12 نيسان 2021
أول لقاء بيننا كان حول الشعر. في أواخر السبعينات، كنت مع السيد كاظم ابراهيم بانتظاره في منزلي في عبرا إلى الشرق من صيدا، لنستمع إلى جديد الشاعر عباس بيضون. وحده كان يملك حقّ الوصول متأخّراً لكثرة انشغالاته. هو القاضي الشرعي في المدينة، وهو المرجع الديني، وهو المناضل في سبيل قضايا الدنيا قبل الآخرة، صديق الثورة الفلسطينية وصديق الأحزاب اليسارية. بيته مكتب للمراجعات وقاعة للاجتماعات، وخطوط هاتف تصله بالمحكمة أو بالمقرّات الحزبية أو بالمشايخ أو بالأقارب أو بالأصدقاء ومكتبة وعدّة القراءة والكتابة.
بعد خمسة عشر عاماً ونيف، دعونا الشاعر سعيد عقل إلى صيدا للمشاركة في ربيع صيدا الثقافي. زرته في منزله في عين الرمانة برفقة الشاعر حمزة عبود. وافق على تلبية الدعوة بشرطين: الأول، هو أنه لا يشارك مجّاناً، وفلسفته في هذا الموضوع واضحة. هو ميسور لا يحتاج إلى مال، بل هو يقدّم من ماله منحة شهرية لتشجيع المبدعين على الإبداع، لكنّه أراد أن يعلّمنا كيف ينبغي أن نحترم الوقت. فالشعر حرفة والشاعر كصاحب أي حرفة ينبغي أن يجزى على ما يبدعه. أما الشرط الثاني فهو أن يكون الشيخ محمد حسن الأمين حاضراً. لفتنا نظره إلى أنّ لقب السيد عند الشيعة أولى من المشيخة. لم يحضر السيّد فحسب، بل هو الذي قدّم الشاعر بكلمة فيها كثير من الإعجاب والحبّ.
أما الشاعر شوقي بزيع فذهب إلى أبعد ممّا ذهب إليه سعيد عقل. عبّر عن إعجابه به شاعراً وناقداً ومتذوّقاً للشعر فجعله في مصاف كمال جنبلاط في السياسة وفيروز في الفنّ وكتب فيه قصيدة حب.
أول نشاط سياسي بدأنا تحضيره في صيف 1982 في مواجهة الاحتلال، العمل على تأسيس جبهة الخلاص الوطني. ذهبت برفقة المناضل محيي الدين حشيشو لنلتقي السيّد محمد والمرحوم الشيخ محمود فرحات، المدير العام للمجلس الإسلامي الشيعي في حينه، في منزل أحد أقرباء الشيخ في جوار صيدا. بعد اختطاف محيي الدين تابع السيّد المهمّة مع شخصيات دينية وسياسية في المدينة. بعد أشهر صار للمقاومة المسلّحة غطاء سياسي والسيّد محمد أحد أعمدته الصلبة. مجالس العزاء الحسينية التي كان يشرف على تنظيمها في مدينة صيدا كان لها مضمون حضاري. في الأمسيات العشر كان يجمع أصدقاءه من مختلف الطوائف والمذاهب والأهواء السياسية ليتبادلوا الأفكار حول القضايا الساخنة، ومن بينها علاقة الدين بالسياسة. كنّا نسمع منه كلاماً جديداً عن الزواج المدني والدولة المدنية أو عن دولة بلا دين، بحسب تعبير الشيخ محمد مهدي شمس الدين. من سنوات قليلة كنت أستمع إليه في المركز الثقافي الإسلامي يتحدّث عن العلمانية، وإذا بواحد من جهلة الدين يتّهمه بمخالفة الشريعة.
انتقاله من محكمة صيدا إلى محاكم بيروت الشرعية لم يكن على سبيل الترقية. بين المنفى والسجن والقتل اكتفت قوى الأمر الواقع في الجنوب وأجهزتها الدينية بنفيه لعلّهم يخمدون جرأته في مواجهة الاستبداد، لكنّه ككلّ المناضلين المنفيين الأحرار استمرّت راياته خفّاقة في الفكر والدين والسياسة والشعر.
لقد كان بحقّ مجموعة رجال في رجل. مفرد بصيغة الجمع.
مقالات ذات صلة
نظام التفاهة (٤)هل حقاً هذا رئيسُكُم؟
الخطاب الانتخابي الخشبي