25 أبريل، 2024

جواسيس الفضــاء الهــــواة

أسرار عن الأقمار السوفياتية

يكشفها اثنان من البريطانيين

آلات بسيطة للتنصت من البيت، ومن مختبر الجامعة

        عام 1966، احتار كل من جورج بيري وديرك سلاتر بأمر مركبة فضائية كانت تدور بشكلٍ “غير معتاد” في مدار حول الأرض. وجه الحيرة هو أنّ هذين الأستاذين الجامعيين تمكّنا من ملاحقة المركبات، من لحظة انطلاقها الأولى وحتى أوقات دورانها في الفضاء، استناداً إلى حسابات دقيقة يمكن على أساسها تحديد مكان الانطلاق. وبواسطة الحسابات ذاتها تمكّنا من فك سر الحيرة. فالمركبة لم تقلع من إحدى القاعدتين اللتين يعرفهما بيري وسلاتر، بل من قاعدة ثالثة أجهد كل من العالمين نفسه لاكتشافها، وقد توصّلا بعد وقت، إلى تحديد القاعدة التي كانت وما تزال سريّة، وتعيين مكانها على الخارطة، إنّها بليزتيزك، على ثمانماية كلم إلى الشمال من موسكو.

        جواسيس هواة أم محترفون؟ إنّهما ببساطة أستاذ الفيزياء وأستاذ الكيمياء في نورثامبتونشر في إحدى جامعات بريطانيا. بحوزة كل منهما مادة ومختبر وأجهزة. فكيف إذا اجتمعت جهودهما وخبراتهما. إنّها هواية التجسس الفضائي. بدأت الهواية مع اكتشاف جهاز بسيط يساعد على فك طلاسم البث الفضائي. وبواسطته تمكّنا من ملاحقة كل شيء يتعلّق بالفضاء منذ إطلاق أول مركبة فضائية في أوكتوبر 1957. إنّها، في الأصل، فكرة بيري باح بها لزميله، ثم تعاونا على إقامة مركز للتنصُّت في البيت السكني. الذي بدأ يلفت أنظار الصحافة في الغرب.

        قيل أنّ الهواية من الهوى. هكذا بدأت عند الأستاذين هواية التنصُّت. إنّه نوع من الميل ما لبث أن تحوَّل إلى هاجس يومي، واستمرَّ ينمو مع تطور هذا المجال من الجاسوسية وفنون التكنولوجيا، منذ انطلاقة أول كوزموس سوفياتي في عام 1962، ثم بدأ اندفاعاته الجديدة مع ظهور مركبات سويوز، وبروتون، وساليوت. وتجمع حولهما طلاب معجبون بهذه الهواية ومهتمون بها.

        أكثر الطلاب نباهةً، وانسجاماً مع الهواية، هو أكثرهم حرصاً على أسرارهم واكتشافاتهم، خاصة حين يتعلّق الأمر بتلك المحادثات الطويلة بين رواد الفضاء داخل المركبة، أو بينهم وبين عائلاتهم على الأرض، وباحتفالاتهم الطويلة التي كانوا ينظّمونها داخل المركبات.

حين سقطت كوزموس

        في الخامس من يناير 1983 تمكّنت أجهزة الهواية من هتك أسرار “سماوية” تتعلق بمركبة كوزموس 142 التي خرجت عن سيطرة السوفيات. فقد انحرفت المركبة عن مدارها مما عطّل مهمتها في التجسس على أساطيل حلف الأطلسي، وهي تقوم بمناورة، كما كان من شأن ذلك أن يخلّف وراءه وهو في الفضاء الجوي إشعاعات نووية تؤثر على بعض مناطق الكرة الأرضية. وقد نقلت تلك الأخبار والتوقعات، عن لسان العالمين الهاويين، وكالة التلفزيون الجديدة في لندن، ووزعتها على وكالات الإعلام العالمية؛ وفي الثالث والعشرين من يناير 1983 تأكّدت تلك التوقعات عندما سقطت كوزموس 142 في مياه المحيط الهندي، الساعة السابعة واثنتي عشرة دقيقة بالضبط. أخطأ بيري في التقدير عدة كيلومترات، وأقل من ثلاث ساعات.

منظمة هواة فقراء

        عندمل تدخل إلى مختبرها السري تتفاجأ بالتجهيزات المتواضعة. جهاز لاقط عادي جداً، ياباني الصنع، يمكن شراؤه بأقل من 500 دولار بالإضافة إلى أجهزة أخرى بسيطة وعادية أيضاً. غير أنّ كنوزاً لا تُحصى مخزونة على أشرطة تسجيل، وبواسطة آلة للتسجيل، أيضاً، عادية ومتواضعة.

        فريق الهواة لا يقتصر على هذين العالمين. فإلى جانبهما عشرون آخرون من الهواة والمراسلين، في الولايات المتحدة الأميركية، نيوزيلاندا، برلين الغربية، جزر الفيجي، إضافة إلى بريطانيا بالطبع. جميع هؤلاء أساتذة ورياضيون، وفلكيون، وكلّهم من هواة التنصُّت. ويقول بيري أنّ قوة “جهازه” كامنة في قدرته على القراءة. فهم يلتهمون أطناناً من المقالات التقنية. ومع ذلك فقد بدا، كما يقول قائد التنظيم الهاوي، عندما نظرنا إلى طابع بريد سوفياتي يمثّل قاعدة مراقبة للتحليق الجوي، لفت نظرنا خط يمثّل مداراً جديداً لم نكن نعرفه. إنّه اكتشاف ندين فيه إلى طوابع البريد، لا إلى أجهزة التنصُّت.

        في زاوية المختبر خزانة تحتوي أجهزة راديو وتلفزيون للولايات المتحدة ولبريطانيا. إنّها خزانة التمويل لهواية باهظة الكلفة. وهي تضاف إلى عمل دؤوب يقوم به قائد الهواية الخطيرة، وذلك بتوزيعه المقالات وإقامته المحاضرات بناءً على طلب مختصين بهذا الشأن.

        “الشرق الأحمر” إنّه الاسم الذي أطلقه الصينيون على أول مركبة صينية للاتصالات. يستغرق تسجيل بعض الأصوات على الأشرطة مدة أربع ثوانٍ، تدور المركبة على علو 35000كلم عن الأرض. وتلاحق بعض الأخبار العلمية، واستمرت في عملها شهراً واحداً فقط، إنّه عمر المركبات غير المتطورة.

 مؤيّد لحرب النجوم

        مرصد الأستاذ بيري، الذي يطلق عليه أحياناً اسم مرصد كيترينغ، يستمر في عمله، ويستفيد منه، على سبيل المثال خبراء الاتصالات الجوية في مجلس الشيوخ الأميركي، وهو يؤكّد للأميركيين، طبعاً أنّ عدد المركبات السوفياتية يفوق أربع مرات عدد المركبات الأميركية، وهو لا يستطيع أن يقيس شؤون الفضاء بمقاييس رقمية فحسب، فلا بد أن تندرج الأرقام في سياق الصراع العالمي، لا سيما في المسألة التي يطلق عليها اسم حرب النجوم.

        المرصد البريطاني الهاوي لا يخفي شكوكه ومخاوفه من مخاطر حرب الفضاء، غير أنّه من مؤيّدي الفكرة، على الأقل، حتى يصل السوفيات والأميركيون إلى مستوى واحد في مجال الأسلحة الستراتيجية والفضائية.

        في أحد أيّام الأحد من شهر نوفمبر 1979 كانت إحدى المركبات الفضائية السوفياتية المختصة بمراقبة منطقة هملايا تدور في مداها ثم ما لبثت أن عادت فجأةً بعد وقت قصير من إطلاقها، وقد تمكّن المرصد البريطاني من ملاحقة المركبة حتى وصولها إلى قاعدتها الجوية في الاتحاد السوفياتي. بعد شهر ونصف دخل السوفيات إلى أفغانستان… هكذا ترتبط المركبات بالأحداث السياسية.

        الشيء الأساسي من معلومات المرصد يبقى في حوزة مديره، وفي خدمة أجهزة المخابرات والتنصُّت التابعة لجيوش الأطلسي، وقد يكون من مهمات التنصُّت متابعة الأخبار التفصيلية لكل حركة سوفياتية باتجاه السماء، ولكل خبر أو صورة أو إشاعة تتناول التنافس بين الشرق والغرب في المجال الجوي.

        عندما تتحوَّل الجاسوسية إلى هواية، تتجاوز كونها نوعاً من الفضول العلمي، وتصل إلى حدود الانخراط في هموم البشرية، لا سيما شؤون التوازن والحرب والسلام. غير أنّ الجاسوسية أصولاً لا تنفع الهواية ولا تكفي لإيفائها حقّها… ويبقى بيري على مسافة غير قصيرة من الأسرار الخطيرة. إنّهم يعطونه بعض الأسرار الجميلة يلهو بها، ويبقى الضالعون بالسر وحدهم هم الباطنيون.