16 أبريل، 2024

الرئيس البرازيلي يواجه

تركة الفساد والجوع

        المشاكل متعددة في البرازيل. وربما تكون مسألة التضخم هي الأبرز من بين الصعوبات التي تواجه الجمهورية الجديدة. فالشعب البرازيلي ما زال يحبس أنفاسه منذ الخامس عشر من يناير 1985، يوم اختار رئيساً جديداً للبلاد، وما زال ينتظر جديداً من العهد الجديد. ما أجمع عليه المراقبون أنّ أفضل ما أتى به العهد هو عودة الديمقراطية والإطاحة السلمية بحكم العسكر.

        لكن هذا الإنجاز، على أهميته، مهدَّد بالسقوط في سلّة الحكم الفارغة إذا لم يستكمل بغيره من الإنجازات. ولا يخفّف من مسؤولية الرئيس وصول بلاده إلى ما يسمّونه “وضع الأمّة المعقّد”. أمّا سبب التعقيد فهو أنّ “الأُمّة” وصلت إلى مرحلة من التطور مهمة على كافة الصعد، ولكنها بقيت تغرق في مرض التضخم، وهو المرض الذي يصيب كل بلد ينتج مالاً فوق طاقة اقتصاده.

        ومن الملفت للنظر أنّ البرازيل قد دخلت عصر التحديث في السنوات العشرين الأخيرة واستمرت ورشة العمل فيها، وما تزال، بحيث أُدخل إليها التصنيع الإلكتروني، وغدت من البلاد المصدِّرة في هذا المجال. والجدير ذكره أنّ فرنسا، على سبيل المثال، لم تنتبه إلى أهمية هذه الصناعة إلاّ في عهد فرنسوا ميتران، وهذا يشير إلى استباق البرازيل لحاجات العصر وضروراته مما دفعها إلى موقع متقدّم ليس فقط بين بلدان العالم الثالث بل بين البلدان الغربية نفسها، فغدت الدولة الثامنة من بين الدول الغربية من حيث غناها وقوة اقتصادها.

        إضافة إلى الإلكترونيات، أُقيم في البرازيل، في منطقة إيتايبو أكبر سد في العالم، وبدأت منطقة كارجاس استثمار أكبر أحواض التنجيم على الكرة الأرضية، وفتحت في جبالها العذراء طرقات واسعة، كما أطلقت في سماء الأمازون أول مركبة فضائية للاتصالات، وتضاعف إنتاجها من البترول ممّا وفّر لها اكتفاءً ذاتياً في مجال الطاقة.

سلّة الفساد وسلّة الإصلاح

        رغم كل ذلك يبقى اثنان من كل ثلاثة برازيليين يعيشون دون مستوى التغذية وفيها حصلت منذ فترة غير بعيدة حالة جفاف ومجاعة لم تشهد القارة الأميركية لها مثيلاً. ويبقى الشمال الشرقي، حيث يعيش ربع السكان، منطقة المجاعة البرازيلية على غرار الجوع التشادي والأثيوبي. وقد أدى ذلك إلى تفاقم الفوارق الاجتماعية فبلغت مداخيل الفئات العليا مئتين وخمسة وعشرين ضعفاً بالنسبة إلى مداخيل الفئات الدنيا. وغدت المدن مناطق سكنية لأكثر من نصف سكان البلاد، وأصبح ثلثا شعب البرازيل دون أية ملكية للأراضي مع أنّ نصف المساحة الصالحة للزراعة ما تزال حتى الآن دون استثمار.

        المفارقات ليست فقط في اقتصاد البلاد. إنّها أيضاً في البنية السياسية نفسها. فالعسكر الذين استولوا على السلطة، انقلبوا سلمياً على أنفسهم، وقرّر آخر الجنرالات تسليم المدنيين السلطة. والمفارقة الأهم أنّهم لم يسلموا الموالين لهم بل اختاروا زعيم المعارضة، أو على الأقل اختاروا ألاّ ينحازوا لجماعتهم ووقفوا على مسافة واحدة من كافة المرشحين ممّا سهّل وصول رئيس الجمهورية في انتخابات ديمقراطية.

        أولى مهمات الرئيس الذي استلم مهماته الرسمية في الأيام القليلة الماضية استكمال تعميم الحياة المدنية في البلاد والقضاء على كافة الآثار والبصمات التي تركها العسكر ليس فقط على مستوى السلطة العليا بل وفي كافة مستويات البنية الاجتماعية أيضاً. والمسألة الأبرز بعد ذلك هي إعادة التوازن الاقتصادي إلى البلاد بعد أن غرقت البرازيل في ديون خارجية وصلت إلى 100 مليار دولار وفي تضخم بلغت نسبته 223% في العام الماضي. وتتويجاً لذلك سيجد الرئيس نفسه أمام مهمة إعادة القوة المعنوية إلى بلد فَقَدَ الثقة بنفسه وأضعَفَ ثقة الآخرين به.

تـراث من الفسـاد

        بعد أن شهد حكم العسكر فضائح هائلة ومظاهر عديدة من الفساد، في الإدارة، في القطاع البنكي، حيث تورط وزراء وضباط في فضائح مالية كبيرة وبقيت العدالة عاجزة عن مجرّد التحقيق في ذلك.

        أكبر الفضائح تلك التي حدثت في الضمان الاجتماعي حيث تواطأ أطبّاء وموظفون كبار وشكّلوا فيما بينهم مافيا أخذت على عاتقها تزوير الوثائق اللازمة لاختلاس ملايين الدولارات، ولم يُفتح ملف هذه الفضيحة إلاّ مع اقتراب الخامس عشر من مارس موعد تسلُّم الرئيس سلطاته الدستورية.

        الفساد في البرازيل غدا جزءاً من التقاليد وتحوَّل إلى عمل منظَّم ومباح مع حكم العسكر. وأصبح من المستحيل ملاحقة المذنبين بسبب تعطُّل أجهزة العدالة لا سيما البوليس الذي أصابه من الفساد ما أصاب غيره فدخلت الرشوة إلى صفوفه وتضاعف حجم التعذيب الذي كان يرتكبه بحق المدنيين.

        بعد أن ظهرت على سطح الحياة السياسية لوثة الفساد تسرّبت إلى شرايين الحياة الإدارية كلها حتى غدا السطو في وضح النهار عملاً عادياً ومألوفاً بعد أن حظي اللصوص بحالة من التراخي في أجهزة العدالة، وقد شجّع على تفاقم هذه الظاهرة أنّ سياسة العسكر قد دفعت جزءاً من اقتصاد البلاد إلى التطور وكان من تأثير تلك السياسة أنّها زادت الأغنياء غنىً والفقراء فقراً.

الرئيس يطالب الشعب بالنسيان

        يقول أحد رجال الثقافة أنّ التخلي عن القيم الأخلاقية غدا مرعباً. وينبغي أن يبدأ الإصلاح من الصفر. أما الرئيس الذي غادر منذ أيام سدّة الحكم فقد طلب من مواطنيه أن يضعوه طي النسيان، واعترف أمام وسائل الإعلام أنّه لم يُخلق لمثل المسؤولية التي كان يتحمّلها. لكن فضيلته، إذا سُجِّلت له فضيلة، هي إتاحة المجال أمام بلاده لمغادرة الدكتاتورية نحو عصر الحريات العامة والديمقراطية. وليس ذلك من الأمور الثانوية.

        الرئيس الجديد يتميّز بالكفاءة والمهارة وقد لفت أنظار العديد من رؤساء الحكومات والشخصيات السياسية الأوروبية خلال جولته التي قام بها غداة انتخابه رئيساً. ولأول مرّة يشعر البرازيليون أنّ رئيسهم يمكن وضعه في عداد قائمة الرؤساء الكبار في العالم.

قروض المال لا قروض الجوع

        القروض ينبغي أن تُسدَّد مالاً وليس جوعاً. هذا ما قاله بصدد الديون الخارجية. وهو يعرف أيضاً أنّ الخطوة الاقتصادية الأولى هي في لجم ارتفاع الأسعار ولجم ارتفاع الرواتب. ويخشى المراقبون من بلبلة في الأوساط الاقتصادية ومن تفاقم الصراعات بين اليد العاملة وأرباب العمل لا سيما بعد أن برزت في الأيام الأخيرة بعض المشاكل في قطاع قصب السكر.

        لا شك أنّ الجمهورية الجديدة ستأخذ على عاتقها حل مشكلة الجائعين على أن تكون مسألة الديمقراطية في الدائرة الثانية من الاهتمام، وهذا ما سيتولاّه، على كل حال البرلمان المقبل الذي سيختاره شعب البرازيل مع ولاية الرئيس الجديد. ويبقى على الرئيس البرازيلي، باختصار، أن يباشر بوضع برنامجه موضع التنفيذ لا سيما في مجالين.

  1. برنامج الإصلاح الزراعي حيث من المتوقع أن يعيد توزيع ملكيات الأرض بشكلٍ أكثر عدالة.
  2. برنامج الإصلاح الضريبي بحيث من المتوقع أن يعيد توزيع الثروة بشكلٍ أكثر عدالة أيضاً.

بانتظار برنامجَيْ الإصلاح تنفتح أبواب مستقبل جديد في أكبر دول أميركا اللاتينية.