من انتمائها إلى شجرة عائلة لغوية وسياسية. هي بنت الصيغة الديمقراطية للدولة الحديثة. وهي تعني فصل سلطة الكنيسة عن سلطة الدولة( وليس فصل الدين عن الدولة) . مثل هذه الدولة هي التي تقوم على مبدأ الفصل بين السلطات وتداول السلطة، ومن بين مقوماتها، الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان والحريات العامة والفردية ، وهي دولة الكفاءة وتكافؤ الفرص ، وهي دولة المساواة ، لا بالمعنى الحسابي للكلمة ، أي المعنى الذي يبدو تطبيقه طوباويا ، بل بمعنى أن يتساوى المواطنون بالفرص تحت سقف القانون ، وأن يرتبط الفرد بوطنه من خلال القانون، لا من خلال الانتماء الديني . بهذا المعنى تعتبر الكنيسة في بلادنا شريكة في نظام المحاصصة الذي يتوزع السلطة كما لو أننا في نظام سابق على الدولة الحديثة ، أي كما لو أننا في دولة الوراثة وأنظمة الاستبداد.وحصتها من النظام ، قوانين الأحوال الشخصية التي تحكم باسم الله ، أو باسم الأب والإبن والروح القدس ، بينما يحكم القاضي في الدولة الحديثة باسم الشعب، واستخدام المنابر الدينية مطية للتنظيم السياسي باسم التقاليد والطقوس التي تتحول من طقوس دينية إلى طقوس حزبية .

نحن في حاجة إلى استكمال الإرشاد الرسولي بمقطع يفصل فصلا حاسما  بين سلطة الكنيسة وسلطة الدولة، بحيث تكون ممارسة السياسة حكرا على مدنيين من غير جبة ولا عمامة ولا قبعات عسكرية ، وخاضعة لقانون وحيد هو القانون الوضعي والدستور الذي يحمي حرية الإيمان والمؤمنين في ممارسة طقوسهم، كما يحمي حرية  المؤمنين الذين لا يمارسون طقوسهم الدينية، وكذلك حرية غير المؤمنين.

                                                                                                                (مداخلة في ندوة معراب عن الإرشاد الرسولي)