24 كانون الأول 2022
«نحن نعيش مرحلة تاريخية غير مسبوقة، تتعلّق بسيادة نظام أدى تدريجياً إلى سيطرة التافهين على جميع مفاصل نموذج الدولة الحديثة، حيث يلحظ المرء صعوداً غريباً للرداءة والانحطاط. إذ تدهورت متطلبات الجودة العالية وتمّ تغييب الأداء الرفيع وهُمّشت منظومات القيم وبرزت الأذواق المنحطة وأُبعد الأكفاء وخلت الساحة من التحديات، فتسيّدت إثر ذلك شريحة كاملة من التافهين والجاهلين الذين لا يفكرون أبعد من أنوفهم.
في هذه المرحلة صار كل نشاط في الحقل العام، في السياسة والإعلام والتربية والتعليم والعمل النقابي والتجارة أقرب إلى «لعبة» أبطالها تافهون ولا قواعد مكتوبة لها، ومعيارها الوحيد اختزال النشاط إلى مجرد حسابات تتعلق بالربح والخسارة الماديين، كالمال والثروة، أو المعنويين كالسمعة والشهرة والعلاقات الاجتماعية، إلى أن يصاب الجسد الاجتماعي بالفساد بصورة بنيوية.
بالرغم من وجود أشخاص طموحين من ذوي المعايير العالية المستوى ينشدون النجاح والتألق والإبداع، فإن أشخاصاً آخرين من ذوي المعايير المتدنية الذين يبحثون عن النجاح السهل هم من يدير «اللعبة» لأنهم أقرب إلى كسل العقل ونبذ الجهد والقبول بكل ما هو كاف للحدود الدنيا. في النهاية يتم إيهام الناس بأنّه لا شيء مهماً لا السياسة ولا الجامعة ولا الإعلام ولا المصالح العامة أمام «لعبة» المصالح الخاصة.
تستخدم التفاهة «لغة خشبية» جوفاء تقوم على الحشو والنطق بتحصيل الحاصل وتكرار الكلام بألفاظ مختلفة للإيهام بوجود قضية جديدة، وبذلك يتحول الكلام إلى خطاب أجوف صالح لكل زمان ومكان. كلّ ذلك يشير إلى تسيّد الفقر الفكري المدقع الذي يعتبر من أهم أصول التفاهة. يتمثل ذلك باعتماد «الخبير» ممثلاً للسلطة ولنظام التفاهة بديلاً عن «المثقف» ذي الفكر الحر الملتزم بالقيم والمبادئ.
في نظام التفاهة تفرغ السياسة من الأفكار الكبرى كالحق والواجب والعمل والالتزام والقيمة والصالح العام ويخلو العمل العام من منظومات الأخلاق والمفاهيم والمثل العليا والمواطنة والالتزام وينحصر الهاجس بتحقيق الربح وكأن الدولة محض شركة تجارية.
في نظام التفاهة يحوّل السياسيون الجامعات من مراكز للبحث العلمي وإنتاج المعرفة وتخريج العلماء إلى حلبة يتسابق عليها الجهلة للحصول على شهادات فارغة من العلم والكفاءة، بحيث يصبح أكثر الناس يقيناً هم أكثرهم جهلاً، ذلك أن نظام التفاهة يثبت فعاليته القصوى مع هذه النماذج».
***
هذا النص ليس مصمماً لوصف الأوضاع في لبنان، بل هو مقتطفات ومقاطع من مقدمة المترجمة الدكتورة مشاعل عبد العزيز الهاجري، أستاذة القانون في جامعة الكويت، لكتاب يحمل عنوان «نظام التفاهة» من تأليف الكندي آلان دونو. رأيت أن مضمونه ينطبق على حالة مجتمعنا الراهنة كالحفر والتنزيل. استعرت منه عنواناً لسلسلة من المقالات سأتناول فيها أسبوعياً عينات من نظام التفاهة اللبناني الذي، بتشويهه المفاهيم والقيم السياسية، شوه كل القيم الأخرى الاجتماعية والعلمية والأكاديمية والإعلامية والفنية وحتى الأخلاقية.
سأقتبس من القاضي زياد شبيب تمييزه بين النظام الدستوري والنظام السياسي لأعرض في المقالات كيف تحوّل النظام الدستوري الوحيد في المنطقة إلى نظام ميليشيوي حل فيه رجال السياسة الرخيصة محل رجال الدولة من خلال عملية تدمير منهجي للدولة ومؤسساتها.
مقالات ذات صلة
جامعة الأمة العربية ومحكمة العدل الشعبية
نقول لحزب الله ما اعتدنا على قوله
الإذعان بعد فوات الأوان