21 نوفمبر، 2024

في تكريم منى الشامي، زوجة أخي عاطف

ماذا أسميك ؟ وكيف أسميك؟ وردة تفتحت في بيتنا منذ خمسين عاما؟ زهرة عقدت ؟ ثمرها رجال ثلاثة شادي وزاهي وغادي، ونساء ثلاث غيدا وربى وشذا؟

ماذا أسميك؟ أختاً ثانية في بيتنا، إختنا الكبرى وبعدك كانت هيبات؟

كلنا تربينا في بيتها، أختاً محبة أو أماً حنوناً، أنا وشقيقي مقلد وشقيقتي هيبات

ماذا أسميك؟ بنت الطيّبين رضا الشامي ورغدة كربلا، هكذا من غير ألقاب،وأخت الطيّبين علي وطلال ووليد وهدى ؟

منى، منة الله، كانت أجمل بنات جيلها؟ أم أنت منى عاطف وأمنيته الغالية؟ قال وهو يرثيك ويشتاق إليك إنه كان يرغب في أن يقضي ما تبقى من العمر معك، كان يرغب أن تترافقا حتى نهاية العمر، أن تكملا معا رحلة العمر مع أحفادكما لكنه القدر.

كانت أجمل بنات جيلها وظلت على جمالها إلى أن أصابها المرض، إلى أن أصابها القدر. مرفوعة الرأس كانت تمشي، مزهوة بزوجها وأولادها ، مكشوفة الوجه، لا حجاب هذه الأيام ولا منديل جداتنا، تقيم طقوس الإيمان على طريقة جيلها المتحرر من شكليات التعبد.

مرض نادر يصيب خمسة من كل مليون شخص. ترون ؟ هي الصدفة اللئيمة أم حظنا العاثر أم القدر الذي لا مهرب منه؟ مرض منع عنها النطق والتنفس والطعام والشراب.

كانت تشع منها ملامح الفرح والسعادة كلما نبتت في حديقتها زهرة جديدة، حفيد جديد. كانت سعيدة في حياتها فلماذا اختارها القدر، وكيف يختار القدر، بأي مقياس يقيس ليطيل عمر هذا ويقصر ذاك؟

القدر ليس ظالما فحسب بل هو قاتل بحسب شعر المتنبي الذي قال:

إذا أنت أمعنت الحياة  وصرفها………. لأيقنت أن الموت ضرب من القتل

صحيح أن الموت حق، لكن ، لماذا يخبط خبط عشواء؟ شيب وشباب وأطفال وشعوب بكاملها تباد ونقول القدر. الشعب الفلسطيني لم يشرده القدر، شردته الصهيونية، الشعوب العربية المشرده في أرضها وخارج أرضها لم يشردها القدر،شردها الاستبداد استبداد الأنظمة.

أكلما فقدنا عزيزاً نلجأ إلى القدر؟ القدر وحده الذي لا يحاكم، لا يحاكم لأنه قدر. القدر الأكثر استبداداً من أنظمة الاستبداد والفاشية والنازية.

نعم الموت حق، لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون، إذا جاءهم الموت.

 مع ذلك نستمر في السؤال الغلط، لماذا يأتي الموت ؟ فعلى هذه الأرض ما يستحق الحياة، على ما قال الشاعر محمود درويش. نعم ، على هذه الأرض ما يستحق الحياة.

منى، منة الله، منيتنا، كانت تستحق أن تعيش أكثر، أن تنعم أكثر برفقة من أضافتهم إلى هذه الدنيا، شباباً وأحفاداً. لم تنجب بنات، لكنها أضافت إلى عائلتها ثلاث صبايا هن بناتها.

لم يكن ينغص حياتها شيء إلى أن أصاب المرض مقتلاً. مرض يصيب الخمسة بالمليون من البشر. من أين يأتي وكيف يأتي وكيف يختار وجوابنا المستكين دوماً : إنه القدر.

منى

سنشتاق إليك يا منى.

 من يسخر منا؟ من يتهكمنا؟ من يضحك علينا بقوله إن الانسان يعتاد على الألم، كل أنواع الألم ، ومنه ألم الفراق، الألم لا ينتسى بغير الموت. من يدري ؟ كنا نتخيل ألامك الكثيرة يوم حرمك المرض من النطق ويوم منع عنك لذة المذاق والطعام . لكن ، مهما بلغت مهارتنا في التخيل لن نبلغ صبرك على الألم ولن تكون لدينا القدرة على تحمل القهر، القهر الذي كان يمارسه المرض عليك.

كانت منى تتألم مرتين، مرة من أوجاعها ومرة لأنها لم تكن تريد أن تؤلم من حولها. ظلت وهي في مرضها، هي ربة البيت، تحفظ مواعيد الأدوية لزوجها ودوام الأحفاد في أيام الدارسة وأيام العطل ، وظلت حريصة على رعاية والدتها، أم علي  المفجوعة . حتى وهي على فراش الموت، ومن غير نطق، راحت تذكر غيدا بأن عيد ميلادها سيحل بعد يومين وحددته بدقة على أصابعها. 

حين عز النطق، كتبت على اللوحة الصغيرة أمامها، تسأل عاطفاً، هل مرضي قابل للشفاء، وهل موتي قريب؟ كأنها كانت تسأل عن قدرتها على تحمل الفراق، عن قدرتنا على تحمل الفراق.

منى

كنا نخشى أن تفسري النظرة والتحية والسلام في غير محلها، أن تري في عيوننا، حين  نزورك، شفقة بدل الحب. لا يا منى ، كل الذي كنت ترينه كان حباً. كنت أحتار كيف أصافحك وأخاف من عدم قدرتك  على مبادلتي، فآثرت أن أقبل يدك كما يقبل الصغار أيادي من يكبرونهم سناً، مع أنني وإياها من جيل واحد تقريباً. لم نكن نملك غير أن ننظر إليك بحب، وأن نلعن القدر الذي يخبط خبط عشواء، أن نجلس إلى جانبك بصمت، لنساويك بالصمت، لكننا كنا نصمت بإرادتنا ونتألم لأنك تصمتين بغير إرادتك، لأن القدر أرغمك على الصمت.

من يضحك علينا؟ من يخبرنا أننا سنعتاد على فراقك؟ منى ، لا. أنت لم تفارقينا ، ولن تفارقينا. عطرك يفوح في ورد الحديقة، ووجهك مشرق دوما على شرفات المنزل، سألمحك من منزلي تتفقدين مجيئي مع عائلتي، سأرى وجهك في لهفة زوجتي دنيا عليك، لهفة الأخت على الأخت. سيظل طيفك بيننا، نسمع خطو قدميك كلما كنت تستقبلين حفيداً قادماً من المدرسة، سنراك  في جينات حملتها لأحفادك العائدين غدا من الجامعات.

من له هذه الذرية لا يموت.

 منى ، أنت بيننا في الجينات التي أورثتها لعاطف الحفيد وكندة، لرافي ومجد، لجود ومنى الحفيدة. أنت بيننا على مدخل البيت كل صباح ، سنستكمل طقوس الصباح في الغرفة الزجاجية بحضورك، ولن نذوق الحلوى إلا كما كنت تحضرينها معجونة بالحب.

منى

تعلمنا منك معنى الطيبة والطهارة والرقة. سريعة الدمع كنت حين تغضبين، لكن، لا دمعة  إلا وترافقها بسمة. كأنك كنت تقرئين في كتاب دمعة وابتسامة. بالدمعة كنت تغلبيننا وبالابتسامة أيضا. تلك هي الرقة في أرق معانيها. دمعة للعتب وابتسامة للتسامح.

مدرسة في التسامح والنسيان. قيل إن اسم الانسان مشتق من النسيان. فما بال أهل العنف لا ينسون ولا يسامحون؟ ما بال أهل العنف لا يتعبون من القتل ؟ ما بالهم ينشدون الموت ، مع أن على هذه الأرض ما يستحق الحياة؟

أخي عاطف. منى كانت زوجتك انت ، لكنها أختنا نحن. لست وحدك من خسرها، ولست وحدك من سيفتقد لها. أطال الله عمرك وحماك وأبقاك لنا أبا لأولادك وأحفادك وأخوتك.

لها الرحمة ولنا الصبر ولكم الشكر.