قرر اللبنانيون بملء إرادتهم أن يكونوا وقوداً لحرب أهلية وأن يتزوّدوا بالمال والسلاح من قوى خارجية ذات مصلحة في إشعالها. النظام السوري للسيطرة على لبنان وتعويض خسارته الأردن من أجل تحسين شروط التفاوض؛ المنظّمات الفلسطينية لشقّ طريق العودة إلى فلسطين عن طريق جونية؛ النظام العربي ليستبعد تحمل موجبات القضية القومية وتبعاتها؛ إسرائيل لأسباب كثيرة من بينها أن تحجز لها مكاناً بين مشيعي الجثمان.
أوقف اتفاق الطائف الحرب رغماً عن إرادة متقاتلين تعبوا ولم يسأموا. ولذلك قرر اللبنانيون الدخول إلى مرحلة السلم بكامل عدة القتال، محتفظين بالخفيف و»السهل الممتنع» من السلاح لشحذه عند اللزوم، وبكامل لغة المواجهات ومصطلحاتها، واقتصر التزامهم اللفظي على تسليم الثقيل منه مما يصعب إخفاؤه أو تمويهه.
نظام الوصاية أعاد تنظيم الحرب فطمس التناقضات الداخلية من دون أن يجد حلولاً لها أو أن يلغيها، مستنداً في ذلك إلى نهج الاستبداد الذي تفنّن في ممارسته منذ استيلائه على السلطة في دمشق، فرفع المتقاتلين إلى رتبة الحكام ووحّدهم تحت إمرة أجهزته، وصوّب وإياهم باتجاه الدولة والدستور، وألغى الفصل بين السلطات ودمّر المؤسسات الرئاسية والحكومية والبرلمانية وأطلق بدعة الترويكا.
دخل اللبنانيون مرحلة السلم مكرهين فندّدوا بمرحلة الصراع المسلح، لكن «توبتهم» اقتصرت على مبادرات مجتزأة، من بينها زيارة جورج حاوي غدراس للقاء بسمير جعجع، وتصريح الأخير بعد خروجه من السجن بأنّ لبنان الذي يريده هو بين القليعات والقليعة لا بين المدفون والأوليّ، ومصالحة الجبل التي كان طرفها الأول وليد جنبلاط والثاني البطريرك الماروني نصرالله صفير، واعتراف محسن ابراهيم بأننا «ذهبنا بعيداً في تحميل لبنان أعباء القضية الفلسطينية واستسهلنا ركوب سفينة الحرب الأهلية»، وآخرها انتفاضة حزب الكتائب بقيادة رئيسه سامي الجميل على التقاليد السياسية اللبنانية التي لم تنتج غير الحروب.
هذه المبادرات لم تكن مجتزأة فحسب بل متباعدة أيضاً بالزمن، فكانت أولاها مع إعلان اتفاق «الطائف» وآخرها مع خروج وزيري حزب الكتائب من الحكومة عام 2016، ولذلك فهي لم تتلاق ولم تتكامل في وقت واحد وفي خيار وطني جامع.
بعض تلك التصريحات والمواقف كانت أقرب إلى النقد الذاتي اللفظي، ما جعل من السهل عدم الالتزام بموجباتها والتراجع عنها، وبعضها لم يحظ بإجماع داخلي لدى أطراف ظلت مصطلحات الحرب الأهلية هي الأقوى والأكثر رسوخاً والأوسع تداولاً في لغتهم السياسية.
تعطّلت المبادرات أو تعرقلت إمّا لعوائق ذاتية وإمّا بضغوط خارجية. قيادة الحزب الشيوعي رفضت المبادرة ودفعت صاحبها إلى الاستقالة واختارت الانخراط في جبهة الممانعة لأنها الأقرب إلى معاييرها في تحديد الخصومات والصداقات؛ مبادرة سامي الجميل لاقت معارضة داخل حزب الكتائب وفي الأوساط المحيطة؛ أطراف 14 آذار تلاقت على مشروع تحرر وطني لا على مشروع بناء دولة، وسرعان ما انفرط عقدها وعاودها الحنين إلى الانقسامات الطائفية والمشاريع الفئوية؛ على الجبهة المقابلة أصرت قوى الثامن من آذار على التمسّك بمتاريسها الداخلية وفضلت التفريط جهاراً نهاراً بسيادة الدولة لحساب مصالح قطبي الممانعة في سوريا وإيران.
حلبة سباق البدل بين المتحاربين بدأت بمقاسمة الدولة على سيادتها ولم تنته بتدمير مؤسساتها، ولن يتوقف السباق ما داموا عازفين، كل على حدة، عن الانخراط في عملية نقد ذاتي قاسية وجريئة وصادقة، يحددون فيها مسؤوليتهم هم عن إطلاق الشرارة، ولا يرمون التهمة على قوى خارجية لم تقصر في صب الزيت على النار، يخرجون بعدها من لغة الحرب خروجاً حاسماً وقاطعاً ونهائياً، على أن يشكل هذا النقد الذاتي نقطة تلاقيهم على إعادة بناء الدولة، على أساس احترام الدستور والالتزام بأحكامه.
الدولة هي الحل. بغير النقد الذاتي القاسي لن يكون رفع هذا الشعار صادقاً بل سيبقى مجرد ذر للرماد في العيون.
مقالات ذات صلة
جامعة الأمة العربية ومحكمة العدل الشعبية
نقول لحزب الله ما اعتدنا على قوله
الإذعان بعد فوات الأوان