25 أبريل، 2024

إسبانيا داخل الحلف الأطلسي

أم إسبانيا الخارجة عليه

        “عندما ستتفق الدول الأوروبية على صيانة أمنها بصورة شاملة ستجد نفسها أمام خلافات ونزاعات حول المصالح الخاصة بكل منها”. وقد اعتبر المراقبون التصريح الصادر عن مؤتمر وليامسبورغ دليلاً نموذجياً على ذلك.

        باتت قضية الصراعات والخلافات داخل الحلف الأطلسي موضع نقاش خرج من دوائر الكواليس وانتشر في وسائل الإعلام، وكانت إسبانيا موضوعاً لهذا النقاش بسبب علاقاتها مع دول الحلف.

        من أجل التوصل إلى تحليل دقيق لطبيعة العلاقات بين الشرق والغرب ولحدّتها ينبغي العودة بعيداً إلى الماضي. ولكي تفهم خلفيات التناقضات الراهنة بين إسبانيا وجاراتها ينبغي أيضاً البحث في الكتب العتيقة عن علاقات ذات نسيج هش ربطت “الدكتاتور” الأوروبي “بالديمقراطيات”.

        في الثلاثين من مايو (أيار) 1982، وبعد نقاش ضحل في المجلس النيابي، أصبحت إسبانيا البلد السادس عشر في حلف شمالي الأطلسي. وبعد مضي خمسة أشهر، أي بعد وصول الاشتراكيين إلى السلطة، تعقدت المسألة. فالحاكم الجديد، فيليب كونزاليس زعيم الحزب الفائز كان يطالب باستفتاء عام ليقرّر الشعب بنفسه مصير بلاده في هذا الشأن. وفي الكواليس كان يدور كلام حول حجم المساعدات التي ستُقدَّم لقاء طلب الانتساب، أي حول ثمن الصفقة! لا سيما وأنّ إسبانيا قد وجدت نفسها، حسب التعبير الفرنسي، “تجلس بين الكرسيين وليس على مقعد أحد الكرسيين”.

        منذ العام 1953 كانت إسبانيا مرتبطة مع الولايات المتحدة الأميركية على أساس معاهدة تعاون عسكري ومساعدات متبادلة. ومع الدخول إلى حلف الأطلسي تحوّلت المعاهدة إلى اتفاق صداقة وتعاون في المسائل الدفاعية (يوليو 1982) إذن غدت إسبانيا أمام اتفاقين مع أنّ مواطنيها من نسيج “انعزالي”، وهم يرون من وراء جبال البيرينيه الخطر الشرقي بمنظار مختلف.

        إضافة إلى كابوس المشاكل الداخلية الناجمة عن تركة المؤسّسات الفرنكوية، فإنّ الجيش والشعب كانا يبذلان الاهتمام بالحدود الجنوبية، على مشارف كوتا وماليلا الإسبانيتان داخل القارة الأفريقية. كما أنّ إسبانيا تقيم مع أميركا اللاتينية، بدافع الروابط الثقافية التاريخية، علاقات مميّزة، وهذا ما يفسّر انحيازها للأرجنتين في معركة المالوين وعلاقاتها بالعالم العربي.

        وأخيراً فقد ربطت إسبانيا النقاش حول الحلف الأطلسي بالمفاوضات مع السوق الأوروبية المشتركة. وكان من الطبيعي أن تكون الضغوط والظروف الخارجية ذات تأثير على طبيعة القرار الإسباني. فمن جهة أعربت جهات نافذة عن رغبتها وعن مصلحتها في إدخال إسبانيا إلى الحلف، ومن جهة أخرى عارضت جهات نافذة أيضاً دخولها إلى السوق المشتركة.

        في سبتمبر 1984 أُعيب على وزير الخارجية الإسباني تصريحه التالي: “إنّني لا أرى كيف يمكن أن نبقى خارج الحلف بينما نشكّل جزءاً من اللجنة العسكرية فيه”. وكان يواجه هذا الرأي اقتراح آخر يكتفي بالتنسيق مع الحلف. لكن المتحمسين للحلف يرون أنّ القضية تتجاوز المبدأ إلى التفاصيل التكنيكية وإلى التشابك والتعقد في الوضع على الأرض. فإسبانيا تشارك في اجتماعات اللجنة العسكرية دون أن تكون عضواً في القيادات على المستوى العالمي، وعلى أرضها يجتمع رؤساء الأركان كل ستة أشهر (بغياب فرنسا) وممثلون عنهم كل خميس (ومن ضمنهم عضو إسباني) وذلك في إطار الإعداد للخطط الدفاعية التي يشارك في إقرارها وزير الدفاع الإسباني. وفوق ذلك فقد ترأست إسبانيا أحد هذه الاجتماعات بصفة فخرية. كما أنّها موجودة في لجان فرعية منبثقة عن مؤسّسات الحلف. كما أنّها عضو مراقب في لجنة الخطط النووية. وهي ترغب في المشاركة في مناورات عسكرية لاحقة. لذلك ينبري مدير الكلية العسكرية البحرية ويطالب “بإقامة أوثق علاقات التنسيق والتعاون مع البلدان الصديقة والحليفة، لأنّ أنظمة دفاعنا غير قادرة بمفردها على الاستجابة لمتطلبات الأمن وحماية البلاد”.

        أنجيل فيناس، أحد السياسيين المطّلعين على “الملف”، يرى أنّ على إسبانيا، وأنّ بإمكانها أن تقوم بدورها الكامل في إطار السوق الأوروبية المشتركة، وأن من غير مصلحتها ربط مصير القضيتين (السوق الأوروبية والحللف الأطلسي) ببعضهما، بل إنّ مصلحتها هي في الخروج من الغيتو السياسي والإيديولوجي الذي كان قد فرضه فرنكو عليها.

        ومن الممكن أن توفر إسبانيا لنفسها موقعاً ودوراً على الطريقة الفرنسية بحيث تنوع من مصادر سلاحها وتشارك في التصنيع إذا أقدمت على تناول جملة من القضايا منها شراء صواريخ ألمانية، والمشاركة في صنع طائرة أوروبية مقاتلة مع فرنسا والمملكة المتحدة وإيطاليا وألمانيا، واستكمال شراء طائرات ومروحيات أميركية وإقامة أجهزة الإنذار والمراقبة الجوية الخ. وقد بدأـت إسبانيا، على كل حال، بتنفيذ جزء من هذه المتطلبات. وعند استكمالها تصبح عضويتها في الحلف الأطلسي أمراً راسخاً يصعب التراجع عنه.

        بيد أنّ المأزق الذي وقعت فيه حكومة غونزاليس هو أنها كانت قد وعدت الناخبين بإجراء استفتاء حول عضوية الحلف الأطلسي، وهي اليوم تخشى من أن يجري الاستفتاء على غير ما تشتهي سفن النظام. فالشبيبة الاشتراكية ترغب بالانسحاب من الحلف. لذلك فضّل غونزاليس إرجاء القرار إلى فبراير 1986 والاكتفاء بتقديم طلب الانتساب إلى منظمة السوق الأوروبية المشتركة.

        وفي المقابل انبرى دعاة التحالف مع منظمة حلف الأطلسي يدافعون عن فكرتهم ويدعمونها بالحجج. فاعتبروا أنّ التحالف لا يفرّط أبداً بالسيادة الإسبانية على القواعد الأجنبية الموجودة في البلاد، ولا يُلزم إسبانيا باي موقف لا تؤيّده.

        وفي نفس الوقت قام خبراء ينتمون إلى اليمين الإسباني يروّجون لضرورة الدخول في حلف الأطلسي والخروج من وضعية “بين الكرسيين” واختيار المعسكر الغربي من بين “المقعدين”، وذلك أنّ الخيار الثالث ليس إلاّ شكلاً طوباوياً مثالياً من التحالف مع الدول المحايدة أو غير المنحازة. لكن الخطر، كما يقولونه، ليس على المناطق التي تنطلق منها الصواريخ بل على الأراضي التي تسقط فيها. كما أنّ من إيجابيات الدخول في حلف الأطلسي الاستقواء على الخصوم الأفريقيين لا سيما بعد توقيع اتفاق الوحدة بين ليبيا والمغرب.

        لكن المدافعين عن الديمقراطية يرون أنّ من شأن استمرار الانخراط في حلف الأطلسي أن يؤدي إلى نتيجتين: الأولى دفع الجيش الإسباني إلى مزيد من الاحتراف، أي مزيد من التورط في لغة سباق التسلُّح والتحديث الخ. والثانية زجّه في عملية التبرؤ من الديمقراطية وإغراقه من جديد في دوامة اللعبة السياسية كما حصل ويحصل في اليونان وتركيا والبرتغال.

        يمكن القول بإيجاز أنّ لدى الشعب الإسباني مخاوف من الدخول “الرسمي” في حلف الأطلسي بقدر مخاوفه من الابتعاد عنه. وفي المقابل يرغب بعض خصوم “أطلسة” إسبانيا في تحييد بلدهم فيتهم الأطلسيون بالتبعية لموسكو.

        على كل حال، ليس أسوأ على دولةٍ ما من أن تنفّذ سياسة يمكن وصفها بأنّها مسوَّدة مشروع لخطة سياسية.