25 أبريل، 2024

المؤتمر المسيحي سلاح قوي!

من الذي سيستخدمه؟

        انعقد المؤتمر المسيحي، وأصدر بيانه. وليس خافياً على أحد المنحى الذي أخذه المؤتمر، بل ولم يكن مموّهاً. بدليل أشكال التحضير وظروفه والأسباب الموجبة والأُطر ونوعية المدعوين… الخ.

        مؤيّدو المؤتمر ومعارضوه كانوا يعرفون مسبقاً إلى أين سيصل فكانت تصريحات هؤلاء وأولئك حول هذا الأمر طريفة. كميل شمعون المشارك في المؤتمر أجاب: إنّ المؤتمر انعقد لينجح وإلاّ لما انعقد. وقد يعني ذلك ظاهرياً أنّ الجهات المنظمة اختارت الأُطر المناسبة والشخصيات التي كانت موافقتها مضمونة.

        من الناحية الجوهرية المسألة كانت خلاف ذلك. مخايل الضاهر، النائب في البرلمان وهو الذي قاطع قال أنّه لن يحضر المؤتمر لأنّه لا يوافق على أن يقدّم المسيحيون براءة ذمّة وشهادة حسن سلوك. صنف ثالث من ردود الفعل عبَّر عنه الأب سمعان الدويهي الذي حضر المؤتمر وصرَّح عند خروجه لن نقبل، كمسيحيين، أن نُعامَل كأهل ذمّة.

        ليست هذه التصريحات إلاّ عيّنات من منوعات سياسية، ومن تصريحات ومواقف، وهي ليست، بكل تأكيد، كافية لتعبِّر عن كافة ردود الفعل.

        كان متوقعاً أن يصدر عن المؤتمر البيان ذاته، ولو سألت أحد المراقبين أو الصحافيين المتتبعين لتفاصيل الأحداث لوضع صياغة تحمل نفس المضمون. كان سياق الأمور يدفع التطورات، بشكلٍ منطقي، باتجاه مثل هذا الموقف.

        تضمّن البيان تأكيداً على وحدة لبنان وعروبته وتطوره الديمقراطي. هذا هو المهم. والذي يقفز فوق الكلمات التي تعبِّر عن هوية المؤتمرين، يعتقد أنّ البيان صادر في الشطر الغربي من بيروت، أو أنّه، باستثناء عبارات قليلة جداً من أدبيات القوى الوطنية اللبنانية وبياناتها المتراكمة من العام 1975 وحتى اليوم.

        بالإضافة إلى التأكيد على هذه البنود الثلاثة وتفصيلاً لها يتحدث البيان عن تحرير الوطن من الاحتلال الإسرائيلي وتوحيد أرضه ثم توحيد شعبه بإعادة المهجرين، وتوحيد مؤسّساته بالوقوف في مواجهة الدعوات الدينية أو الطائفية الخ، ثم بإقامة علاقات مميَّزة مع الشقيقة السورية وذلك تعبيراً عن انتماء لبنان العربي.

        كريم بقرادوني الناطق باسم القوات المنتفضة في وجه رئيس الجمهورية قال عن المؤتمر أنّه غير عادي وأنّه خرج بمقرّرات عادية. ويمكن القول براحة ضمير أنّ الاستنتاج ينبغي أن يكون عكس ذلك تماماً. إنّه مؤتمر عادي بقرارات غير عادية.

        أمّا كونه عادياً فهو إطار مرتقب ومتوقع لممثلين عن منطقة الغيتو التي سيَّجها حزب الكتائب بنهجه الدموي، فمنع على قوى أخرى أن تشارك في هذا المؤتمر. لذلك بقيت هيئات وشخصيات خارج الصرح البطريركي، نذكر من بينها ريمون إدّه ومنير أبو فاضل، في حين عبَّرت أكثر من جهة عن تحفُّظها حيال مبدأ انعقاده ومن بينهم قوى أساسية في تمثيلها للمسيحيين كالأرثوذكس والكاثوليك، على لسان القادة الروحيين. إنّه عادي باعتباره جزءاً مصغّراً من الاجتماع الذي عقد في القصر الجمهوري غداة حركة الثاني عشر من آذار الجعجعية. وهو عادي باعتباره ضمَّ الممثلين التقليديين من رؤساء الجمهورية السابقين والنواب الحاليين الخ. ويمكن لنا في هذا السياق تعداد أسباب أخرى.

        أمّا كون المقررات غير عادية فلأنّ بنود البيان، الذي جرى تحضيره مسبقاً وتوزيعه على الحضور وصدوره دون تعديلات تذكر، هي بنود انقلابية على كل النهج الكتائبي الانعزالي الذي ميَز سلوك الجبهة اللبنانية وفرض نفسه بقوة السلاح على المناطق ذات الأغلبية المسيحية. إنّه انقلاب على النهج العنصري الذي استمرّ يدعو إلى إعلان “قيامة” لبنان تشبُّهاً بقيامة المسيح، واستمرّ ينادي بالفرادة والتفوُّق والتعدُّد الحضاري إلى أن انهزم شرَّ هزيمة وبدأ يلتف على تاريخه، وإنْ بدا ذلك للبعض سلوكاً تكتيكياً.

        إنّه انقلاب على شعارات على غرار “سويسرا الشرق” وسياسة الحياد بين العرب وإسرائيل، وانقلاب على نهج المطالبة بلبنان المسيحي وغير ذلك من القضايا التي لا يمكن النظر إليها في البيان إلاّ من زاوية النقد الذاتي والاستدارة مسافة 180 درجة.

        هذا الانقلاب سلاح يمكن أن تستفيد منه جهات مختلفة. لذلك ليس له قيمة بذاته. وليس مبالغة إذا قلنا أنّ الانقلاب الذي بدا على صورة بيان قد ينتهي مع تمزيقه.

        أقل الأطراف استفادة أضعفهم قدرة على ذلك. هذا هو بالضبط وجه المفارقة. فالمؤتمر عُقد لدعم الشرعية ممثّلة برئيس الجمهورية أمين الجميّل. والرئيس بدا أمام خصومه كلّهم مستضعفاً. وليد جنبلاط منعه من الدخول إلى جبل لبنان بعد الانسحاب الإسرائيلي، نبيه بري وحلفاؤه أخرجوه من بيروت وضاحيتها الجنوبية. ولم يبقَ على حركة سمير جعجع إلاّ أن تُخرجه من مناطق السيطرة الكتائبية وقد فعلت ذلك. وبقي للرئيس قصره الشتوي في بعبدا وقصره الصيفي في بكفيا. الأول تحميه القوة المعنوية التي تحيط بالشرعية، أيّة شرعية؟ والثاني تحميه القوة المعنوية السورية وألوية الجيش السوري التي تقف على مسافة قريبة منه.

        جاء المؤتمر المسيحي لكي يحمي هذين القصرين. فهل ينجح في مهمته؟ هذا السؤال مطروح على الرئيس بالذات. هل يريد فعلاً البقاء في القصر أم لا؟ فإذا كان الجواب نعم ينبغي أن يستوفي الأمر متطلبات الإمساك بالسلطة الفعلية. أولى المتطلبات هي كما يسمّيها الدكتور سليم الحص، سلاح الموقف، وهذا ما يعوز الرئيس كما بدا من تجربة السنوات الثلاث الماضية. وإلاّ فلماذا توقّع البعض تحوُّل رئاسة الجميّل إلى رئاسة سركيسية ثانية؟

        الطرف الذي يستطيع أن يجهض قرارات المؤتمر هو الذي يتمكّن من تنفيذ أحد أمرين: إمّا السيطرة على القصرين أو على أحدهما وإمّا تجميد الأوضاع والمتاريس والمواقع إلى أن يحدث ما ليس في الحسبان، فتتغيّر الظروف والموازين ويلغى من المعادلة الرئيس أو الانتفاضة أو البيان أو المعارضة الوطنية أو المتطرفين الطائفيين الخ.

        صدر البيان ليكون عوناً للرئيس على الاستمرار في تحمُّل مسؤولياته لكن سلوك (أي رئيس) هو الذي يحدّد مصير البيان والمؤتمر الذي أصدره. فلكل سلوك تتمة منطقية، وهي، وضع “المسيحيين” الذين اجتمعوا في بكركي، متابعة الانقلاب عملياً، أي إلغاء الظروف المادية التي نشأت في ظل الهياج الطائفي المسيحي، والتي نشأ في ظلّها هياج طائفي إسلامي. ونعني بالظروف المادية القوى التي حمت وما تزال تحمي الاتجاهات العنصرية الفاشية وهي بالتحديد القوى الملتفّة حول سمير جعجع ورموز الانتفاضة أو بالأحرى رموز مجازر صبرا وشاتيلا والسبت الأسود والمذابح التي حصلت على الهوية بحق المسيحيين الوطنيين والمسلمين والعرب عموماً والفلسطينيين.

        هذه هي التتمة المنطقية لكي ينجح المؤتمر. لكن العوائق كثيرة. فالمؤتمرون، يشاركهم في ذلك أطراف علمانيون، لا يوافقون على إلغاء التطرف إذا كانت النتيجة حلول تطرف آخر مكانه. والذين أصدروا البيان ما زالوا يلحّون على ضمانات. وهنا مكمن الخطر الدائم.

        إنّ “الضمانات” هي، كما يسمّيها البعض، الأسطوانة التي ردّدها غلاة الانعزالية لتبرير التحاقهم بالغرب الاستعماري أو بإسرائيل. والكلام المعقول الذي تواجه به مثل هذه المطالب هو أنّ الضمانة الوحيدة تتجسّد في وحدة الشعب اللبناني ولحمته.

        الخطر الثاني على مقرّرات المؤتمر ينبع من بنود البيان نفسه. فالمضمون الذي تنطوي عليه الدعوة إلى وحدة الوطن هو الذي يحدد مستقبل الانقلاب والمؤتمر نجاحاً أو فشلاً. وإذا كان المؤتمرون قد أقرّوا بأنّ سياسة الاستقواء بالخارج على الوضع الداخلي كانت سبباً في تدهور العلاقات بين الطوائف يمكن القول عندئذٍ بأنّ بنود البيان تعبّر عن احتمالات أكيدة للحل، وإلاّ فإنّ المقرّرات تُضاف إلى أطنان المواقف التي صدرت خلال الحرب.

        أمّا الجانب السوري فهو أيضاً قادر على الاستفادة من موقف المؤتمر لدفع ألأمور باتجاه الحسم الإيجابي، أي باتجاه القضاء على أدوات إسرائيل في لبنان. لكن قدرته هذه مرهونة بطبيعة القوى التي سيستند إليها في لبنان من أجل تنفيذ المهمة. بالتأكيد، إذا كان الرئيس أمين الجميّل هو حصان الرهان فليس ما يؤكّد كسب الرهان.

        يبقى أن نشير إلى أنّ ترجمة هذه البنود تعني عند البعض ضرورة إعطاء المزيد من الفرص لرئيس الجمهورية معتمدين في ذلك على ما سبق وأنجزه في مواجهة الانتفاضة: يعتقدون أنّه احتوى زخمها الأول، ثم حال دون تحقيقها كامل أهدافها، وها هو يهيّئ نفسه للهجوم المضاد. وهي تعني عند البعض الآخر ضرورة استكمال الرئيس الجميّل عدّة هجومه والاستقواء على خصومه المنتفضين واستخدام كل أوراق القوة المتوفرة ومن بينها سلاح الموقف. لكن موقفه هو الترقُّب والتأجيل حتى قيل فيه إنّه الرئيس الذي ينتظر أو أنّه، جوازاً، من “المرجئة”.

        المؤتمر الماروني سلاح. ويُخشى أن يكون ذا حدَّين.