فاطمة آخر حبات العنقود. كانت العائلة توكل إلي أن أودعهم، واحداً بعد الآخر، مثلما أودع الآن فاطمة، أن أكرمهم بكلمة. قبل فاطمة غادرتنا أخواتها زهيا ومروى وراجحة، وإخوتها عادل وعلي وصبحي وخليل. شجرة عائلة جذرها ابراهيم مشورب، ونسبهم الأكثر تداولاً وشيوعاً هو عباس بدل مشورب، من أمٍّ هي عمشه مقلد. وهي شقيقة جدتي لأمي. لكن، ليس بسبب هذه القرابة الدموية فحسب صرت كأنني أحد أفراد العائلة. فلو سأل أحدكم عن أشقاء وشقيقات جده وجدته، لأمه وأبيه، لوجد نفسه موصولاً بحبل النسب إلى نصف سكان القرية من أترابه, وإلى بعض سكان آخرين في قرى قريبة وبعيدة.
التقيت على إحدى وسائل التواصل الاجتماعي مع صبية متحدرة من هذا الحسب والنسب، وسألتها: هل تعرفين أن علاقة قربى تجمعني بك قبل أن تجمعنا وسائل التواصل؟ قالت وكيف ذلك؟ قلت لها ، اسألي والدك. جدته وجدتي شقيقتان، أي أن والده ووالدتي أبناء خالات. وبعدما روت لوالديها، راحت تذكّرني في اليوم التالي أن جدة والدتها هي الأخرى شقيقة جدي. تلك الصبية هي المحامية جنى والدها الدكتور ابراهيم بن عادل بن ابراهيم مشورب وعمشه مقلد، ووالدتها منى، بنت غالب يوسف محيدلي وجدتها مريم مقلد شقيقة جدي واكد.
وهكذا تجمع الأرحام بين الأجيال, ويصير الواحد منا موصولاً، عبر شبكة شائكة من روابط القربى، إلى أترابه وإلى الأبناء والأحفاد ممن أبعدتهم الأيام وصروف الحياة فقصدوا المهاجر للعلم أو للعمل، حتى صارت شجرة العائلة الممتدة وارفة، تصل ظلالها إلى أقاصي الأرض، وصار لنا، كما هي الحال مع أحفاد ابراهيم مشورب الجد، أنسباء قد لا يعرف واحدنا أسماءهم ولا يرى وجوههم، في عربصاليم وكفرتبنيت والنبطية ودير الزهراني والزرارية وحولا وصيدا وبيروت وزحلة وأميركا وتونس وباريس ولندن وبرلين والخليج وسواها من قرى ودساكر ومدن لا أعرفها.
يحدثنا أهلنا عن آبائهم وأجدادهم ، ونحدث أولادنا عن آبائنا وأجدادنا، ولا ينقطع الخيط .
فاطمة آخر حبات العنقود
ثم شاءت ظروف الحياة أن ألتقي مع أبناء وأحفاد هذه الأرومة الطيبة الذكر، الأرومة التي أنجبت فاطمة عباس، فاطمة مشورب، في مشارب فكرية واحدة، فتوطدت صلات القربى وتعززت إلى الحد الذي جعلهم يتعاملون معي كأنني واحد من ذرية أبو عادل، أو كأني بهم قد منحوني شرف الانتماء، بقرابة الدم والصداقة والعلاقات الرفاقية، إلى صلب تلك الأرومة. وكم كنت فخوراً بثقتهم الغالية حين أوكلوا ألي الكلام في ذكرى أبو ابراهيم عادل مشورب.
قلت في تكريمه، أننا تعلمنا منه ومن جيله، ومن عادات القرى وتقاليدها, ما سيبقيه حياً في أصدقاء لنا ورفاق من أولاده وأحفاده وأنسبائه، شبابا وصبايا يستكملون سباق البدل، لنمضي معا في سبيل أحلامنا الكبرى، لنبني جسوراً تخترق حدود العائلات ولا تدمرها ، تتجاوز حدود الطائفية والمذهبية والمناطقية، جسوراً تبني الوطن والدولة , وطنا هو وطن الحرية والعدالة والسيادة، ودولة هي دولة القانون والمؤسسات. وقلت فيه أنني لم أتفاجأ حين روى لي كيف نقل سلاحاً وآوى مقاومين للإحتلال الإسرائيلي ، وكان يفعل ذلك، لا بطلب من أحد، بل بقوة الانتماء إلى الوطن وإلى الحزب.
لم أكن أقصد، في حينه، أن أسوق هذه الحقيقة لأصادر مناسبة التكريم وأحولها إلى مناسبة سياسية، لأنني ضد تحويل المآتم إلى مناسبة دعائية حزبية، ولاسيما أن الأحزاب ليست في أحسن أحوالها، لا أحزاب نعيم السلطة الجاثمة على صدور الناس بالفساد والضرائب، ولا أحزاب أخرى عينها على السلطة وهي في موقع ملتبس للمعارضة، وأن وسائل الإعلام متوفرة في بيت كل منكم, والبرامج الجادة أو الساخرة أكثر بلاغة مني في فضح سلطة لا تحتاج فضائحها إلى من يدل عليها.
حين غادرنا أبو حسن لم يتسن لي أن ألقي كلمتي المكتوبة في وداعه. اكتفيت حينها بأن أهديت النادي الحسيني، عن روحه وعن روح والدتي رحمهما الله، القرآن الكريم كلّه مرتلاً ومسجلاً على أشرطة. قلت في كلمتي المحفوظة أن أبا حسن المؤمن العميق الإيمان بالدين، حفظ آيات القرآن كلها وقرأ التفاسير… كان يعتقد أن القرآن نص صعب، لا يعلم تأويله إلا الله، الله وحده دون الراسخين في العلم، وأن قارئ القرآن يحتاج ، لكي يفهم مرامي آياته البينات أو المتشابهات، إلى ثقافة لغوية غنية ، لذلك راح يقرأ دواوين الشعر العربي، وحفظ جزءاً كبيراً من ديوان المتنبي، وبعضاً من شعر أبي العلاء المعري. وبهذا الإيمان بالذات جسّد في شخصه خير تجسيد نقطة التلاقي بين الالتزام الديني والالتزام السياسي.
إيمانه كان يشبه إيمان والدتي، رحمهما الله . ربما لأنهما من قرية مختلطة تتجاور فيها الكنيسة والمسجد، وربما لأنهما من جيل تربى على الاعتدال، كان من الطبيعي أن أنتمي إلى إيمانه وإلى إيمان والدتي التي لم تتردد في إرسالي طفلاً إلى الكنيسة، مع الحاجة بديعة النصرانية، لأمارس بين ذراعيها ومع أطفال آخرين طقوس الزيّاح. أما أبو حسن فقد أحب عبد الناصر من غير أن يسأل عن مذهبه الديني، وأصر على أن يمشي في جنازة جورج حاوي الذي لا يخفى انتماؤه الديني على أحد، وشارك في تكريم المقاومين الأبطال، شهداء أو أسرى محررين، في المقاومة الوطنية كما في المقاومة الاسلامية، متمسكا بشهامة الموقف من المقاومة حتى آخر لحظة من حياته، وهو الذي أحب سيرة أهل البيت من غير أن يتعصب لشيعيته.
أما خليل، أبو زياد، فحين تعطلت بوصلات الكبار أو أصيبت عقاربها بالالتواء ، حين ضاعت بوصلة اليسار، نادى أبو زياد : أيها اليسار إلى اليسار در. ناداه بلسانه الدافئ وصمته البليغ ، وحين لم يسمع القيمون نداءه ، انطوى على ذاكرته اليسارية الجميلة ، ومضى غير نادم على شيء.
تعلمنا من أبو زياد الكثير من دروس التضحية والعصامية والمثابرة . درس واحد لم نستطع أن نجاريه فيه وأن نتعلمه ، درس التعبير الصامت . كان يعمل بصمت ، يبني بصمت ، يعلّم بصمت . ولم يأبه لمحبي الضجيج الكلامي والمنابر ومكبرات الصوت . همته العالية لم تكن تحتاج إلى منصات وبروز إعلامي وصوته كان يصل من دون مكبرات.
تعلمنا منه أن المواقف السليمة لا تبنى على الثرثرة ولغو الكلام، بل على الصدق وعمق الالتزام، فلم يكن في حاجة إلى نظريات كثيرة وفلسفات وثرثرات ليعرف الاتجاه الصحيح. كان لباسه التواضع لا التباهي. حتى أننا لم نكن ننتبه، لا نحن، رفاقه في الحزب، ولا زملاؤه في شركة الريجي ، إلى أنه تخرج من كلية الحقوق من غير أن يمارس مهنة المحاماة.
ربما كنت على سفر يوم رحل الدكتور صبحي. لم في أجد في أرشيفي مرثية عنه. لكنني اليوم لا أراه إلا حيّاً في من تحدر من صلبه، من العلماء البارعين في الطب والهندسة، كبيرهم الدكتور أحمد مداوي جراح أهل المنطقة، والإبن المدلل لفاطمة عباس، وشقيق صبحية التي ربتها فاطمة كأنها أمها وبكتها وهي تودعها إلى مثواها كأنها الخنساء في وداع أخيها.
صبحية ، جمال وذكاء وإقدام ومبادرة . و جسد ، على قول الشاعر العربي ، كغصن البان ، ووجه باسم مشع كالصباح ، وجرأة في اقتحام المألوف وكسر التقاليد وصلت حد المغامرة .
كانت ، على ما يذكر رفاق لها في الجامعة وفي النضال ، واحدة من اثنتين تحملان على الأكتاف في قيادة التظاهرات ، من أجل الخبز والعلم والحرية. من أجل لبنان وفلسطين ، من أجل الأمة العربية وفي سبيل الأممية الاشتراكية .
وربما كانت الأولى في جرجوع ، التي اختارت درب الزواج المدني ، وقد رمى بها حظها المنكود في حمأة معارضة شرسة ، فخرجت من معركتها مع العادات والتقاليد مهشمة مقطعة الأوصال والمعنويات ، وانتصر شوك الأعراف على ورد أحلامها. لكنها صمدت وقالت: سأبقى ألأميرة بنت الأميرة.
لكنها ، لم تذق طعم الفوز بالتحدي، لأنها بموتها فحسب أكدت أن هذا الكائن المعقد الذي أسميناه العائلة ، هو الذي يصنعنا بمقدار ما نحن نصنعه ، وهو الذي يرعانا. ففي برلين، على سرير المرض والنزع الأخير جاء إخوتها من أصقاع الأرض ليرعوا لحظات عمرها الأخيرة ، وليعودوا بجثمانها إلى حيث كانت وكانوا. إلى مسقط رأس العائلة.
فاطمة لم تنجب. لكنها كانت أماً لأولاد كثيرين، أماً لأحمد وصبحية أولاً، وأماً لأولاد خليل وراجحة. وأضافت إليهم أولاد زوجها أبو عصام فرحات، الذين أحبتهم كما لو أنهم من رحمها، لا بسبب رباط الدم الذي كان يجمعها بزوجها، فهي ابنة خالته، بل بفضل مزاياها الفريدة في حسن التدبير والكرم والوفاء.
صديقاتها في الطفولة ظلت صديقاتها حتى الممات. رينيه رزوق أحداهن. ولم تبعدها المسافات عنهن ولا عن ذكرياتها الجميلة في قريتها. وبعد زواجها المتأخر أحبت عربصاليم كما أحبت جرجوع، قائلة مع المتنبي: خلقت ألوفاً لو رجعت إلى الصبا……… لفارقت شيبي موجع القلب باكياً.
وهي أبقت بيتها، بعد غياب أبو عصام، مثلما كان في حضوره، فلم تبخل على صديق أو قريب أو جار أو محتاج أو عابر سبيل، لا بالعطاء ولا بالمشاعر. عاشت السنوات الأخيرة من حياتها وحدها، أرملة في غيابه لكنها كانت تحضر المؤونة كما لو أنها أم لطفل كبير هو الدكتور أحمد، الذي رعته في طفولته واستقبلته مع زوجها السخي الكريم الحسب والنسب أبو عصام، في بيتها في الكويت، قبل أن يصير طبيباً، وفي بيتها العائلي في عربصاليم بعد أن صار البروفسور الجرّح أحمد؛ تحضر المؤونة كما لو أنها أم للعائلة، بل للعائلات، من أبناء زوجها وأولاد إخوتها وأخواتها.
فاطمة آخر حبات العنقود، أخر غصن من الشجرة الأم، شجرة ابراهيم مشورب لكن الشجرة تفرعت وبرعمت وأزهرت وأثمرت وصار لها أغصان في كل مكان. العائلات تاريخنا. وإذا كان التاريخ قد تحرر اليوم من عصبياتنا العائلية والطائفية والمناطقية إلا أن احترامنا لروابطنا العائلية المنفتحة على كل المذاهب والطوائف شرط من شروط التزامنا الديني والتزامنا الأدبي والتزامنا السياسي.
أنت يا فقيدتنا الغالية جزء أصيل من تاريخنا، وصفحة ناصعة وجميلة من ذاكرتنا.
مقالات ذات صلة
محمد حسن الأمين مُفرد بصيغة الجمع
منى
في تكريم أم جمال، فاطمة نعمة مقلد