25 نوفمبر، 2024

صيدا انفجرت ضد أعدائها

ويدفعها الأعداء كي تنفجر على نفسها

        في 16 فبراير دخلت صيدا يوم عيدها على أنغام الفرح العارم الذي أخرج أهاليها إلى الشوارع والساحات وعقد أياديهم في حلقات الدبكة والرقص الشعبي الفولكلوري. ولأول مرّة تمشي الدبابة اللبنانية “الرسمية” بين الجموع لتكون جزءاً منهم ويمشي العسكريون والمدنيون معاً في عرس المدينة، وفي الفرح الذي أهدته لها المقاومة الوطنية. كان ذلك جديداً على المدينة التي بدأ فيها صراع المدنيين والعسكريين يوم أطلق هؤلاء النار على زعيم صيدا وقائدها الناصري معروف سعد.

        فبراير 75 قتل معروف سعد وأعلنت المدينة عصياناً طويلاً، ضد الجيش اللبناني، ثم ضد الظلم والإرهاب والقمع، ضد الفوضى ثم ضد الفلتان الأمني وانتشار السلاح بلا رقيب ولا حسيب، ضد “أبو عريضة” الذي شوّه سمعة السلاح الفلسطيني واندسَّ على القضية ليكشف عن وجهه، بعد خروج المقاومة الفلسطينية، عميلاً إسرائيلياً من الطراز الأول…  أعلنت عصيانها ولم تهدأ إلاّ بعد أن علّقت شارات النصر على الشرفات وأعمدة الكهرباء كما علّق المتنبي التمائم في قلعة عمورية.

                وكــان بهــا مثــل الجنـون فأصبحت         ومــن جثـــث القتـلــى عليهـــــا تمــائـــــم

        اليوم خمر وغداً أمر، حسب قول الشاعر امرؤ القيس. تلك كانت وصية المدينة لأبنائها وزوّارها، فأشارت عليهم بأن يفرحوا بالنصر في أيام تحرُّرها الأولى، وراحت تستعد لاستكمال دورها. إنّها عاصمة المناطق المحرَّرة، بل هي عاصمة تحرير الوطن من الاحتلال، وإنْ شئت، فهي، ولا شك، عاصمة جديدة لحركة التحرُّر الوطني في هذا العالم العربي، فهي المدينة العربية الأولى التي حرّرتها بنادق المقاومة الشعبية بعد أن استخف أبناؤها بالطاولات الإسرائيلية وبعد أن فضحوا مكر العدو الصهيوني ومضوا يصنعون تاريخاً جديداً لبلادهم.

        كل هذا الوجه المشرق من تاريخنا الحديث سيبقى مشرقاً لكم وجهاً آخر يطل على القضية يهاجمها ويتعرّض لإنجازاتها، إنّه وجه التطرف الذي يهدّد حرية المدينة التي اكتسبتها بالتضحيات. إنّه التطرُّف إيّاه الذي دفع البلاد إلى أتون الحرب الأهلية دون أن يقف عند حد، إنّه إمعان المخطط الطائفي الفاشي الذي جسّدته المارونية السياسية عند الموارنة المارونية السياسية عند الشيعة وعند السنّة وعند الدروز حسب قول نبيه بري وزير الدولة لشؤون الجنوب.

        التطرُّف إيّاه كان هذه المرّة على يد فئات دخلت إلى المدينة يوم عرسها لتخلع عنها ثوب العرس ولتضع في الكفّة الثانية من الميزان بذور فتنة توازي ما في الكفّة الأولى من شرف المدينة في خنق الفتنة.

        حتى لا يكون الكلام عن التطرُّف أُحجية، فقد ذكرت الوكالات أنّ مدينة صيدا قد شهدت في الأيام التي أعقبت الانسحاب الإسرائيلي، وفي غمرة الفرح الذي عاشت فيه، حادثتين اثنتين. في الأولى دخل ملثّمون إلى بعض المحلات التجارية وحطّموا بعض الواجهات فيها، زاعمين أنّهم يزيلون منكراً أمرهم الله بإزالته. وفي الثانية دخل إلى شوارع المدينة جماعة من الرجال الذين يخشى أن يتحوّل دورهم إلى دور “أبو عريضة”، فأطلقوا النار إرهاباً وترويعاً وأقفلوا المدينة في وجه الفرح، وزعموا بدورهم أنّهم يعبّرون في ذلك عن استنكارهم لمصرع واحد من ذويهم كانت المقاومة الوطنية قد أعلنت مسؤوليتها عن إعدامه بسبب عمالته وارتباطه بالعد الصهيوني.

        استمرّت الحادثة الأولى أقل من نصف ساعة ولم تتجاوز الثانية أيضاً هذا الوقت، وهذا، بالطبع، أمر لا سدعو إلى القلق في ظل اعتياد المدينة على أعمال عنف كانت تستمر، حين حصولها أياماً وأياماً. كما أنّ نتائجها المباشرة لم تكن هي أيضاً مدمّرة. بعد الحادثة الأولى كنس أصحاب المحلات شظايا الزجاج ونظّفوا الواجهات وفتحوا يوماً جديداً من العمل، وبعد ساعة من الحادثة الثانية عادت المدينة واكتظّت شوارعها بالناس ومحلاتها بالتجارة.

        بل إنّ المراقب يذهب في تفاؤله أبعد من ذلك حين يسمع تصريحات رجال الدين المسلمين في المدينة وهي تُجمع على استنكار تحطيم المحلات بحجّة بيع المشروبات الروحية، فقال أحدهم لا يجوز أن يُقاوَم المنكر بالمنكر وقال آخر: لقد أمر الله بالنّهي عن المنكر لا بزجر الناس، وقالوا جميعاً إنّنا في بلدٍ متعدّد الديانات والمذاهب، ورفعوا صوتهم مندّدين بمن يحاول من المسلمين، إخضاع البلد بكل طوائفه إلى حكم الطائفة الواحدة، في وقتٍ يناضل اللبنانيون، والمسلمون خاصة، ضد إرهاب المارونية السياسية للطوائف اللبنانية الأخرى.

        وبعد الحادثة الثانية ذهب علماء الدين فأقاموا الصلاة على نهر الأولي، ذلك النهر المبارك الذي غسل ضفّتيه بعد دنس الصهاينة. وكانت تلك الصلاة الرمزية تعبيراً عن رغبةٍ في توجيه المشاعر والبنادق إلى حيث ينبغي أن تتوجّه: إلى ممارسة الفرح، فرح التحرير، وإلى استكمال المقاومة حتى تكون جغرافية العيد أكثر اتساعاً.

        إذن انتصرت صيدا على الفتن التي خططت لها إسرائيل لكن ذلك لم يقضِ على بذور الشر. ففي محيط صيدا من المناطق التي تواجدت فيها القوات اللبنانية ما تزال عناصر من هذه القوات تحمل السلاح وتقوم بأعمال الخطف والتنكيل بالمواطنين وهذا ما يحمل على الاعتقاد بأنّ من شأن ذلك، إذا استمرّ، أن يدفع المناطق المحرّرة، إلى مخاطر انفجار المعارك من جديد، بين المقاومة الوطنية وبقايا القوات اللبنانية التي ما انفكّت تأمل بمعاودة  اعتداءاتها وتستمر واقفة على المتاريس مانعة كل محاولة لإدخال لبنان في احتمالات السلام.

        كما أنّ مخاطر أخرى أشدّ تدميراً، إذا حصلت، ما تزال أيضاً تهدّد المدينة خاصة تلك الناجمة عن مشاعر مذهبية تغذّيها بعض المواقف المتطرفة. فالمدينة كانت قد قرّرت تسليم الأمن فيها للجيش اللبناني في ظل تعهُّد من الجيش بأن لا يكون ضد جماهير السكان وألاّ يقف في طريق المقاومة اللبنانية، وإلاّ فسيكون للمدينة رأي آخر. لذلك شكّل الظهور المسلّح خرقاً فاضحاً لقرار المدينة وانتهاكاً لإنجازها العظيم. كما شكّل ظهور بعض عناصر شيعية يكتنف انتماءها السياسي كثير من الالتباس، في شوارع المدينة، تحذيراً من فتن مذهبية لم تعرف صيدا، في تاريخها، أثراً منها. وقد شجع المشاعر والغرائز المذهبية على البروز أنّ أحد العملاء الإسرائيليين، من الذين يقيمون في صيدا في ظل الاحتلال، وهو من غير سكانها الأصليين، تمكّن، وحده من بين سائر العملاء، من الفرار خارج المدينة وتدور شائعات مشبوهة تقول بأنّ محاكمته ستكون صورية، وبأنّ من الأولى أن يكون جزاؤه مثل كل العملاء وإلاّ فإنّ تمييزه عنهم يصب في خانة الاعتداء على المدينة.

        … ما تزال المدينة تكنس شوارعها من ركام الاحتلال وتزينها بزينة العيد. وما تزال فاعلياتها تواصل اجتماعاتها حتى تكون صيدا نموذجاً يحتذى في كل المناطق المحرّرة. وحتى لا يحمل الذين حرّروها، بجريرة المندسين، وزر السلاح وآفاقه، وحتى يبقى السلاح، خفياً، مضمراً، صامتاً، يذهب من مخبأ في مكانٍ ما إلى رأس جندي إسرائيلي أو إلى رأس عميل.