19 أبريل، 2024

التصلُّب حتى آخر الحلفاء

        خرج جورج شولتز من مبنى السفارة السوفياتية في فيينا ليقول عن اليوم الأول للمحادثات أنّه “لقاء طويل ومفيد”. الوجه الآخر من هذا الكلام هو أنّ المفاوضات كانت عقيمة والدليل على ذلك حجم الوقت الذي استغرقته.

        ماذا بعد أن فشل الطرفان في التوصل إلى حلّ؟ بالتأكيد يمكن أن يشكّل تصريح الوفد السوفياتي إضاءة على ما سيؤول إليه الوضع. فقد خرج السيد لومايكو مساعد أندريه غروميكو ليقول أنّ بلاده ” قد أكّدت على ضرورة التقيد حرفياً بالإعلان السوفياتي الأميركي الذي صدر في جنيف”. وهو الإعلان الذي حدَّد أهدافه بدقة: إدراج مسألتي حرب النجوم والحد من الأسلحة الستراتيجية معاً على طاولة البحث والمفاوضات. ممّا يعني ترابط القضيتين ببعضهما حسب ما نصَّ عليه البيان الصادر في يناير 1985 في جنيف.

        الولايات المتحدة الأميركية من جانبها تريد أن تميّز بين أسلحة للأرض، وأخرى للفضاء، أي بين احتمالين للحرب، في حين يؤكّد الاتحاد السوفياتي على عدم الفصل، فالحرب واحدة وإن اختلفت الأساليب، والسلام واحد وإنْ تعددت السُّبُل.

        تذهب واشنطن كل مرّة إلى المفاوضات في محاولة منها لإقناع خصمها باحتمال التفوق عليه مما يخالف منطق الأمور ويتعارض مع أبسط المبادئ في فنون التفاوض، ويريد شولتز أن يستخرج من جعبة المفاوض السوفياتي بعض أوراق القوة فيجعلها ألعوبة في المفاوضات، ويحصّن نفسه ضد أي محاولة للمساس بمشروع حرب النجوم. لكن هذا المنطق يتقدم محمولاً على أزمة واضحة. فورقة القوة الأميركية التي تعتبرها واشنطن في صالحها هي مشروع عسكرة الفضاء لكن الحقيقة التي يراها السوفيات بوضوح هي أنّ هذه الورقة ما تزال “مشروعاً”، وما يزال المشروع موضع سجال بين حلفاء واشنطن بالذات. من هنا يرى غروميكو نفسه مستقوياً على نظيره لأنّه “يقاتل” بقوة ملموسة بينما يعتبر الدور الأميركي من قبيل التهويل بقوة متخيلة.

        تمهيداً لمباحثات ناجحة صرَّح كاسبار واينبرغر عشية الجلسة أنّ مشروع حرب النجوم مسألة لا رجوع عنها، وكأنّه يضع بذلك حداً لآمال السوفيات بإلغائه. غير أنّ أندريه غروميكو لم يخفِ رغبته في دمج نقاش المسألتين الجوية والبرية في وقت واحد لأنّهما لا يقبلان الفصل ولا يخضعان، من جانبه، للمساومة.

        تعبيراً عن استيائها من الموقف الأميركي اعتبرت وكالة تاس السوفياتية “أنّ الاقتراحات التي تقدَّم بها الوزير جورج شولتز لا تشير إلى الرغبة في تنفيذ الإعلان المشترك بشأن وضع حد لسباق التسلُّح. أمّا أوساط الوزير الأميركي فقد اعتبرت أنّ اللقاء لم يكن سيئاً، غير أنّه لم يكن غنياً بالآمال.

المحادثات المعروفة النتائج

        لم يخفق اللقاء إزاء موضوع سباق التسلُّح بل خرج المفاوضون بتصريحات مشوشة حول مسألة لقاء القمة بين ريغان وغورباتشيف. ففي حين أعرب الرئيس الأميركي عن استعداده لاستقبال نظيره السوفياتي في واشنطن في الخريف المقبل، سارع الزعيم السوفياتي إلى الإعلان عن زيارته إلى الأُمم المتحدة، أي إلى نيويورك وليس واشنطن، خلال انعقاد الجمعية العامة.

        أمّا الشأن الثالث فهو ما يتعلّق بالأوضاع الدولية عموماً ولا سيما بؤر التوتر. ولقد أصبح واضحاً عند نقاش هذه القضايا أنّ الطرفين يتبادلان تهماً غدت معروفة من قِبَل جميع المعنيين. السوفيات يتهمون واشنطن بمحاولة السيطرة على الشعوب كما يجري في أميركا اللاتينية، والأميركيون يثيرون مشكلات عدة من بينها مسألة حقوق الإنسان وهي المسألة التي تجد جوابها السهل في أنّ موسكو لا تسمح في أن تناقش أوضاعها الداخلية في المفاوضات.

        بعد فشل المفاوضات يطرح المراقبون السؤال عمّا إذا كان الطرفان يتوقعان مسبقاً مثل هذه النتيجة، أم أنّهما يتفاجآن مثل الجمهور بما آلت إليه اجتماعاتهما. والجواب طبعاً هو أنّ الحسابات لدى جهازي المفاوضات تزوّد الجانبين بتقديرات دقيقة، فتتحول اللقاءات إلى هدف بذاتها باعتبارها تكريساً لعلاقة هي، في كل الحالات، أفضل من القطيعة. ثم إنّ فترة المدّ والجزر التي تتطلّبها أيّة محادثات هي جزء من الأعمال التحضيرية لموازين قوى جديدة وبالتالي لمفاوضات جديدة.

        على هذا المستوى كان كلام السيد لومايكو مساعد الوزير السوفياتي واضحاً حين أعلن عن عزم البلدين على بذل ما هو ممكن من أجل تطوير العلاقات الثنائية بينهما بشكلٍ ملموس، ممّا يعني أنّ الجهود التي بُذلت فيما مضى لم تكن مثمرة.

أوروبا دائماً الضحية

        يبقى الجانب الأكثر إثارة للجدل وللاهتمام بشأن علاقات الشرق والغرب، وهو تأثير فشل اللقاءات على أوضاع حلفاء أميركا. فقد كان واضحاً أنّ الموقف الفرنسي ليس فقط لا يستجيب للرغبات الأميركية بل هو، فوق ذلك، يعارضها ويقود ضدها مواجهة أوروبية، ويطرح على دول السوق المشتركة مشروعاً يقضي بتأسيس صناعة أوروبية من شأنها أن تشكّل منافساً تكنولوجياً للولايات المتحدة الأميركية. ويضاف إلى الموقف الفرنسي الرسمي، مواقف أوروبية متفاوتة حيال المسألة، وهو ما يظهر في التوتر السياسي الذي ينتاب الوضع في ألمانيا الاتحادية.

        إنّه السؤال نفسه يدور ليس فقط بين الحكومة والمعارضة، بل داخل أوساط التحالف القائم بقيادة هيلموث كول. ومن المعروف أنّ المستشار الألماني يقف إلى جانب مشروع الرئيس ريغان، في حين أنّ وزير خارجيته هانس ديتريش غينشر منحاز إلى الخيار الأوروبي وإلى التعاون الأمني مع فرنسا.

        إزاء هذه الآثار السلبية التي تنجم عن مشروع عسكرة القضاء، فهل يستمر الرئيس ريغان في تصلُّبه حتى آخر حلفائه؟