22 نوفمبر، 2024

في تكريم الحاجة أم شكيب

بعد عام ونيف على الاحتلال ، في خريف 1983 . غادرت الوطن في إجازة قصيرة لأعود وأستأنف نضالي ضد الاحتلال . وإذ بصوت صديق على الهاتف ينصحني أن أبقى حيث أنا ، حرصا على حياتي . رفضت النصيحة متذرعا بأنني مدعو للعودة لا بدافع وطني فحسب ، بل بالواجب الوظيفي والدخل الشهري . قال : أنا مسؤول عن دخل شهري  تحدده أنت بنفسك ، وألتزم به تجاهك من الآن إلى أن تتقاعد من وظيفتك . شكرته على المبادرة وعلى هذا السخاء ، إذ تأكدت من أنه لا يتوانى عن مثل هذا السخاء للأقربين والأبعدين ، حرصا على حياتهم ، مثلما أنه لم يتوان عن تقديم ما يلزم تقديمه ، وما يمكنه تقديمه ، حرصا على الوطن وتحريره من الاحتلال .

صوت الصديق هذا ، الذي ناداني من قارة إلى قارة ، وناشدني أن أحرص على حياتي ، في ظل تهديدات إسرائيل وعملائها ، كان صوت شكيب قاطبي . ولأن القرابة بيننا كانت لا تزال حديثة ، وكنت لا أعرفه بعمق ، فهو خطب قريبة لي وهاجر، قبل أن تتوطد العلاقة بيننا . قلت في سري ، وقد ازددت إعجابا به واحتراما له وحبا : من أي طينة جبل هذا الرجل ؟ وصرت شيئا فشيئا أكتشف أنه مجبول من طينة أم رائعة هي أم شكيب ، قبل أن تصير الحاجة أم شكيب .

كان اتصاله بنا أنا وزوجتي ، على هاتف المنزل ، أسهل من اتصاله بأهله ، ثم إن الأخت تجعل العديل أخا لعديله . وكان علينا أن نأتي إلى أهله ، في أرنون أو إلى حيث هجرتهم الحرب ، لكي نوصل رسالة أو ننقل تحية .

كنا ندخل إلى بيت يعج بالأولاد والأحفاد والأقارب والجيران والأصحاب . كانت  الحاجة  تستمع إلى أخبارشكيب ، وهي توزع ” المأمورية ” على الموجودين من أهل الدار ، فتكلف كلا منهم بمهمة ، وحين نهم بالخروج ، نجد أمام السيارة زوادة التكريم ، مما توفر في المنزل ، لبن بلدي وبرغل وخبز مرقوق من صنع يديها وكل ما يتوفر . والويل الويل إن لم أقبل هديتها . فما تفعله هو دأبها ، وامتناعي عن قبول الهدية هو تحد لتقاليد  الدار وخرق لقوانين الضيافة عندها . هكذا كانت تتصرف معي و مع سواي ، زائرا كان أو عابر سبيل أو متسولا ، فكيف إذا كان القادم من طرف شكيب ؟!

في بيتها مؤونة للساكنين ومؤونة أخرى للقادمين . وإن قصرت مؤونة الضيوف ، فالهدية من مؤونة الساكنين ، تعطي ما لديها حتى لو لم يبق لأولادها رغيف واحد .لم يحصل ذلك حين صارت ميسورة بمال الاغتراب ، لكنه كان يحصل فعلا حين كانت تحرم أولادها قوت يومهم لتعطيه لأول طالب حاجة . كنا نردد بيتا من الشعر عن تكريم الزائرين ، تعلمناه من أهلنا : نحن الضيوف وأنت رب المنزل ، وكنت أرى كأن الحاجة أم شكيب هي التي نظمته ،أو كأن السخاء على يديها هو جزء من يديها . فهي تذكرني بشعر قيل في الكرم ، وكأنه الحفر والتنزيل على كرمها :

ولو لم يكن في كفه غير روحه              لجاد بها ، فليتق الله سائله

تعود بسط الكف حتى لو أنه                 ثناها لقبض لم تطعه أنامله

حين عاد شكيب مع عائلته في أول زيارة لوطنه بعد الغربة ، أقام في منزلي الصغير ، لأنه أكثر أمانا في زمن الحرب ، وخشيت أم شكيب من أن أنافسها على محبته ، لكن حلت القضية بكرمها ، فجعلتني واحدا من أسرتها ، وساوتني بأولادها ، وخصصتني بمونة العام .

                         *************

حين جئت إلى بيتها معزيا قرأت يافطة تكريم على الباب ، عليها  كلام من ذهب . كلام يؤكد أن فعل الخير يحفر في قلوب البشر ولا تنساه الذاكرة ، لكن الذي اختار نص اليافطة ، لا فض فوه ، ربما لم ينتبه إلى أن ” من خلف ما مات ” ، وأن موت الحاجة أم شكيب لم يقفل باب السخاء ، لأنها ، قبل أن تغادر، سلمت مفاتيحه لمن ربتهم وأنشأتهم ورعتهم على محبة الآخرين ، شبابا ونساء وأصهارا وأحفادا ، أطال الله أعمارهم .

حين جئت معزيا ، وجدت أن البيت الذي أدخله ليس هو البيت الذي كنت أزوره قبل أن يدمره العدو مرتين ، ويعمره شكيب مرتين . وإذا كان قد غدا صرحا ، أو بيتا تبدو على مدخله مظاهر الثروة والمال ، إلا أن المنزل القديم ما زال حيا في مخيلتي ، وما زالت صورته ماثلة أمامي ، البيت ذاته  بقيمه وعاداته وتقاليده وحفاوته واتساعه .

كان بيتا من بيوت الفلاحين ، وكم نعتز أن نكون نحن ، جيل شكيب ، متحدرين من سلالة الفلاحين . بيوتهم كانت كرما على درب ، ومقصد الفقراء والمحتاجين . لكن بيت أم شكيب كان على تقاطع الدروب بين الطيبة ويحمر وأرنون والنميرية وحاروف وكل القرى التي هجرت إليها ، وكان ملتقى لعلاقات شاسعة بنتها بكرم اليد وكرم النفس .

 ربما يكون أهلنا الفلاحون آخر تلك السلالة من القيم التي نفتقدها اليوم . صحيح أننا تربينا في كنفهم على القلة وفي بيوت متواضعة ، لكننا كنا نحس أن الفلاح المكتفي سلطان ، على ما يقول المثل ، وكنا نتعلم من حياة الفقر والقلة وشظف العيش  قيما هي ثروتنا الكبرى ، رضعناها من حليب أمهاتنا ، وتعلمنا منهن معاني العفة والمروءة والشهامة  ، وتعلمنا التواضع وأن القناعة كنز لا يفنى ، وتعلمنا الإباء وعزة النفس ، وغيرها وغيرها ، وثأرنا من فقرنا بالعلم والعمل والمثابرة .

تعلمنا منهم الصبر ، وربما لذلك قال أحد الفلاسفة عن الفلاحين أنهم أسوأ طبقة عرفها تاريخ البشر ، لأن الصبر كقيمة أخلاقية ، تعني ، بلغة السياسة ، الاستكانة للظلم  والسكوت عن الظالم . لكن ذلك ليس مذمة للفلاح بل للسياسي، وإذا كان الصبر يعني انتظار الفرج، من السماء ومن عرق الجبين ،  فالسياسة تعني التنافس  على المصالح ، مصالح السياسيين لا مصالح الناس ، والتنافس تفرقة وحروب ودمار وخراب وهجرة وخسارة وطن . وما أحوجنا اليوم إلى سياسيين يتعلمون من الحاجة أم شكيب كيف بنت عائلة من أولاد وأحفاد وأصدقاء ومحبين ، جمعتهم ، على تباعد قراهم ، وشدت أواصر الإلفة بينهم ، لعل السياسيين يعرفون كيف يجمعون شعبا ويبنون وطنا .