22 نوفمبر، 2024

لا تجهضوا الثورة

في لبنان بطالة وجوع وموت على أبواب المستشفيات وعائلات بلا مأوى ومشردون ينامون في العراء وحالات انتحار. هل هذه علّة أم أعراض علّة؟ من فضائل الثورة أن صدرها اتّسع لكل أنواع الشكاوى والصرخات، فوحّدت آلام اللبنانيين وأيقظت فيهم انتماءهم الوطني، وعمقت لديهم الوعي بأوليته على سائر الانتماءات المذهبية والطائفية والدينية وجمعتهم في كل الساحات والمدن والمناطق، رافعين مروحة واسعة جداً من المطالب والشعارات، تستجيب، بتنوعها وتعددها، لكل أنواع الآلام.

رفعت الثورة مطالبها وشعاراتها وبرنامجها في وجه السلطة الحاكمة. وفيما راح بعض أهل السلطة يتبارون في الموافقة على المطالب ورأوا فيها حقوقاً، لا مجرد مطالب، راح بعضهم الآخر يعترض ويشكك ويدين. غير أن رئيس الحكومة استجاب للبند الأول من برنامجها وأعلن الاستقالة تحت ضغط الشارع. وافقوا على وجود العلة واختلفوا على التشخيص والعلاج. سارعوا إلى رفع التهمة عن مسؤولية نهجهم الميليشياوي المافيوي وجندوا أوركسترا من “خبراء” ممن لا تعوزهم المهارة بتوظيف الجداول والأرقام والتقارير المالية، وصوبوا على الجانب الاقتصادي والمالي والنقدي من الأزمة للتغطية على المتهم الحقيقي. فمن هو المتهم؟ المتهم، في نظر الميليشيات السياسية والعسكرية، المال المتوحش ورجال المال والأعمال والمصارف والصيارفة، ولذلك ركزت الحكومة في ورقة ما قبل الاستقالة على قضية الفساد المالي واستبعدت أي كلام عن الفساد السياسي والأخلاقي الذي عاد بالبلاد قروناً إلى الوراء وشرّع لجباية الأتاوة والخوات، فضلاً عن كل أنواع الاختلاسات السافرة والوقحة والفاجرة. لقد أوقعت هذه المناورة المكشوفة في فخها بعض أهل الثورة وبعض اليساريين ممن أزاحوا التصويب عن الفساد السياسي ووجهوه نحو المال والأعمال، ليقدموا، عن غير ما قصد، خدمة لا تقدر بثمن لأرباب الاستبداد. وإذا كان مصدر الفساد وعلته وصنّاعه، حتى المالي منه، هم القابضون على السلطة السياسية، فالبرجوازية اللبنانية تتحمل مسؤولية من نوع آخر. هي مدانة لأنها تخلّت عن مسؤوليتها في إدارة الشأن المالي وأوكلته إلى قوى طبقية لا تمثل مصالح الاستثمارات المالية ولا تسعى إلى تحصيل الربح عن طريق القيمة الزائدة بل بالتسلط السياسي والمالي الإداري وبانتهاك الدستور.

نعم. السياسة هي مصدر الأزمة وهي مصدر حلها. الإنكليز كانوا سباقين في الدخول إلى الرأسمالية لكن فرنسا هي التي استحقت اللقب، لأن الانتقال السياسي من الملكية إلى الجمهورية شكّل الأساس في بناء الثورة. كل السلطة للسوفيات هو برنامج الثورة الأول. أما بناء الاقتصاد انطلاقاً من تعميم الكهرباء على البلاد فهو المهمة اللينينية الثانية. الأزمات أمراض وأعراض. والطبيب لا يعالج الأعراض، ولا يعالج بالمسكنات صداعاً ناجماً عن ضغط الدم. والثورة الناجحة لا تبحث عن المال المنهوب قبل اعتقال اللصوص، لأن اللص الطليق قد يسطو عليها مرة أخرى.

إدانة اللص أو تبرئته هي من مهمات القضاء، وإذا ما سعت الثورة إلى الحلول محل السلطة القضائية، فهي تسعى وراء حتفها. وفضيلة الثورة اللبنانية وريادتها بين الثورات العربية أنها ثورة تحترم الآليات الدستورية. الثورات العربية رفعت شعار”الشعب يريد إسقاط النظام” وطالبت بسن الدستور. أما وأن النظام اللبناني دستوري فإن طرح الشعار في لبنان ينطوي على قيمة تعبوية فحسب، أما برنامج الثورة فهو تطبيق النظام واحترام الدستور والقوانين وتعديل ما ينبغي تعديله من ضمن الآليات الدستورية.

البرجوازية اللبنانية مطالبة اليوم بالانضمام إلى الثورة والانخراط في صفوفها والتقدم بجرأة للمطالبة باستلام السلطة من الميليشيات السياسية والعسكرية الحاكمة. طالما أن الثورة لم تدرج في برنامجها لا بناء الاشتراكية ولا تحرير فلسطين ولا إقامة الوحدة العربية ولا العداء للإمبريالية والاستعمار، فمن واجبها أن توسع دائرة تمثيلها الطبقي وأن تبادر إلى استدراج ممثلي قطاع المال والأعمال والمصارف، ممن كان اليسار يسميهم الطغمة المالية، إلى موقع الثورة بدل العمل على استعدائه وإبقائه رهينة نهج الميليشيات. وفي المقابل، على البرجوازية أن تتمرد على جبنها التاريخي وتثأر لنفسها ممن صادر دورها في بناء الوطن، خصوصاً أن الخوف من اليسار واليسار الدولي قد تبدّد أو أنه يُفترض أن يكون قد تبدّد.

https://www.nidaalwatan.com/article/10701