24 أبريل، 2024

عقدة الخطة الأمنية وعقدة التوازنات

        إذا كانت الخطة الأمنية التي يجري الصراع حولها في لبنان قد تعثّرت فليس في تعثُّرها ما يخالف منطق الأمور بل على العكس من ذلك يبدو التعثُّر نتيجة منطقية لجملة من الأمور التي يمكن إجمالها في عنوان واحد هو توازنات القوى وتوازنات المشاريع.

        أمّا في توازنات القوى فليس الأمر محصوراً بتلك القوى المتواجدة على الساحة وبشكلٍ خاص في المنطقة المعنية بالخطة الأمنية دون سواها بل يتجاوز هذه الحدود ليشمل كافة القوى المعنية على الساحة اللبنانية والعربية والدولية، وبذلك تصبح الخطة الأمنية مسألة عربية ومسألة دولية. هذا الاستنتاج لا يضع جميع القوى على مستوى واحد من المسؤولية ولا على مستوى واحد من التأثير سلباً أم إيجاباً.

        أمّا توازنات المشاريع فهي بدورها معقّدة بسبب تعدّد المشاريع وتباعدها وتناقضها في كثير من الأحيان. ففي لبنان وحده عدد من المشاريع كبير وليس في ألأفق ما يشير إلى انحسار هذا العدد. بل على العكس تبدو المشاريع في ازدياد ونمو.

        من ناحية أخرى تبدو الخطة الأمنية، كغيرها من القضايا، في ظاهرها بسيطة سهلة ولكنّها سرعان ما تجمع في داخلها كل تعقيدات الأزمة اللبنانية والشرق أوسطية! أليس من أهداف الخطة الأمنية أن تمنع أنصار الحل الإسرائيلي من التمادي وأن تمنع “المتمردين” على الشرعية من العبث بالشرعية ومؤسّساتها وأن تمنع الفلسطينيين من العودة المسلّحة إلى الجنوب وأن تمنع الظهور المسلَّح اللبناني لغير قوى الشرعية من جيش وقوى أمن داخلي؟ الخ. ويمكن المضي في الإضافة على هذه اللائحة إلى ما شاء الله من صنوف المشاكل وضروب القضايا العامة منها، بل حتى التفصيلية. قانون الجنسية، هو اليوم بين أيدي اللجان يكفي بذاته لكي يلخص ما يجري في هذا البلد ويجوز نفس القول على اختيار مكان لمكب النفايات ومكان آخر للمحوّل الكهربائي وغير ذلك من المسائل أو القضايا.

        مشكلة الخطة الأمنية مزدوجة. فهي أولاً مشكلة تشخيص الأعراض وهي ثانياً مشكلة الدواء والمعالجة.

أولاً: في وصف الأعراض:

        بالنسبة للطرف الرسمي، أي للسلطة الرسمية، ممثّلة فعلياً برئيس الجمهورية وجوازاً بالحكومة، تكمن المشكلة في أنّ جزءاً من أراضي هذا البلد ما زال خارجاً على الشرعية وقوانينها، والشرعية فيما تطلب المزيد من السيطرة فإنّها تنطلق من نقطة ضعف هائلة وهي أنّ معظم الأراضي اللبنانية وليس بعضها خارج عن سلطتها، بل إنّ سلطتها تكاد لا تصل إلى أبعد من حدود قصر بعبدا حسب تقديرات كافة المراقبين، وحتى لا يكون في الأمر مبالغة يمكن القول إنّها حاولت أن تمتد باتجاه المنطقة التي تسيطر عليها القوات اللبنانية. ولم يكن هذا التوسُّع في مصلحة السلطة لأنّ التوسُّع بهذا الاتجاه كان يتم دائماً تدعيماً لموقف القوات وتأكيداً لوجهة نظر حزب الكتائب في مواجهة نهج الرئيس أمين الجميّل الذي وإنْ كان كتائبياً، فمن الضروري أن يتمايز عن حزب الكتائب لكي يكون ممثّلاً للشرعية وإلاّ فإنّ صفته التمثيلية عن حزب الكتائب تكون هي الأقوى.

        بالنسبة لأطراف المعارضة فالخطة الأمنية تعني بالدرجة الأولى هوية القوة الأمنية وطالما أنّ هذه القوة غير موثوقة لا في تنظيمها ولا في توجهاتها فإنّ الخطة تتبع الأداة وتتلوّن بلونها فإذا “خافت” المعارضة من الجيش كقوة تقترحها الشرعية أداة تنفيذ للخطة فإنّها تخاف أيضاً من الخطة نفسها وقد تصل التحفُّظات لتطال المبدأ.

        أطراف المعارضة كثيرون يمتدون من الشمال حيث يرابط الرئيس السابق فرنجية الذي لا تعنيه كثيراً الخطة الأمنية إلاّ إذا جاءت في سياق حل علم يبقي له على منطقة نفوذه مروراً بطرابلس حيث تتفرَّد حركة التوحيد بحكم المدينة مطبقة فيها بشكلٍ “طوعي” شكليات قوانين الشريعة الإسلامية حتى على مدارس الإرساليات المسيحية!؟ والجيش اللبناني عليه تحفُّظات تنطلق من أُسس طائفية بالدرجة الأولى، مروراً بحركة “أمل” التي تعتبر أنّ الجيش الذي دمَّر الضاحية لا يمكن أن يصبح موثوقاً إلاّ إذا أُجريت تعديلات أساسية على تنظيمه لأنّ مشكلة الجيش من وجهة نظر الحركة مشكلة تنظيمية… وصولاً إلى طرفين يدور الصراع النهائي حول الخطة الأمنية بينهما ويتحلق حول كل واحد منهما عدد من الحلفاء: الطرف ألأول هو حزب الكتائب وهو القوة العسكرية التي تتعاطف مع الجيش ويتعاطف الجيش معها، أمّا الطرف الآخر فهو أحد أركان المعارضة، إنّه الحزب التقدمي الاشتراكي بزعامة وليد جنبلاط يتحلق حوله في إطار الجبهة الوطنية الديمقراطية التي يرئسها عدد من أحزاب الحركة الوطنية سابقاً ويتحالف معه “نبيه برّي” رئيس حركة أمل وأوساط إسلامية أخرى. أمّا حزب الكتائب فلم نذكر له زعيماً لأنّ زعيمه الفعلي الراهن هو رئيس الجمهورية أمين الجميّل الذي لا يستطيع أن يمارس زعامته من موقعه كرئيس للجمهورية، وهذا هو أحد المآزق الكبيرة أمام السلطة التي يمثّلها. إنّه مأزق عجزه عن الابتعاد عن حزب الكتائب أي عن المشروع السياسي الذي يمثّله هذا الحزب خشية أن يفقد آخر “قلاعه”، ومأزق عجزه عن الانخراط العلني والرسمي في قيادة الحزب بما تعنيه القيادة من ملاحقة يومية للمواقف والأحداث والتطورات.

        تبدأ أوساط المعارضة من مأزق رئيس الجمهورية المزدوج وتحاول أن تحشره في مواقف أكثر تمثيلاً للشرعية من تمثيله لحزب الكتائب وتشجعه على ذلك بالقول دون أن تقدّم له على الأرض أي تنازل يُذكر وإذا حصل وقدّمت له تنازلاً فلا يتعدى التنازل حدود الشكليات.

        قد تكون التحفُّظات على الخطة الأمنية، المعلن منها وغير المعلن، ذات طبيعة فنية وسياسية في آن، لكن المسألة حسب ما تعتقد الأوساط المطلعة أكثر تعقيداً. مع أنّ من السهولة إحصاء الملاحظات التي أحاطت بالخطة الأمنية واختصارها بالقول أنّ الخطة الأمنية التي اقترحتها قيادة الجيش هي خطة للثأر من نتائج معركة فبراير في الشحّار الغربي باعتبار أنّ معركة سبتمبر 1983 في الجبل التي استمرّت حتى قضية محاصرة دير القمر كانت محسوبة على القوات اللبنانية أكثر منها على الجيش. من هنا تأتي الملاحظات على خطة قيادة الجيش حول عدد المواقع وعدد الحواجز وحول التوضيح وحول النقاط الأساسية التي سيمسك الجيش بها وحول مدى انتشاره في عمق المنطقة. فالمعارضة ترى أنّ عدد الحواجز والنقاط ينبغي أن يحدد لا بروحية العداء للذين واجهوا قوات الكتائب والجيش في السابق بل بروحية اتفاق جميع الفرقاء على ضرورة إدخال الجيش إلى الجنوب.

        المعارضة ترى أيضاً أنّ تركيب القوة التي ستتولّى حماية الأمن، أي تنفيذ الخطة، مسألة أساسية في تحديد الموقف منها وفي هذا الاعتراض جانب طائفي وجانب سياسي أو بالأحرى إنّ الاعتراض السياسي يأخذ في بعض ألأحيان شكلاً طائفياً. أمّا القول إنّه اعتراض سياسي فهو نابع من أنّ المسألة هي مسألة السلطة والنزاع حولها جملةً وتفصيلاً. بالجملة هناك صراع حادّ حول الإصلاح وبالتفصيل هناك مناطق وسلطات لا تعترف الواحدة بالأخرى وبالتالي فإنّ الحديث عن الأمن في منطقةٍ ما يعني عدم التوافق على هدية السلطة السياسية فيها. من هنا تصر أوساط السلطة على البدء ببيروت الكبرى ثم خط الساحل باتجاه الجنوب ثم خط الساحل باتجاه الشمال بينما كانت المعارضة قد اقترحت بإصرار في البداية ثم بتساهل “سمّاه الوزير برّي دورة 180 درجة”، وكان الاقتراح يدور حول حاجز البربارة وفتح طريق طرابلس، وسوق الغرب وهي نقطة توتر دائمة بين الجيش اللبناني وقوات الحزب التقدمي الاشتراكي وهي النقطة الوحيدة تقريباً التي حافظ الجيش اللبناني عليها بعد معارك شتاء 1984 في الشحّار الغربي.

        المدافعون عن وجهة نظر السلطة وهم كثر، يملكون حججاً أخرى وروايات مختلفة عن نفس المسألة. فمن وجهة نظرهم لا يمكن الكلام عن خطة أمنية من دون أن تكون الشرعية هي المسؤولة والمؤتمنة على الخطة تصميماً وتنفيذاً. ويرى هؤلاء المدافعون عن السلطة أنّ أول عناصر قيام السلطة هو الجيش وفي حديثهم نسبة عالية جداً من المنطق، طبعاً منطق الدولة الحديثة التي لا تقوم بدون أجهزتها ومن هذه الأجهزة وفي طليعتها الجيش. ويقفز هؤلاء فوق اعتراضات المعارضة التي تقول إنّ الجيش ضمن هذا المنطق السلطوي ينبغي أن يدافع عن الوطن وعن حدوده وعن شعبه لا أن يشارك في حرب أهلية ويبني تركيبه وتسليحه على هذا الأساس. وفي قفزهم هذا يأخذون بالاعتبار أنّ ما مضى ينبغي أن يُنسى لكي تُكتب صفحة جديدة، لكن ذاكرة اللبنانيين قوية جداً، فلا أحد ينسى ولا أحد يغادر موقعه ببساطة.

        جماعة السلطة، في الواقع، ليسوا جميعاً، موالين لحزب الكتائب، بل إنّ من بينهم أطرافاً تؤيّد الشرعية أياً كان رئيس الشرعية وحجّتهم في ذلك أنّ المطالبة بغير الشرعية هو إقرار بتقسيم البلد إلى مناطق نفوذ كما هو حاصل عملياً. والمؤيّدون للسلطة ليسوا جميعاً اصحاب ميليشيات لذلك يبدو دورهم محصوراً في الوقت الراهن في الجانب المعنوي مع أنّ الدفاع عن موقف السلطة حول هذا الأمر وحول غيره ليس بالأمر السهل وصعوبة ذلك ناتجة عن أنّ المسألة هي من حيث المبدأ صعبة لأنّ كل مَنْ هو في السلطة معرّض للمواجهة، على الأقل في البلدان الديمقراطية التي تمنح كافة القوى حرية التعبير عن الرأي، فكيف إذا كانت القوى قد استفادت من حجم الديمقراطية الذي كان موجوداً وزادت عليه أضعافاً بعد أن انتزعت بالقوة ما لم يكن بحوزتها في السابق.

        إذن يبدو الخلاف حول الخطة الأمنية وكأنّه خلاف على التفاصيل التنفيذية بين الأطراف المتنازعة في لبنان حين أنّ الحقيقة تقرّ بوجود مثل هذه الخلافات التفصيلية ولا تتوقف عندها بل تفتش، في ما هو أبعد من ذلك.

        قبل البحث في الزوايا البعيدة يمكن التذكير في أنّ النقاش الدائر حول الخطة الأمنية، وهو نقاش حاد طبعاً، يهدف من جانب كل طرف إلى تحميل المسؤولية للطرف الآخر فيبدو ظاهرياً أنّ المعارضة هي التي تعارض الخطة الأمنية في حين ترى المعارضة أنّ الذي يعرقل الخطة الأمنية هو السلطة التي لا تلتزم بتعهداتها وبالتزاماتها وهذا ما فعلته بقرارات جنيف ولوزان وبشأن القرارات الصادرة عن قمة الأسد الجميّل. وتتهم المعارضة رئيس الجمهورية بالمماطلة والتأجيل والمناورة لأنّه ينتظر ويرجو حصول تغييرات في المنطقة قد تكون في صالحه، وهكذا يُتقن لعبة التملُّص من قراراته وذلك بإحالة هذه القرارات على جهات وأجهزة تنفيذية، وهناك، أي في تلك الأجهزة وبنوع خاص الجيش، يلعب رئيس الجمهورية لعبة التملُّص كما في موضوع الخطة. فالخطة كانت تعني، برعاية دمشق، توافقاً على تأمين مرور الجيش باتجاه الجنوب تحسُّباً لانسحاب إسرائيلي كما كانت ترمي إلى توسيع رقعة السيطرة الشرعية، في حين أنّ مشروع الجيش حسب رأي المعارضة يهدف إلى السيطرة الكتائبية على قسم من الجبل ويرمي إلى توسيع دائرة السيطرة الكتائبية وليس الشرعية ويتناسى المسألة الأساسية وهي مسألة الجنوب.

السلطة لا توافق طبعاً على التحليل

        الخطة التي يجري درسها هي خطة تحتك بالقوى المحيطة وبشكل خاص بإسرائيل من جهة وبسوريا من جهة أخرى.

        بعض وجهات النظر تعتبر أنّ إسرائيل ليس لها أيّة مصلحة بخطة أمنية وهي تفضّل غخلاء جزء من المنطقة التي تحتلّها دون أي تنسيق وتفضّل أن يحصل في هذه المنطقة أحداث مشابهة للتي حصلت في الجبل إثر انسحابها الأول. إنّها تفضّل ذلك لأنّها تعتبر أنّ دخول الفلسطينيين إلى الجنوب مرّة أخرى أمر غير معقول في المرحلة القريبة المقبلة ولذلك فهي مطمئنة إلى هذا الجانب ولا تحتاج إلى مَنْ يتعهّد لها رسمياً بمنع الفلسطينيين أو بالأحرى إنّها تحتاج من التعهد إلى قيمته السياسية لا إلى قيمته العملية لأنّها على المستوى العملي غير قلقة من هذه الناحية وإنْ كانت قلقة أضعاف المرّات من نواحٍ أخرى منها على سبيل المثال لا الحصر أنّ المقاومة الوطنية في الجنوب كانت ولا تزال عنصراً أكثر إرباكاً بآلاف المرّات ممّا كان يشكّله الفلسطينيون، على المستوى العملي من إرباك. إذن مصلحة إسرائيل، حسب هذه الوجهة من النظر، هي عدم تسهيل الخطة الأمنية، لكن الخلاف الداخلي اللبناني – اللبناني يعفيها من الكشف عن نواياها الفعلية. تلك النوايا يعرفها بشكلٍ خاص الجنوبيون الذين تتوجّه إليهم إسرائيل مشجّعة إياهم على التقاتل فيما بينهم على أُسس طائفية طبعاً وغير طائفية على طريقة “فرّق تسد” تحضيراً لانسحابٍ مفاجئ قد يحصل قبل الخطة الأمنية.  

        أمّا لماذا لم تنسحب إسرائيل من بقعة صغيرة رغم الإشاعات المتكرّرة حول انسحابها وما هي علاقة ذلك بالخطة الأمنية؟ أوساط المعارضة الداخلية اللبنانية تتهم صراحة حزب الكتائب الذي ما يزال يحافظ على تحالفه العملي مع إسرائيل وعلى تنسيقه الرفيع المستوى معها أو على الأقل ما يزال يحرص على إبقاء هذه العلاقة وإنْ كانت إسرائيل لا تشاركه نفس الحرص. والمعارضة تتهم السلطة الشرعية ممثّلة برئيس الجمهورية الذي يذهب إلى الولايات المتحدة “راجياً” تدخُّلها للضغط على إسرائيل حتى لا تنسحب قبل الخطة الأمنية. بعض أوساط المعارضة ترى أنّ هذه الرجاءات حصلت عدة مرات كانت إسرائيل فيها على أهبة الاستعداد لانكفاء جديد.

        أوساط السلطة لا ترد على هذا الكلام بل تتجاهله تماماً، معتبرةً أنّ الخطة الأمنية هي وحدها العنصر الذي يطمئن إسرائيل إلى وجود قوة مقبولة ومتّفق عليها وقادرة على حفظ الأمن في بيروت والمناطق وبالتالي أمن إسرائيل!

        الولايات المتحدة من جانبها مرتبكة ارتباكاً شديداً بشأن المنطقة بعد أن خرجت منها ذليلة مهزومة. وهي تحمّل المسؤولية تارةً لإسرائيل وطوراً لحزب الكتائب على الأقل في السر وفي الكواليس، لكنّها رغم ارتباكها ترى أنّ مصلحتها الفعلية تقضي بتأمين الأجواء لعودة مبادرتها السياسية إلى المنطقة وترى أنّ الخطة الأمنية التي يجري نقاشها في لبنان قد تصبّ في تلك الأجواء لكنّها تبقى العامل الأضعف لأنّ مركز الثقل انتقل من وجهة نظر الولايات المتحدة نحو عواصم أخرى غير بيروت.

        الجانب السوري له مصلحة فعلية وكبيرة في تنفيذ الخطة الأمنية وهو بدوره مرتبك ومتردّد بين دفاعه عن أهدافه الفعلية في لبنان القاضية بعدم السماح بالإخلال بتوازن القوى والطوائف ويعني ذلك بشكل عملي عدم السماح لقوى المعارضة بالإطاحة بنظام الرئيس أمين الجميّل، وبين رغبتها في دعم القوى التي انتصرت لها في لبنان والتي انتصرت للعروبة، عروبة لبنان وانتمائه إلى محيطه ضد اتفاق السابع عشر من أيّار والانتماء الإسرائيلي. إذن مصلحة الخط السياسي السوري هي في تنفيذ الخطة ولذلك فهي تمارس الضغوط وغالباً ما تجدي هذه الضغوط ولو متأخرة. بعض أوساط المعارضة ترى أنّ مصلحة سوريا الستراتيجية هي في القضاء على البؤر الرجعية “الانعزالية” في لبنان وترجمة ذلك إضعاف حزب الكتائب مرّة أخرى بعد أن جرى إضعافه في معركتين سابقتين حصلتا بعد الاحتلال الإسرائيلي.

        الأجواء العربية تقف موقف المتفرّج وتمنح سوريا ثقة مبهمة أحياناً وواضحة أحياناً أخرى “وتتمنّى وتأمل” ولكن! وما نيل المطالب بالتمنّي! محصلة موقفها أنّه ضعيف التأثير حالياً في لبنان. الفلسطينيون منقسمون طبعاً قبل المجلس الوطني الفلسطيني في الأردن وسيستمرون على انقسامهم بعد هذا المجلس المتهم من قِبَل البعض بأنّه مؤتمر “مزوَّر”. المعارضة الفلسطينية تؤازر المعارضة اللبنانية في مواقفها، “السلطة” الفلسطينية ينبغي، موضوعياً، أن تؤازر السلطة اللبنانية. أوساط المعارضة اللبنانية تؤكّد ذلك وتتهم السلطتين بالتنسيق على مستوىً أرفع ولديها أدلّة عملية ونظرية. في المقابل لا تستطيع السلطة اللبنانية الدفاع عن السلطة الفلسطينية أولاً لأنّ ذلك مستحيل الآن كتائبياً، وثانياً لأنّ ذلك غير مقبول سورياً، وثالثاً لأنّ ذلك الموقف يصعب الدفاع عنه.

        وإذا اعتبرنا أنّ الاتحاد السوفياتي لا يتدخّل كثيراً بهذه التفاصيل فيمكننا إيجاز اللوحة على الشكل الآتي: معظم القوى خارج لبنان إمّ لأنّها تؤيد الخطة أو أنّها لا تعبّر عن موقفها ويصبح الاستنتاج بالتالي أنّ القوة الخارجية الأكبر تأثيراً في لبنان هي التي ستقرّر نجاح الخطة أو فشلها: إسرائيل وسوريا، مع الفارق النوعي وهو أنّ إسرائيل تتراجع في مواقعها السياسية والعسكرية ويتراجع بالتالي نفوذها مما يضعف دورها في لبنان دون أن يلغيه ويضعف مصداقيتها أمام حلفائها. أمّا سوريا فإنّها تجتاز خطاً معاكساً يتميّز بتنامي دورها في لبنان وبمضاعفة نفوذها. وإذا افترضنا أنّ الدور السوري هو الأكثر فاعلية وأنّه هو الذي يملك نسبة عالية من الأرواق، وإذا افترضنا أنّ نهجه في التعاطي مع اللبنانيين هو نهج تقريب وجهات النظر فيما بينها شرط أن تقترب من وجهة نظره هو فإنّ مستقبل الخطة الأمنية مرهون بنجاح ضغوطه على الأطراف المحلية. هذا هو الاستنتاج الأول وفيه يمكن القول أنّ المستقبل القريب لن يغيّر من المعطيات الأساسية. إذن ستبقى مصلحة سوريا في الضغط للتوصل إلى اتفاق.

        الاستنتاج الثاني هو أنّ الضغط السوري نفسه سيقى مرهوناً بآلية الصراع اللبناني الداخلي الذي يزداد في الواقع تعقيداً كلّما ازداد عمر الأزمة والحر. وفي آلية هذا الصراع تحتل القوى المحلية الموقع الأساسي من مواقع تقرير الخطة الأمنية وغيرها ويصبح من الصعب، حتى لو شاءت القوى الخارجية، أن يجري تنفيذ الخطة لأنّ المسألة ليست حول المبادئ، ولا حول العناوين. إنّها اليوم حول تفاصيل التفاصيل. إنّها لم تعد فحسب تدور حول المشاريع بل حول جزئيات هذه المشاريع. وإذْ ذاك يصبح الغوص في “وحل” الأزمة اللبنانية ومتاهاتها أصعب من أن يحلّه تدخُّل خارجي بواسطة “العصا” كما حصل في بعض الأحيان، على يد إسرائيل مثلاً أو بواسطة “الجزرة” كما حصل في بعض مراحل التدخل العربي والمساعدات التي قُدّمت للبنان.

        إذن عقدة الخطة الأمنية هي عقدة الأزمة اللبنانية برمّتها، ففي الخطة الأمنية تتقاطع مشاريع الحلول المطروحة والتي لا يتّسع الحديث عنها في هذه المقالة. إنّها المشاريع بعناوينها الكبيرة مثل عروبة لبنان ووحدة لبنان والديمقراطية الخ.. وما تعنيه هذه العبارات في المشاريع التفصيلية والجزئية. إنّها أيضاً مشاريع الحل المطروحة لأزمة الشرق ألأوسط والتي بدورها تتفرّع إلى حد يصبح من الصعب معه تمييز ما تنتهي إليه الفروع. إذن ما هي المشاريع التي تصارعت وتتصارع في هذا البلد الذي مزّقته الحرب؟ وما هي حظوظ هذه المشاريع من النجاح؟ في الإجابة على ذلك قد نجد الجواب على إمكانية نجاح الخطة الأمنية إذا ما نفذت هذه الخطة الأمنية، وهذا هو المتوقع ولو تأخّر ذلك، إلاّ إذا غيّرت إسرائيل كل المعطيات وانسحبت جزئياً قبل وقوف الخطة على قدميها.