سأحدثكم عن أمي . عن أم لم تلدني وتعلمت منها كيف تصير الكنة ابنة ، والحما والدة . هي التي جعلتنا ، نحن زوجات عاطف ومحمد علي ومقلد ، بمثابة بناتها وأخوات لابنتها هيبات ، مثلما جعلت صهرها عبد الأله حمود أخا رابعا لأبنائها الثلاثة ولنا.
كأنها كانت تردد مع جبران ، أولادكم ليسوا لكم ، أولادكم أبناء الحياة. لذلك كانت تحب ما يحبون ، وتحترم خياراتهم ، وتتفانى من أجلهم ومن أجل من يحبون.
هكذا كبرت عائلتها الصغيرة ، وصارت حين تخاطبنا تنادينا ، يا ابني ، يا بنتي .
أغدقت علينا النصح والتضحيات …وقدمت لنا كل صنوف المساعدة . من شال الحرير الذي حاكته بأناملها والسنارة ، إلى تزويدنا في أول كل اسبوع بطبخة ، إلى تربية أبنائنا ، أحفادها ، ومرافقتهم عاما فعاما إلى أن يتخرجوا من مدرسة الحضانة ، مدرستها. هي كانت تتفرغ لتواكب طفولة أحفادها وتتفرغ لترعى بيوتنا ، خصوصا العاملات منا ، فكانت لنا الأم وربة المنزل والمربية .
حنان وتضحية وصدر رحب وتفان … تلك هي بعض من مزايا أمنا الرائعة ، أم عاطف .
منها تعلمنا كيف نحب الآخر ، كيف نغفر للمسيء، كيف نكرم الضيف ، ونسعف المحتاج ، ومنها تعلمنا كيف تكون المساعدة من غير مقابل . ومن ينبوع عطائها نهلنا دروسا في الاقدام والشجاعة والنضال ومواجهة الصعاب.
هي التي قررت ، بالتشاور مع بعض نساء القرية وشاباتها ، أنه لا بد من تشييد قاعة للنساء ، فعقدت العزم وقصدت بيوت الأهل في القرية وفي بيروت لجمع التبرعات ، وكان لها ما أرادت . ارتفع صرح القاعة ، قاعة النادي الحسيني للنساء، ثم تولت صبايا القرية من بعدها توسيع القاعة وتأهيلها ، وتشاء الظروف أن تكون اليوم خاضعة لأعمال الصيانة .
تعلمت منها ، أنا وسواي ، بعضا من دروس النضال الوطني ، ومن دروس النضال النسائي. كانت غزيرة المبادرة ، ومثالا في الاقدام والشجاعة ، ونموذجا فذا للمرأة المقاومة .
نقلت السلاح لإخفائه عن أعين المحتل ، حملته تحت جناح الليل إلى أقرب الوديان ، حفرت وأودعته . وحين كانت تتردد لتتفقد مزروعاتها، كانت تصادف أفرادا من المقاومة الوطنية اللبنانية ، تطمئنهم قائلة لا تخف يا حبيبي ، فلن أبوح بسر نضالك. غدا ، انتظرني هنا سآتيكم بزاد من الخبز والطعام وحلويات المنازل .
الحاجة أم عاطف ، أمي ، امرأة عمي ، كانت سيدة سيدات القرية . هي المرجع في حل المشاكل وطلب المشورة والرأي الفصل . خبرة وثقافة وحكمة . اعتادت على قراءة الصحيفة اليومية ، وحافظت على هذه العادة حتى الأسابيع الأخيرة من حياتها .كانت لا تقفل كتابا إلا لتفتح آخر.
أمي ،أم عاطف ،صارت هي كتابنا الذي نقرأ فيه كل مساء ونتثقف منه . كتاب التاريخ . تاريخ قريتنا وعائلاتنا ، تاريخ يأنس الجمع حين يغرفون منه وقائع ماضينا ، ماضي الفلاحين الذين يقصدونها للرقيا أو لعقد لسان الوحش ، وماضي الحرفيين الآتين إلى قريتنا ، الاسكافي والمبيض والحداد ، الذين كان يتسع بيتها ، بيت أبو عاطف ، لاستقبالهم بوجه بشوش وكرم يشبه كرم الفلاحين .
أصدقاء أبنائها أصدقاؤها بل أبناؤها . لم تكن تتردد في مصافحة من تعرفه منهم أو من تعرف أنه صديق أحد أبنائها، تعانقتهم وتقبل وجناتهم ، لأنهم بمثابة أبنائها ، وترمي خلفها عبء التقاليد الثقيل المتعلق بالحجاب أو بتحريم المصافحة . كانت مقصدا . حين نلتقي بصديق من أصدقائنا يكون سؤاله الأول عنها وعن صحتها ، وتستحضر الذكريات الجميلة معها ، صديقة للجميع وأما للجميع.
دخلت إلى بيتها في النصف الثاني من حياتها. عرفت النصف الأول من أم عاطف الراوية الأديبة المحللة السياسية . تسنى لنا أن نسجل بعض حكاياتها وسنعيد الاستماع إليها في كل حين .
هي المرأة المكافحة ، المرأة العاملة ، هي خياطة القرية ، قارئة الأدعية وقارئة مجالس العزاء في بيتها في أيام عاشوراء .
بعد أن غادرها زوجها، عمي المرحوم أبو عاطف، إلى الحياة الآخرة ، أصبحت هي الأم والأب. كانت تساعده في الفلاحة فصارت هي الفلاحة ، مضيفة إلى أدوارها دور المرأة المزارعة . رعت الأرض وشجرتها وزرعت وجنت.
دورها الريادي ظل هاجسها حتى عندما غزتها الشيخوخة . لم يكن يفوتها واجب اجتماعي مهما بلغت المسافات، ولم تكن ترضى أن يفوتها نشاط اجتماعي أو ثقافي ، في ندوة أو أجتماع أو محاضرة ، وكثيرا ما أنست برفقتها مع والدي رحمه الله ، وكانا وليفين متقاربين في العمر .
حين سألتها ، هل ترغبين بزيارة مليتا، قالت أتمنى. رافقتها ، فأدهشتني بملاحظاتها وتقييمها لهذا المعلم السياحي ، وبأحلامها وهي على أبواب التسعين.
إرادتها القوية وحبها للحياة جعلاها تقوى على الوهن والشيخوخة . وما زالت عبارتها درسا لي وللعائلة حين ضبطناها تسير من غير عكاز … قالت لنا ، بدي اتعود بلاها . كان ذلك قبل أن تغادرنا بأشهر قليلة.
هذه هي أمي الثانية ، الحاجة أم عاطف . أنا فخورة بك أيتها الحبيبة ، فرحة بذكراك. من كان مثلك يذكره محبوه بفخر واعتزاز ، وكذلك يذكرك الذين دخلوا بيتك ونهلوا من تجربتك وحنانك.
لن ننسى دور الأم التي ربت أبناءها فبرعت ، ثم أحفادها فأخلصت وأبدعت.
لحظات قاسية كانت حين بدأت رحلة المغادرة . قاسية كانت تلك اللحظات التي عشتها قربك ثانية بثانية .
كالشمعة أخذ ضوؤها يخفت إلى أن انطفأ. صفحة من تاريخنا قلبت . لكنك باقية في ذاكرتنا وسنحملك إلى ذاكرة الأجيال.
مقالات ذات صلة
محمد حسن الأمين مُفرد بصيغة الجمع
منى
في تكريم فاطمة مشورب(فاطمة عباس)