28 مارس، 2024

قداسته يعيد الكنيسة إلى السياسة

فأيـن نابليـون؟

        منذ ما يقرب من مايتي عام أصدر نابليون جملة من القوانين التي أرغمت، يومذاك، الكنيسة على عدم مغادرة عالم اللاهوت، وعلى عدم التدخل في الشؤون الزمنية، والسياسية منها على وجه التحديد. وكان هذا السلوك تعبيراً عن موقف السلطة الجديدة التي دكّت عروش سلوك فرنسا وسجونهم لتقيم على أنقاضها دولة الحرية والإخاء والمساواة وهي شعارات الثورة الفرنسية الثلاث المشهورة.

        غير أنّ تلك القوانين كانت حصيلة صراع طويل بين السلطة والكنيسة. كانت هذه الأخيرة تلعب فيه على الدوام دور المعترض على عملية تطوير الأُطر السياسية القائمة التي كانت تشكّل جزءاً منها، تحت اسم الإكليروس وإلى جانب فئة أخرى من الناس الحاكمين هم النبلاء.

        بعد هذا الصراع الطويل وضعت السلطة حداً لنفوذ الكنيسة في المجال السياسي. بل وأكثر من ذلك، فقد أصبح دور الكهنة شبيهاً بدور الموظفين، الذين يهتمون بالميدان اللاهوتي. وقد كانت سلطة نابليون، على كل حال، هي التي تدفع لهم الأجر الشهري بصفتهم موظفين كغيرهم من موظفي الدولة.

        ومن الطرائف حول هذا الأمر، أنّ التشريع الذي، بموجبه تحوَّل الكهنة إلى موظفين أصبح بعد موت نابليون هدفاً صوّبت إليه الكنيسة كل نقمتها ونجحت، ولو جزئياً، في معركتها مع السلطة الجديدة، وتمكّنت من إلغاء صفة الوظيفة عن مهمة الكاهن لتعود الكنيسة من جديد صاحبة القول الفصل في شؤون موظفيها هي وليس الحكومة، أياً تكن الحكومة. وحين انقلبت الحكومة الفرنسية على بعض تشريعات نابليون كانت مقاطعتا الإلزاس واللورين الشهيرتان خارج سيطرة الحكومة         الفرنسية، لذلك استمرّت تشريعات نابليون، فيهما نافذة المفعول، في حين عاد الكهنة ورجال الدين في كافة المناطق الفرنسية إلى نظامهم الكهنوتي المنتظم في إطار الكنيسة.

        وبحكم العادة، استمرّ هذا التقليد حتى عهد الجمهورية الفرنسية الحالية، حيث يخضع الكهنة، في بعض فرنسا، لتنظيم نابليون، وفي بعضها الآخر للتنظيم الكنسي المعروف.

        بعد مايتي عام على محاصرة الدور السياسي للكنيسة، ها هي تعود إلى ممارسة السياسة من الباب العريض لا سيما في عهد قداسة البابا الحالي يوحنّا بولس الثاني.

        وممّا لا ريب فيه أنّ هذين العقدين من القرن العشرين يشهدان عودة إلى المظاهر الشكلية من التديُّن، بل إعادة الدين إلى مفاهيم التعصُّب المذهبي والطائفي ممّا يغذّي النزعة العنصرية. وليس من باب الصدفة أن تكون الحركة العنصرية الناشئة في فرنسا، وهي حركة تستهدف بالدرجة الأولى العرب والمسلمين، وقد ترعرعت في الأجواء المحافظة وفي ظل صراع بين السلطة والمعارضة أخذت الكنيسة فيه دوراً بارزاً إلى جانب الاتجاهات المغرقة في عنصريتها والتي تذكّر ببدايات الحركة النازية.

        وفي هذين العقدين شهدت الكرة ألأرضية أحداثاً وحركات اتخذت طابعاً دينياً، أو على الأقل، حاولت جهات معيّنة أن تضفي عليها طابعاً دينياً. هذا ما ظهر بوضوح في إيران. وفي بولندا، وفي أفغانستان، وهذا ما ظهر أيضاً في الولايات المتحدة الأميركية نفسها حيث يبلغ تعداد المنظمة الدينية القائمة على أسس تعصُّبية أكثر من سبعين مليوناً من الأميركيين.

        وكالعادة، دفعت الولايات المتحدة والدوائر المرتبطة بها ثمناً للعبة التي اختارتها، وللسلاح الذي استخدمته، وهو سلاح ذو حدّين. لقد رأت الولايات المتحدة أنّ أفضل وسيلة يمكن أن تُغرق فيها العالم الثالث  بالمشاكل هي دفعه للتخبُّط في مشاكل طائفية وعرقية وإثنية ومذهبية الخ. وكانت قد اختارت ظروفاً ملائمة، حسب وجهة نظرها، لإشغال الاتحاد السوفياتي بجملة من المشاكل المحيطة به. ومن هنا كان التركيز، بشكل خاص، على الوضع في بولندا.

        وفي هذا السياق بالضبط كان اختيار البابا من الرعايا البولونيين. إنّه اختيار أوساط في الكنيسة قرّرت أن تثأر لنفسها من هزيمتها أمام نابليون، أي أن تستعيد دوراً كانت قد فقدته منذ زمن. غير أنّها هذه المرّة تخوض في السياسة ضمن معادلة جديدة أي في إطار مضمون جديد.

        كان الصراع أيام نابليون ناتجاً عن تناقض حاد بين حاجة النظام السياسي إلى التطور ومصالح الكنيسة المنحازة، يومذاك، وبشكلٍ قاطع، ضد التطور. لكن حاجة المجتمع إلى تلك النقلة النوعية دفعت الكنيسة إلى مهاوي الخسارة.

        أما اليوم فكيف يبدو سلوك الكنيسة وما هو موقفها مما يجري في مجال الصراع حول السلطة؟

        لا شك أنّ الحوادث السابقة ستبقى مثاراً للجدل وللسجال بين مؤيّد ومعارض، بل بين موافق ومعترض على دور الكهنة والكنيسة بشكل عام لا سيما حين يكون الأمر متعلّقاً بموضوع الصراع بين الشرق والغرب، حيث يجيز البعض، في مثل هذه الحالة، تدخُّل الكنيسة ضد “الشيوعية” وضد الإلحاد، أو يستخدمون ذلك مطيّة لموقف سياسي.

        أمّا الأحداث الأخيرة فهي تدل بوضوح على موقف الكنيسة، مما يدور في أميركا اللاتينية. وفي هذا المجال بالذات يمكن التوقف عند زيارة قداسة البابا لعدد من بلدانها. وفي زياراته كلّها خيط رابط يوحّد الرؤيا والأهداف.

        لقد اعتبر البابا أنّ الكنيسة في أميركا الجنوبية قد تعرّضت إلى خطر الانحراف عن نهج السيد المسيح، ورأى في نهج كهنة نيكاراغوا بالتحديد ما يكفي لدق ناقوس الخطر على الكنيسة من “الزنادقة” و”الكفرة” و”الملحدين” و”الماركسيين”… الخ. وأدان بوضوح قاطع الظاهرة التي أطلق عليها “الكنيسة الشعبية” أي النظرة الجديدة التي يوليها الدين إلى الصراع الاجتماعي القائم في أميركا اللاتينية.

        وبداية ذلك “الخطر” كانت في عام 1968 حيث أقدم كاهن شاب من البيرو، اسمه غوستافو غوتيريز، على عرض تقرير عمّا أسماه: “لاهوت التطور”. ومنذ ذلك الحين أصبح هذا الكاهن هدفاً يُرمى من قِبَل جهات أخرى في الكنيسة أعابت على بعض علماء الدين المسيحيين وقوفهم إلى جانب الحركة الساندينية في نيكاراغوا ضد إرهاب سوموزا. 

        لكن هذا الكاهن نفسه نال من الخطوة والتأييد، ليس فقط على المستوى الشعبي، بل في داخل الكنيسة أيضاً، ما جعل أفكاره تشق طريقها بسهولة في قارته التي تعاني من مشاكل شتى لخّصها أحد الصحافيين المطّلعين بالتالي: البؤس، المجاعة، البطالة، الجهل، القمع، الدكتاتورية، الظلم، التعذيب…الخ.  وهذا ما دفع بالكاردينال غودفريد داهنلز البلجيكي إلى التصريح، بعد جولة قام بها في أميركا اللاتينية: “لو كنت أنا هناك، لكنت فعلت نفس ما يفعله أولئك الذين يجدّدون الكنيسة من داخلها. ويصبح بمثابة الكارثة إذا وقفنا في مواجهة محاولاتهم”.

        كان هذا الكلام سبباً في احتدام التنافس بين التيارين داخل الكنيسة وهذا ما دفع الفاتيكان إلى التدخُّل مباشرة للوقوف في مواجهة أفكار الكاهن غوستافو غوتيريز. وكان ذلك في آذار من العام الماضي يوم تمكّنت الفاتيكان من إحداث شرخ في كنيسة البيرو وانقسام حيال الأفكار “الجديدة” التي يبتكرها بعض “المجتهدين”.

        لكن هذا التدخُّل لم يحسم المسألة، ولا استطاع أن يضع حداً “لانحدار” الكنيسة نحو معالجة المشاكل الاجتماعية من موقع الانحياز للفئات المظلومة من المجتمع. ولذلك كانت رحلة قداسة البابا تعبيراً عن استخدام الفاتيكان لكامل رصيده. ولهذا بالضبط وُجِّهت دعوات لشخصيات كنسية من أجل مرافقة البابا ومن أوباندو إي برانو أسقف ماناغوا حيث السلطة للساندينيين والمونسينيور ريفيرا إي داماس أسقف سان سلفادور حيث تدور مواجهة بين النظام وبين ثوار فارابوندو مارتي.

        وأخيراً ليس التوقف عند بعض تفاصيل رحلة قداسة البابا إلى أميركا الجنوبية إلاّ من قبيل رصد موقف الكنيسة وموقعها بعد مايتي عام على هزيمتها أمام ضرورات التقدم الاجتماعي. فهل يكفي موقف الكنيسة اليوم لكي يمنع حصول تغيير حتمي هنا وهناك من مناطق العالم؟ طبعاً لا. ولن تؤدي زيارته وجولاته المتعددة إلى تحصين مواقع الظالمين ضد المظلومين لأنّ في هذا فقط خروجاً على تعاليم المسيح وعلى تعاليم كل الديانات السماوية.