25 نوفمبر، 2024

الحزب الحاكم في اليونان

نجح في المرّة الأولى على كراهية الأميركيين

وفي الثانية على تجاهلهم

        “إنّ الشعب اليوناني لا ينسى ماذا تعني بالنسبة إليه عودة اليمين إلى السلطة”. بهذه العبارة افتتح باباندريو حملته الانتخابية. ولم يكتفِ بهذه الكلمات، لكنّه أضاف: “إنّ العسكر الذي تقاعدت رموزه العسكرية قسرياً، ما يزال يختبئ تحت ثياب ميتزوتاكيس زعيم “الديمقراطية الجديدة”. ولا شك أنّ كلام الزعيم الاشتراكي يصيب النقاط الحسّاسة من مشاعر الناس، إذ كيف يمكن أن تكون الديمقراطية إطاراً لحزبٍ يقوده من بين مَنْ يقوده أولئك الذين سفحوا دماءً وأقاموا سجوناً وأرهبوا بقبضة الحديد العسكرية التي أحكموها فوق رقاب اليونانيين. إنّهم الضبّاط إيّاهم! فكيف تعيش الديمقراطية معهم؟ وكيف يقبل الجمهور أن تكون نتائج الانتخابات في صالح الديمقراطية… العسكرية؟

        ليس ذلك السبب الوحيد الذي دفع بالزعيم الاشتراكي اندرياس باباندريو إلى سدّة النجاح الثاني، بعد أربع سنوات على فوزه الأول، التاريخي عام 1981 عندما أطاح حزبه ديمقراطياً بالسلطة العسكرية الدكتاتورية، ولا يقلّل من قيمة ذلك كون الجنرالات قد تنحّوا بشكلٍ طوعي، في الظاهر، ومرغمين في الواقع، مفسحين في المجال أمام المدنيين للتغلب عليهم، رغم كونهم مدجّجين بالسلاح.

        من الأسباب الأخرى الشديدة الأهمية إقبال سكان الريف على التصويت لصالح الحزب الاشتراكي، والفضل في ذلك يعود إلى التقديمات الملحوظة التي منحها الحزب الحاكم لمزارعيه خلال الولاية الأولى من الحكم. فقد تحسّنت شروط الحياة في الريف ممّا قلّص بشكلٍ ملحوظ هجرة الريف نحو المدينة، لا سيما في صفوف الشبيبة، كما استفاد المزارعون من الضمانات التي قُدّمت إلى المواطنين، لا سيما الإجراءات الخاصة بالأجور التقاعدية للمرأة، والتطبيب المجاني، واللامركزية في مجال التجهيز الطبي. والمسألة الأكثر أهمية بالنسبة إليهم هي الدعم الذي قرّرت الدولة تقديمه لحماية أسعار المنتجات الزراعية، مستفيدة في ذلك من مساعدات السوق الأوروبية المشتركة الخاصة بإعادة برمجة الاستثمارات والتوظيفات. والحقيقة، أنّ الشعب اليوناني يعرف جيداً أنّ هذه الوفرة من الأموال لم تتدفق صدفة على الريف في عهد باباندريو، بل إنّها تتدفق على اليونان من السماء. غير أنّ مصالح المزارعين تملي عليهم عدم التصويت إلى جانب الديمقراطية الجديدة، إذا كان من شأن ذلك أن يغضب بروكسل عاصمة السوق الأوروبية عليهم.

الـدور الأوروبـي

        من هذه الزاوية بالذات يمكن الولوج إلى مسألة عضوية اليونان في السوق الأوروبية المشتركة. فالعضوية، هي، من دون أدنى شك، حاجة ملحّة للحزب الاشتراكي، لكي تستمر السوق على دعمه وتوفير الإمكانات اللازمة لتنفيذ برامجه في الإصلاح الداخلي، خاصة في مجال التنمية. ويساعد في ذلك أنّ القطاع الزراعي لا يمكن أن يتأثّر سلباً من السوق الأوروبية كما هي الحال في فرنسا، لأنّ هذا القطاع، في اليونان، ما يزال متخلّفاً، بالنسبة لما هو عليه في بقية البلدان الأوروبية، وبالتالي فهو لن يتأثّر إلاّ بشكلٍ إيجابي بسبب ما توفّره السوق من خبرة ومن إمكانات، وبالدرجة الأولى، من دعم سياسي للسلطة الاشتراكية.

        هذا من ناحية المصلحة اليونانية. أما الجانب الأوروبي فهو يرى أنّ له مصلحة في أن تتوحد أوروبا، وأنّه لا بد في سبيل ذلك من إزالة الفوارق بين بلدانها، ومن ردمٍ المسافات، على كافة الصعد، الأمر الذي يلزم أعضاء السوق إلزاماً غير مباشر، ومن أجل إنجاح مشروعهم “القومي” التوحيد، في تقديم الدعم إلى نظام يتلوّن باللون الذي اختارته القارة، لون الديمقراطية. وإلى جانب الرغبة في تشجيع التيارات الليبرالية، وتدعيم الحريات، تظهر أيضاً الرغبة في تقريب مستويات المعيشة، في كافة دول القارة، بعضها من البعض الآخر، وخلف هاتين الرغبتين يختبئ ولا شك مشروع، هو في جانب من جوانبه وهمي أو ضبابي، بحيث يُتاح لكل طرف، على حدة، أن يضع له تصوراً متميّزاً، الأمر الذي لا يعفي اليونان من تحمُّل بعض جوانب الأزمة مع المساعدات الأوروبية.

        الأزمة، بكلام ملموس، تتجسّد في أنّ حزب البازوك الحاكم، كان قد تعهّد عام 1981، في سياق برنامجه الانتخابي، وبشكلٍ حازم، بأن يقطع كل علاقة تربط اليونان بحلف شمالي الأطلسي، وبالسوق الأوروبية المشتركة. ويعود جزء من أسباب نجاحه الباهر يومذاك إلى هذه النخوة المعادية لسياسة الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، خاصة وأنّ هذه الأخيرة وقفت وتقف من الصراع اليوناني التركي ومن القضية القبرصية مواقف منحازة لصالح الطرف التركي. أمّا الموقف من أوروبا فتبريره ضعيف، وهو في جانب منه تعبير عن ردّة فعل قومية حاولت أن تأخذ شكل الانكفاء.

النجاح ببرنامج نقيض

        بعد أربع سنوات على النجاح الأول، أقدم حزب البازوك، بقيادة أندرياس باباندريو على خوض انتخابات عامة ببرنامج انتخابي يكاد يخلو كلياً من الشق المتعلّق بالسياسة الخارجية. وليست المسألة مسألة صدفة. إنّه نوع من “الخجل” السياسي من مقترعين لا تعوزهم الذاكرة. لذلك بدا للحزب الحاكم أنّ أفضل طريقة للهجوم الانتخابي، من دون عقدة ذنب، هي تجاهل النقطة التي تراجع عنها في نهاية الولاية الأولى، دون أن يتمكّن من تقديم الحجّة لمواطنيه. غير أنّ أندرياس باباندريو تجرّأ على التأكيد، خارج برنامجه الانتخابي، أنّ مسألة الخروج من حلف الأطلسي وإدارة الظهر لأوروبا الغربية قد طويت، مما يعني أنّ العقل السياسي “الرسمي” في اليونان لا بد أن يصيبه ارتجاجٍ ما، بعد أن ينقشع ضباب الانتخابات بل وهجها الحار.

        الجانب الآخر من الأزمة ذو طابع أوروبي. فالحزب الاشتراكي اليوناني اختار الانصهار بجيرانه والانخراط بمشروعهم، دون أن يكون المشروع واضح المعالم. والأخطر من ذلك هو أنّ المشروع الأوروبي الطموح يأخذ، عند بعض الأطراف، منحى الصراع مع الولايات المتحدة الأميركية، على نفس الطريقة اليونانية التي بدأت فاختارت المواجهة، لكنّها سرعان ما انكفأت قبل مضي أربع سنوات. وهكذا هي الحال في بلدان المواجهة الأوروبية التي إنْ تجاسرت على المكابرة والعناد في وجه واشنطن لا تلبث أن تتلقّى نتيجة “تهورها”. ذلك أنّ الولايات المتحدة ما تزال، في هذه المواجهة، هي الطرف الأقوى، وهي القادرة على التهويل دائماً بخطر الاتحاد السوفياتي، وهي المثابرة على انتزاع الموافقة تلو الموافقة، والتراجع تلو التراجع من قارة تأمل في أن تقوم بين بلدانها وحدة، اقتصادية في المرحلة الأولى، وربما سياسية فيما بعد، لكي تقوى القارة على الوقوف في وجه الخطر الخارجي،  لكن الخطر الخارجي الذي يتجسّد في الولايات المتحدة، في اللحظة الأولى، سرعان ما ينتقل إلى الشرق وبذلك تنجو واشنطن ويقع الحلفاء في الحفرة التي حفروها بأنفسهم.

جنـرالات مدنيـون

        بعد أربع سنوات عادت السياسة الخارجية في اليونان إلى أُطرها الواقعية، بعد أن تخلّت عن ضرورات القضاء على العسكر، وعلى الذين يقفون وراءهم، أي الولايات المتحدة. أمّا وقد سقط الجنرالات فإنّ الولايات المتحدة فقدت بذلك الركيزة التي كانت تستند إليها، وبذلك رأى الحزب الاشتراكي اليوناني ضرورة التخفيف من حدّة التعبئة المعادية لواسنطن. جانب الأزمة من هذه المسألة هو أنّ الجنرالات الذين لبسوا لباس “الديمقراطية الجديدة” بإمكانهم من موقعهم المدني أن يلعبوا نفس الدور، والولايات المتحدة لا تهتم كثيراً بالزي الخارجي.

        هذا الكلام يأخذ أبعاده الحقيقية في ظل وجود تيار داخل حزب “الديمقراطية الجديدة” المعارض، ينعته أخصامه بالتيار الريغاني، نسبةً إلى الرئيس الأميركي. وهذا التيار أولى من الحزب الحكم في أن يوالي واشنطن، غير أنّه لا يملك، لكي يتميّز عن البازوك إلاّ شعار تخفيض أسعار السيارات التي تباع في اليونان بسعرٍ يوازي ضعف سعرها في البلدان الأوروبية الأخرى.

        التراجع عن شعارات عام 1981 بصدد حلف شمالي الأطلسي والسوق الأوروبية المشتركة، قد يعود بالنفع على اليونان، وقد لا يعود، وهذا ما تحدّده تفاصيل الخطة الحكومية لإدارة شؤون البلاد، لكنه، أي التراجع، بالتأكيد، سيعود بالسوء على أصحابه. لأنّ حيّز المناورة في السياسة لا يمكن أن يمتد من أول الأسود إلى آخر الأبيض.