19 أبريل، 2024

حزيران 1985 في لبنان

عودة إلى نقطة الصفر السورية

        يوم وقف آرييل شارون على سطح إحدى بنايات منطقة الأشرفية يراقب بيروت الغربية لم يكن يتوقع أن يكون مصير قواته الغازية قاتماً إلى هذا الحد. ولم يكن بشير الجميّل يعرف، وهو يرافقه في نزهته فوق السطوح، أنّه يمضي في مخططاته الهوائية، رغم تأكيداته التي لا تُحصى بأنّ الجهة التي تناصره ليست إسرائيل وحدها، إنّما هي أيضاً تلك القوة السماوية التي حوّلته من قائد زمرة في حي الأشرفية إلى زعيم لبناني ناطق باسم المسيحيين جميعاً، مدّعياً النطق باسم مسيحيي الشرق.

        ثلاث سنوات تفصل بين الحزيرانَيْن 1982 – 1985، وهي المدى الذي يفصل بين بداية ونهاية الاحتلال. وعلى الطريق سقطت أوهام وأحلام وخطط ومشاريع وأحلاف، وقامت بديلاً عنها، وعلى أنقاضها قوى أخرى ومنتصرون جدد، وانفتحت آفاق جديدة.

        ليس بيغن الساقط الوحيد، فمعه سقط بشير الجميّل وألكسندر هيغ وآخرون، وانهارت مشاريع السيطرة الإمبريالية الأميركية على منطقة الشرق الأوسط، والهيمنة الصهيونية على بلاد ترسم حدوداً سياسية لأمنها تمتد إلى ما وراء المحيط والخليج، إلى قلب أفريقيا وإلى نهايات العالم. إنها حدود الصلف الذي اصطدم بجدار المقاومة الوطنية اللبنانية وهوى أمامها.

        بعد ثلاث سنوات على الاجتياح الإسرائيلي يجد لبنان نفسه أمام ظروف مختلفة تمام الاختلاف، يقال فيها أحياناً أنّها مفتوحة على احتمالات شتى، وأنّها تنطوي على حقائق شتى.

        من هذه الحقائق أنّ الاستقواء “بالأجنبي” من أجل حسم الأمور الداخلية بات بمثابة الخطيئة التي لا تغتفر، فقد سقط الطرف القوي الذي حاولت الانعزالية اللبنانية استجداء مساعدته مقدّمة له ثمن ذلك استقلال لبنان ووحدة كيانه وانتماءه إلى العالم العربي. وبسقوط هذا الطرف القوي كان من المنطقي أن يسقط الخيار الإسرائيلي في لبنان قبل هذا الوقت بكثير، لذلك يبدو الامتناع الكتائبي عن السقوط  محاولة جديدة للمضي ضد الحقيقة وانحيازاً لاحتمالات الوهم.

        وإذا كان قد ثبت من خلال هذه التجربة المريرة أنّ الاستقواء بالأجنبي أمر يخالف منطق التاريخ والجغرافيا، وإذا ثبت أيضاً أنّ إجماع اللبنانيين يصب اليوم في مطالبة الشقيقة سوريا بمعاودة مبادرتها، فإنّ ذلك يقودنا إلى أحد استنتاجين:

        الأول هو أنّ المطالبة بتدخُّل سوري جديد يُعتبر نوعاً من الاستقواء، رغم كونه يقوم على إجماع المتصارعين المحليين، مما يثير قلقاً على مصير المبادرة الأخوية التي يحتضنها اللبنانيون ويحمونها بجوارحهم.

        والثاني هو أنّ الشقيقة سوريا غدت جزءاً من الوضع الداخلي اللبناني، أو أنّ لبنان قد غدا (أو أنّه عاد) جزءاً من تاريخ سوريا وجغرافبتها، فأصبح الحديث عن المبادرة والمطالبة بها، بمثابة عودة إلى الأصول، مع ما في ذلك من استبعاد أي كلام عن الاستقواء. هذا الاستنتاج هو الأقرب إلى الصواب، وهو الذي يضع أمام اللبنانيين والسوريين على السواء مهمات قد تتجاوز حدود المبادرة الأخوية لتطال مضمون الانتماء اللبناني إلى العالم العربي انتماءً أصيلاً كاملاً غير منقوص، وغير مقيّد بحدود جغرافية أو دستورية أو ثقافية أو غير ذلك. وبكلامٍ آخر فإنّ هذه الحقيقة الراسخة تفتح باب النقاش واسعاً حول الاستقلال اللبناني والوحدة اللبنانية السورية، وكلاهما كانا، حتى هذا التاريخ، أمراً مستحيلاً.

        ومن هذه الحقائق أيضاً أنّ صراع الطوائف وتعايشها على الأرض اللبنانية محكوم بالقوانين الكونية لكل صراع ولكل توافق. إنّها قوانين التوازنات السياسية والعسكرية التي من المتوقع أن تعيد توزيع الحصص بين الطوائف على أُسس مختلفة من حيث الكمية لا من حيث النوعية، توزيعاً ينزع من هذه ليعطي تلك، يحرم هذه ليمنح تلك، وفي جميع الحالات يبقى الوطن هو الخاسر الأكبر.

        الترجمة الملموسة لهذه الحقيقة هي احتمالات الحل السياسي للأزمة اللبنانية، حلاً يعيد الأزمة إلى نقطة الصفر السورية التي ارتسمت عام 1976، مع الأخذ بعين الاعتبار كافة المستجدات التي طرأت في لبنان ومنطقته، لا سيما وأنّ الموقف السوري الصامد في نفس الموقع إزاء لبنان قد اتجه بفعل تغيُّرات منحرفة جزئياً لصالح القوى التي واجهت المشروع الصهيوني في لبنان، أي لغير صالح القوى المتصهينة التي ورّطت لبنان في حرب أهلية وفي صراع ضد العرب.

        هذا الأمر المتوقع سيعطي طائفتَيْ الدروز والشيعة ليأخذ من الموارنة والسنّة، الأمر الذي سيولد “ميثاقاً” جديداً تتبادل الطوائف أدوار البطولة فيه، وتتعدّل في ظلّه شروط التسوية الطوائفية والمساومات. وقد يكون من شأن ذلك أن يجري تعديلات على الدستور والقوانين، باتجاه المساواة بين المسلمين والمسيحيين في عدد النواب، واستحداث مجلس للشيوخ تلغى منه المذهبية؛ ولا يغيّر من واقع الأمر شيئاً حجم الكلام الكبير عن مجلس رئاسي على الطريقة اليوغوسلافية وغير ذلك من التغييرات التي تطال الجوهر، وبهذا المعنى تبقى ذات طبيعة كمية وليست نوعية.

        الحقيقة الثالثة هي أنّ الفلسطينيين في لبنان غوا، بعد العقود التي أمضوها، بمثابة طائفة من الطوائف اللبنانية، وسيبقون كذلك حتى يتمكّن العالم من إيجاد حل دائم لقضية الشرق الأوسط، لا سيما المسألة المحورية فيها، القضية الفلسطينية. ويترتب على هذه الحقيقة احتمالات عدة، لا ينطوي أي واحد منها على إعطاء الفلسطينيين كل الحقوق الممنوحة للطوائف، لا سيما على المستوى السياسي، بل وبالأخص على المستوى العسكري. غير أنّ المساواة بين الطوائف تقضي، بالضرورة بأن يؤخذ بعين الاعتبار أنّ الذين يعتبرون في عداد إحصاء عام 1948، أي الذين يتمتعون بإقامة شرعية على الأرض اللبنانية يتجاوزون، من حيث العدد، حجم الطوائف اللبنانية، حتى التي تُعتبر كبيرة من بينها. وبالتالي فإنّ من غير الطبيعي أن يبقى الفلسطينيون خاضعين لحالة من القمع تردعهم عن المطالبة بالمساواة، كما أنّه لا يجوز، وبنفس المستوى، أن يُعامَلوا وكأنّهم جزء عضوي من التركيبة اللبنانية، لأنّ في ذلك مخاوف على مصير قضيتهم بالذات. باختصار، يأتي الخامس من حزيران/ يونيو 1985 ليفتح النقاش واسعاً حول تحديد واضح لعلاقات لبنانية – فلسطينية غير متفجرة، تتجاوز أُطر اتفاقات القاهرة وغيرها، تعطي الفلسطينيين سياسياً لتنزع منهم امتيازاتهم العسكرية. بيد أنّ هذا الاحتمال يصطدم بعقبات منها:

  1. المعارك الأخيرة التي دارت بين حركة أمل وجماهير المخيمات، والتي أجازت لبعض المغرضين أن يطلقوا عليها اسم المجازر الجديدة، على يد “نبيه حبيقة” هذه المرة، وفي ذلك إشارة إلى مجازر صبرا وشاتيلا، التي ارتكبتها القوات اللبنانية، عام 1982 بقيادة إيلي حبيقة. إنّ هذه المعارك انطوت على ثغرات عديدة أتاحت لبعض الجهات أن تمارس التشويش، وأدخلت العلاقات الفلسطينية – الشيعية في منزلقات خطرة.
  2. الرغبة السورية في ألاّ تتكرّر الظروف التي أحاطت بالدور السوري في لبنان عام 1976، والتي أجازت لجميع الأطراف، بمن فيهم الفلسطينيون، حيازة أسلحة، إلى جانب سلاح الجيش السوري، الأمر الذي جعل مهمة قوات الردع العربية مهمة مستحيلة؛ لا شك أنّ هذه الرغبة المحقّة لم تتجه نحو الحل من الباب، بل استدارت حوله، وكان من الأجدى أن يكون السلاح الفلسطيني كغيره ومع غيره من الأسلحة “غير الشرعية” نقطة للنقاش والمعالجة تفادياً لانتقادات فلسطينية موجّهة ضد الموقف السوري.
  3. عدم قدرة الجانب الفلسطيني نفسه على حسم الموقف، ولا يبدو أنّ في الأُفق احتمالات على توحيد الموقف الفلسطيني بقيادة أبو عمار أو بقيادة غيره، مما يبقي “الطائفة” الفلسطينية في لبنان ضعيفة القرار والفاعلية.
  4. الحقيقة الرابعة وهي الأهم أنّ العلاقات بين اللبنانيين، طوائف أو أحزاباً لا يمكن أن تقوم على غير أُسس الديمقراطية، والتعددية بمعناها الإيجابي، الأمر الذي يفرض إعادة نظر بالمنطق التي قامت وتقوم عليه كافة المعارك الكبيرة والصغيرة بين فرقاء الصراع اللبناني، لا سيما الذين ينتمون إلى جبهة واحدة قاتلت الاحتلال الإسرائيلي وأدواته وعملائه. وهنا يعتبر المراقبون أنّ المعارك التي قامت بها حركة أمل ضد المرابطون ثم ضد المخيّمات ذات نتائج خطيرة جداً على المنحى الذي ينبغي أن يدخل الصراع اللبناني فيه، لأنّها، أي المعارك، تؤسّس لمرحلة جديدة من العنف الداخلي الذي يحمل في طياته احتمالات قيام مشروع طائفي جديد على غير يد الموارنة هذه المرّة.

بعد سنوات ثلاث، انحسر المشروع الصهيوني عن الأرض اللبنانية، وانهار المشروع المتصهين، ودخل لبنان في زمن الآمال العريضة بالحل، بيد أنّ جذور الحرب ما تزال في النفوس والقوانين. وطبيعة الحل وحدها كفيلة باقتلاعها أو مسؤولة عن تجاهلها.