24 حزيران 2023
إلى جانب الصينيين والأرمن، اللبنانيون، نسبة إلى عدد السكان، هم الأوسع انتشاراً على الكرة الأرضية. لهم «في كل عرس قرص». دشنوا حضورهم النهضوي خارج البلاد في مصر، في الأدب والصحافة والسينما، بحثوا عن مستقر لهم في القارتين الأميركية والأوسترالية وبرز من بينهم وزراء ونواب ورؤساء. قصدوا أوروبا في طلب العلم وإفريقيا في طلب المال، وكانوا قلب الخليج النابض في مجال العمل والاستثمارات. طالتهم المآسي في كوارث الطبيعة من الزلازل كما في تركيا وهاييتي أو في أحداث العنف حتى على شواطئ الفيليبين.
أينما حلوا أبدعوا، رجال أعمال وأطباء ومهندسين وتجاراً ومديري شركات وأصحاب مؤسسات وأساتذة جامعيين. الأوائل بين التلامذة المتفوقين في الرياضيات والحساب الفوري والأوائل بين الطلاب في الجامعات. آخر إبداعاتهم آلة للتواصل بين الصم والبكم. حتى بين النجوم لهم سفيرة إسمها فيروز.
كل هذا نتاج مواهب وكفاءات ومبادرات فردية. أما على صعيد انتظامهم فهم يضخون كمية كبيرة من العملة الصعبة، على شكل مساعدات لعائلاتهم المقيمة أو استثمارات في المصارف والمؤسسات المالية. لكنهم، وللأسف، شاركوا في الحرب الأهلية أيضاً، إما بتمويلهم الميليشيات أو بتشكيلهم فروعاً لها في الخارج ونقلهم الانقسامات الداخلية، الطائفية والحزبية، إلى حيث ينتشرون.
كان لكل ميليشيا وزير خارجيتها، يزور رعاياه في إفريقيا وأوستراليا والأميركتين لطلب الدعم المالي والسياسي، وللضغط، حيث يكون اللوبي قادراً على ذلك، من أجل توظيف موقف الدولة المضيفة لصالح المشروع الفئوي لا الوطني. لم يكن انقسام ممثلي المغتربين سوى انعكاس لانقسام داخلي وترجمة لرغبة زعماء المحاصصة في النظام اللبناني، فاقتضى التوزيع، الاغتراب الإفريقي للشيعة والأميركي للمسيحيين، باعتبار المنافسة قائمة بين مشروعي المارونية السياسية والشيعية السياسية.
سعى المشروعان إلى الاستثمار بين المغتربين. فيما انتهى الطائف إلى وقف العد، بحسب تعبير رفيق الحريري، استنجدت المارونية السياسية بملايين المتحدرين من أصل لبناني في القارة الأميركية ولاسيما في البرازيل، لكن الاستجابة لم تكن على قدر التمني. ذلك لأن ارتباط الجيل الثاني من الأولاد والأحفاد بالوطن الأم ينقطع بانقطاعه عن اللغة العربية وعن العادات والتقاليد ومرقد العنزة. ولم يكن ذا جدوى استبدال الاغتراب بالانتشار. المشكلة ليست في اللغة.
الشيعية السياسية لم تجد الصعوبات ذاتها بين الأثرياء الجدد من مغتربي إفريقيا أو بين العاطلين عن العمل من طالبي اللجوء السياسي في ألمانيا، ووظفت وجودهم إما في التمويل ولو بأساليب غير شرعية أو في التعبئة المذهبية استناداً إلى مزاعم حرمان تاريخي عانى منه أول جيل شيعي أيام الاستقلال، واستثمره جيل الحرب الأهلية انخراطاً في الأعمال الحربية وتمكنت القيادات الميليشيوية بمساعدة نظام الوصاية من قطف ثماره.
قانون الانتخاب الذي تم اعتماده في الدورتين الأخيرتين منح المغتربين الذين لم يتحولوا بعد إلى متحدرين من أصل لبناني، مساحة أكبر من حرية الاختيار، من غير أن يلغي دور الميليشيات في التعبئة والحشد على صناديق الاقتراع الاغترابية أو في الربوع اللبنانية. صدى صوت المغترب رجح في بعض الدوائر كفة عدد ممن ترشحوا بوهج ثورة 17 تشرين، وكان ضعيفاً في الدوائر التي لم تتطابق فيها رغبة المغتربين بالتغيير مع آليات التنافس المحلي بين المرشحين.
الدياسبورا اللبنانية قادرة على لعب دور فاعل في إنقاذ الوطن من أزماته المتواصلة، إذا ما تأمنت لها شروط الالتفاف حول مشروع التغيير وإفراغ أمتعة السفر من مصطلحات الصراع الداخلي.
مقالات ذات صلة
هل يكتب التاريخ الحديث بمصطلحات طائفية؟
جامعة الأمة العربية ومحكمة العدل الشعبية
نقول لحزب الله ما اعتدنا على قوله