ظاهرة الطائفية وعلاجها
يجمع المشاركون في السجال على أن الطائفية جزء عضوي من بنية المجتمع اللبناني. فهي متغلغلة في تفاصيل حياة اللبنانيين اليومية وفي علاقاتهم الاجتماعية والثقافية وفي عاداتهم وتقاليدهم، ويجمعون على أن الطائفية تكمن، على وجه الخصوص، في الطريقة التي يمارس فيها أهل النظام السياسة في لبنان(في الممارسة السياسية). أما النص الدستوري فلا يتضمن سوى تلك «التقاطعات» المذكورة أعلاه بين المعطى الأنثروبولوجي الثقافي والمعطى السياسي المتعلق ببناء الدولة (التوازن الطائفي في تشكيل الوزارات والوظائف الذي تنص عليه المادة 95، اعتماد القيد الطائفي في التمثيل البرلماني، قوانين الأحوال الشخصية) والتي ينص الدستور على الطابع المؤقت للأولين منهما
الطائفية هي التعبير اللبناني عن ظاهرة التنوع الموجودة في كل بلدان العالم الحديث، ونادرة هي حالات الصفاء في التركيبة الاجتماعية لأي بلد من البلدان على الكرة الأرضية، ويتوقف على الإدارة السياسية توظيف هذا التنوع وضبطه وتوجيهه أو تفجيره في نزاعات وحروب أهلية. ومن الثابت أن نجاح المجتمعات في إخماد النزاعات والاضطرابات الناجمة عن التنوع مرتبط بمدى نجاحها في بناء الدولة الحديثة القادرة على استحداث رابط المواطنية الذي يوحد الروابط الأخرى ويجمع بينها ويسمو عليها وفي الوقت ذاته يصونها ويحافظ عليها ولا يلغيها. تلك الدولة هي التي يتساوى فيها المواطنون، على اختلافهم وتنوعهم، تحت سقف القانون. وبعبارة أخرى، هي التي يسود فيها القانون ذاته على جميع المواطنين، إذ ليست سيادة الأوطان إلا سيادة القانون الواحد فيها، داخل أراضيها وعلى حدودها.
الدولة الدستورية شكلت واحداً من الخيارات المطروحة على الأوطان المستحدثة بعد الحربين العالميتين، لكنه الخيار الوحيد المفضي إلى الحداثة، فيما اتجهت مشاريع الدولة الدينية والدولة الاشتراكية ودولة الوحدة العربية إلى عدم الاعتراف بالدستور أو إلى انتهاكه أو إلى إلغائه بفرض حالات الطوارئ والأحكام العرفية، ولم يكن الاعتراض على النظام اللبناني من باب الطائفية أو من باب الولاء للغرب الرأسمالي إلا وسيلة استخدمتها أحزاب الله، في الحكم كما في المعارضة للانقضاض على الدولة الدستورية، كما استخدمها من وقف من هذه الأحزاب موقفاً نقدياً، انطلاقاً من الخلفية القومية أو الدينية ذاتها، على غرار ما فعل ياسين الحافظ، الماركسي القومي، حين اصطف مع من نعتوا «الميثاق الوطني لعام 1943 بأنه مبني على مرتكزات طائفية صريحة، تنفي عن الكيان اللبناني صفة الوطن»، من غير أن يقدموا دليلاً على ذلك من نصوص الميثاق، منطلقين من أن الطائفية ليست شيئاً آخر سوى التنوع، ومن أن هذا التنوع يندرج في إطار مشكلة الأقليات في الوطن العربي التي لا حل لها إلا في إطار الوحدة العربية بقيادة «القوم السني» بحسب تعبيره.(ص166 وص227 من كتابه، في المسألة القومية الديمقراطية، دار الحصاد، دمشق، 1997). إننا نعتقد أنه كان من الأولى، بدل شن الهجوم على الدستور وتعطيله بالانقلاب العسكري أو بالثورة الشعبية، بذل الجهود للتمسك به والحرص عليه، ثم العمل على إدخال التحسينات والتعديلات اللازمة عليه، لا سيما في المواد والفقرات التي تنتقص من سيادة القانون، ومن بينها قوانين الأحوال الشخصية.
رفع شعار العلمنة كحل لمعضلة الطائفية، مع أن دستور الدولة اللبنانية دستور علماني لا يعتمد النصوص الدينية مرجعاً، وكان من الأولى أن يرفع شعار تعزيز الديمقراطية وتخليص الدستور من المواد المتعارضة مع سيادة الدولة،أي سيادة القانون داخل الحدود وعلى الحدود، وكذلك تخليص الممارسة السياسية من انتهاكات الدستور.
من المواد المتعارضة مع سيادة الدولة تلك التي تنص على منح الهيئات الروحية صلاحية تشكيل مؤسساتها بموازاة مؤسسات الدولة أو بديلاً عنها، وهنا أيضاً ارتكب العلمانيون خطأ فادحاً حين طالبوا بإلغاء قوانين الأحوال الشخصية فيما كان المطلوب إلغاء المؤسسات القضائية وإلحاقها بالقضاء المدني، وإخضاع المؤسسات الدينية للرقابة المالية للدولة ومنعها من جباية الضرائب، وإخضاع المنابر الإعلامية المرئية والمسموعة، بما فيها مكبرات الصوت والفضاء العام والأملاك العامة، كالطرقات وأعمدة الكهرباء، لسلطة الدولة؛ فضلاً عن سن قانون اختياري للأحوال الشخصية، فيكون للدولة قانونها ولكل طائفة قانونها، لكنها جميعاً تخضع لسلطة القضاء المدني الذي يحكم باسم الشعب اللبناني، لا باسم الأب والإبن والروح القدس ولا باسم اللّه الرحمن الرحيم. مثل هذه الإجراءات لا تكون موجهة ضد الدين والمعتقدات ولا ضد الوعي الديني الشعبي، بل ضد المؤسسة الدينية التي تمارس السلطة بديلاً عن الدولة، وقد أثبتت التجربة في كل من تونس وماليزيا، وكذلك في كل الأنظمة العلمانية، أن فرض سيادة الدولة داخل أراضيها، أي على رعاياها، هو الذي يوفر لها فرص النجاح في فرض سيادتها على حدودها، لأن الوحدة الوطنية الداخلية هي شرط أساسي وضروري، وقد لا يكون كافياً، لمواجهة أي خطر خارجي.
أما انتهاكات الدستور، باسم الطوائف، فهو ما كان يمارسه أهل السلطة بخجل قبل الحرب، ثم تجاوزوا بعدها كل الحدود فألغوا الأسس الديمقراطية في النظام اللبناني: تعطيل الدستور، تعطيل عمل الهيئة التشريعية، تحويل القضاء من سلطة ثالثة إلى واحدة من إدارات الدولة الملحقة بالسلطة السياسية، إلغاء مؤسسات الرقابة، تزوير الإرادة الشعبية وإفراغ العملية الانتخابية من مضمونها الديمقراطي بتفصيل القوانين على أساس المحاصصة وتقدير نتائجها سلفاً.
إلغاء الطائفية، فضلاً عن كونه لا يشكل علاجاً ناجحاً لهذه الانتهاكات، مستحيل لأن الطائفية متغلغلة في النفوس والعادات والتقاليد باعتبارها واحدة من مظاهر التنوع التي يمكن ضبطها والتعامل معها كمصدر غنى في الثروة البشرية والثقافية. أما إلغاء الطائفية السياسية فهو مناورة طرحتها قوى التغيير ثم وقعت ضحيتها بعد أن تحول النظام البرلماني الديمقراطي اللبناني، على يد رجال السياسة وفي غياب رجال الدولة، إلى نظام توتاليتاري استبدادي تحولت فيه الحرية من واحدة في سلّم القيم الكبرى لحقوق الإنسان إلى أداة لممارسة الفساد العلني ومنصة للتطاول على الدولة والقانون والقيم الأخلاقية. وأفضل من وصف هذه الحالة رجل القانون نقيب المحامين الأديب والشاعر رشيد درباس في قوله «أن دولة، أنشئت في فجر القرن العشرين، على قاعدة قانون أساسي عصري(في وقته) وفق أصول مدنية، تراعي التنوع الطائفي، لكنها غير دينية على الإطلاق، تحكمها قوانين وضعية، وفيها سلطات مستقلة عن بعضها رغم وجود هيمنة الانتداب، في إطار معادلة جغرافية عبقرية، غسلت بالموج أقدام الثلج، ووصلت السهل بأسواق المدن، وصانت بالنص القانوني للأكثرية والأقلية، حق التمثيل وتجاورت فيها المآذن والأجراس يمكن لهذه الدولة أن تصبح محل عبث ينكره حتى صموئيل بيكيت رائد مسرح اللامعقول» (جريدة النهار 8 تشرين الأول 2018)
الحل بالدولة، دولة القانون والمؤسسات والكفاءة وتكافؤ الفرص والحريات والديمقراطية.
خاتمة الفصل المتعلق بالطائفية في كتاب أحزاب الله. أما الفصل فهو مشاركة في السجال مع مؤلفات مهدي عامل عن الطائفية
المصدر :
مقالات ذات صلة
هل يكتب التاريخ الحديث بمصطلحات طائفية؟
جامعة الأمة العربية ومحكمة العدل الشعبية
نقول لحزب الله ما اعتدنا على قوله