29 مارس، 2024

دولار ريغــن!

        تراجع الدولار أمام العملات الأجنبية، بعد بلوغه في الأشهر الماضية أرقاماً قياسية في تقدّمه أو في تراجعه، تبدو القضية في ظاهرها، وكما برّرها ريغن، تعبيراً عن توازن القوى بين اقتصاد الولايات المتحدة واقتصاد حلفائها الغربيين. بيد أنّ الأرقام المأخوذة من الميزانيات والإحصائيات الاقتصادية الأميركية تشير إلى أنّ اختلال التوازن ليس في الحقيقة بين اقتصاد دولة واقتصاد أخرى بقدر ما هو بين السياسة الاقتصادية الداخلية والأخرى الخارجية للولايات المتحدة. وعلى أساس ذلك تحمل ساسة واشنطن مسؤولية اهتزاز العملات وعدم ثباتها وما يعتريها أحياناً من ضعف.

        وفي السياق نفسه يدرس الخبراء الاقتصاديون مسؤوليات الولايات المتحدة في تطور الوضع الاقتصادي على المستوى العالمي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وتبرز مسألة ارتفاع الأسعار كأحد أوجه أزمة تبتلي بها الأنظمة الاقتصادية الغربية.

        يجمع الخبراء على مسؤولية واشنطن في هذا المجال، وعلى أنّ أُسس هذه المسؤولية تنبع، بالدرجة الأولى، من البنية الداخلية للاقتصاد الأميركي. فقد استمرّت الميزانية تشهد عجزاً متصاعداً واستمرّت الكتلة النقدية بالنمو، واستمرّ التضخم في منحاه التصاعدي مع ما ينتج عن ذلك من تنامي معدلات البطالة. وكانت بداية الستينات تاريخاً فاصلاً بين مرحلتين. بين 1961 و1966 بلغ العجز مع الميزانية الأميركية 4,4 مليارات دولار، و25 مليار عام 1968. بعد عام 1969 الذي شهد فائضاً في الميزانية، عاد العجز ليبلغ 60 ملياراً ما بين 1976 و1980 و104 مليارات من الدولارات عام 1984. رافق ذلك نمو في الكتلة النقدية بلغت نسبته 3,4% بين 1961 و1966 و6,6% عام 1967 و7,7% عام 1968 واستمرّت النسبة في العامين اللاحقين في حدود 6,3%. وبسبب ذلك (العجز وتضخم الكتلة النقدية) بدأ معدل التضخم النمو فانتقل من 1.8% عام 1960 إلى 8,9% ما بين 1973 و1980 وارتفع معدل البطالة من 4,4% إلى 6,1% من القوى العاملة.

        لقد كان دور الولايات المتحدة في كونها نقلت أمراض الأزمة من بنية اقتصادها إلى البنى الأخرى في الخارج فأسهمت في مرض ظاهرة التضخم وعدم الاستقرار على الجهات التي تلعب دور الحلف والمنافس في آنٍ واحد، وكانت آثار ذلك مضاعفة في كافة البلدان المرتبطة اقتصادياً بعجلة الاقتصاد الأميركي لا سيما في ظل الدور الذي يلعبه الدولار في السوق النقدية العالمية. ففي البلدان الصناعية تضاعفت معدلات البطالة في حين ارتفعت نسبة التضخم ثلاث مرّات في بلدان أوروبا الغربية وفي البلدان النامية على السواء.

         يصل الخبراء إلى الاستنتاج بأنّ إعادة الاستقرار إلى سوق القطع وإلى الأسعار عموماً منوط بتوصل الولايات المتحدة إلى اتباع سياسة اقتصادية داخلية سليمة.

الحلفاء يدفعون الثمن

        أما التأكيد على الوجه الداخلي من السياسة الاقتصادية فهو في الحقيقة، مستند إلى فشل المحاولات التي سبق للولايات المتحدة أن بذلتها على مستوى العلاقات الاقتصادية الدولية. فلقد فشلت الإجراءات الخارجية في وضع حد للمشكل الاقتصادية لأنّ المعالجة كانت تنطلق بعيداً عن مصدر الداء. في هذا الإطار كان نيكسون قد قام بالمحاولة الأولى عندما بحث عن تأسيس نظام نقدي جديد بعد قطع علاقة الدولار بالذهب. أما المحاولة الثانية فقد قام بها كارتر عندما راح يقنع كلاً من ألمانيا الغربية واليابان بتقديم تنازلات من أجل المساعدة في النمو الاقتصادي على المستوى العالمي. وفي الحالتين كانت الأوضاع الداخلية في الاقتصاد الأميركي وراء فشل المحاولات الدبلوماسية.

        مع مجيء ريغن سعت الإدارة الأميركية إلى خطة اقتصادية جديدة على المستوى الداخلي منطلقة من اعتبارالوضع الداخلي عاملاً أساسياً في العلاقات الدولية ولكن ليس على أساس ترجمة شعار: “أميركا أولاً وقبل كل شيء” بمعناه الانعزالي بل بمعنى أنّ النظام الاقتصادي العالمي لا يكون إلاّ على صورة النُّظُم الاقتصادية في مختلف بلدان العالم.

        خلال ولاية ريغن الأولى بذلت إدارته اهتماماً بوضع برنامج اقتصادي جديد يقوم على تثبيت الأسعار ودفع عجلة النمو. وقد نجحت الخطة والتوصل إلى خفض ملحوظ في الضرائب وفي تقلُّص أقل حجماً للنفقات وفي اتّباع سياسة نقدية أكثر دقة وانضباطاً. لكن نتيجة ذلك كان مزيداً من العجز في الميزانية، وارتفاعاً في معدلات الفائدة، وتعزيزاً لموقع الدولار ولقيمته مقابل خفض في نسبة الصادرات وتراجع في النشاط الاقتصادي العام وانخفاضاً في نسبة التضخم مقابل ارتفاع مفاجئ في معدلات البطالة.

        عام 1982، وخلال قمّة فرساي، قدمت الإدارة الأميركية تصوراً لخطة اقتصادية تقوم على معالجات متفرقة للأوضاع الاقتصادية داخل كل بلد من البلدان الصناعية الكبرى على حدة (الولايات المتحدة، فرنسا، بريطانيا، اليابان، ألمانيا الاتحادية) واعتبرت أنّ من شأن ذلك أن يؤدي إلى تقليص معدّل البطالة وإلى تنشيط حركة السوق في المدى القريب. واقترحت جهازاً مشتركاً للإشراف السياسي يقضي بعقد اجتماعات، على مستوى عالٍ، لمسؤولين سياسيين من هذه البلدان الغنية.

        اعتباراً من عام 1982 أيضاً بدأت الديون المكسيكية وديون بلدان أخرى في العالم الثالث، تهدّد بإفلاس النظام البنكي الأميركي بل والعالمي. وسارعت الولايات المتحدة إلى ضبط سياستها بطريقة بدت مخالفة إنْ لم نَقُل متناقضة مع الأولويات التي كانت قد وضعتها الإدارة ولحظتها الخطة الاقتصادية. فلجأ البنك المركزي إلى تسريع نمو الكتلة النقدية وتخفيض معدلات الفائدة. وكن ذلك كفيلاً بتجاوز مؤقت للأزمة.

        وفي نفس العام ظهرت أعراض أزمة اقتصادية في فرنسا، بعد مجيء الاشتراكيين إلى الحكم ورفضت الولايات المتحدة التدخل لمساعدة الفرنك الفرنسي على عدم الهبوط في وجه الدولار ممّا أظهر الخطة الأميركية المقترحة على غير مصداقيتها. بل وأظهرها على حقيقتها في كونها تطالب الآخرين بواجبات معيّنة حيال الوضع الاقتصادي العالمي لمعالجة العواقب الناتجة عن السياسة الأميركية بالذات.

الريغنيّــة..

        مرّت السياسة الاقتصادية الريغنيّة في ثلاث مراحل، في المرحلة الأولى وجّهت الإدارة اهتمامها إلى الوضع الاقتصادي الداخلي، ووضعت قيوداً على استيراد السيارات اليابانية بينما رفعت قيوداً أخرى عن سلع من كوريا الجنوبية ومن تايوان. وفي عام 1983 دخلت الخطة مرحلتها الثانية، عملت إدارة ريغن خلالها على التوصُّل إلى اتفاق عالمي يتيح لها ممارسة ضغطها على السوق العالمية وأطلقت نقاشات ثنائية ومحلية حول التبادل الحر. وفي حين نجحت واشنطن في إقناع بعض الدول بذلك، كان جواب السوق الأوروبية المشتركة مجرد وعد بنقاش الموضوع. والجدير بالذكر أنّ مبدأ قيام السوق المشتركة أيام ديغول قام على أساس الحد من السيطرة الاقتصادية الأميركية وعلى الرغبة في تحصين الاقتصاد الأوروبي من الاختراقات  والضغوطات الأميركية.

        واليوم تدخل السياسة الريغنيّة في مرحلتها الثالثة وهي المرحلة الأكثر حدّة. ذلك أنّ الاتفاقات الثنائية حول التبادل الحر المعقودة بين واشنطن وبعض البلدان، كما هو حاصل مع إسرائيل، من شأنها، إذا ما استمرّت أن تعرّض العلاقات الجماعية بين الدول الصناعية الغنية للخطر.

        تنطلق بعض وجهات النظر من الاعتقاد بأنّ نظام التبادل التجاري القائم بعد الحرب الثانية هو نظام غير عادل. وتحاول الدول الناامية التي تشارك في وضع صيغة هذا النظام التوصل إلى قواعد جديدة. وهذا ما دفع الولايات المتحدة إلى اقتراح عقد مؤتمر جديد بين الشمال والجنوب وإلى إطلاق نقاش جدي بين الدول الصناعية الكبرى من جهة وبعض البلدان النامية التي دخلت طور التصنيع كالبرازيل والهند والمكسيك والفيليبين وكوريا الجنوبية، وذلك بهدف الخروج من الأزمات التي شهدتها سنوات السبعين والحؤول دون انقسام العالم إلى كتل اقتصادية جديدة.

        بعد تحقيق أهداف المرحلتين الأولى والثانية تحاول الإدارة الريغنيّة التوصل مع حلفائها، بالضغط أو بالمفاوضات، إلى إقرار صيغة التبادل الحر، ممّا يجعلها تستكمل عوامل السيطرة الاقتصادية على السوق العالمي. لكن هذه الصيغة التي نجحت مع إسرائيل بسبب الارتباط العضوي بين البلدين تشكل، بالنسبة للبلدان الصناعية الكبرى، تهديداً كبيراً لاقتصادها في ظل السيطرة الدولار على أسواق العملات العالمية.