20 أبريل، 2024

من باب الوطن إلى شباك العشيرة

        استقالت الحكومة اللبنانية، حكومة الوحة الوطنية، بشكلٍ رسمي بفعل الانفجارات التي عصفت بها وبعاصمة الوطن الممزَّق؛ ومع استقالتها يفتتح لبنان مرحلة جديدة من أزمته المستعصية. وقد تكون أشد المراحل صعوبة، وأكثرها تعقيداً، وأغناها على صعيد الاحتمالات.

        الأسباب المباشرة للاستقالة هي أحداث بيروت الغربية. وقد قيل في تفسيرها الكثير، وكل ما قيل يحمل جانباً من الحقيقة. ومما لا شك فيه أنّ القشّة التي قصمت ظهر البعير ليست اتفاقات دمشق بقدر ما هي مجموعة من العوامل التي اجتمعت في نقطة واحدة لتنفجر نهار الثلاثاء ليلاً ولتضع، للمرّة الثانية، حداً للوجود العلني لإحدى التنظيمات البيروتية ذات الاتجاه الناصري.

        العامل الأول هو دون شك انتفاضة سمير جعجع والقوات اللبنانية ضد منحى الحل العربي المتمثّل بالمشروع السوري لحل الأزمة اللبنانية، وهي في الحقيقة انتفاضة ضد منحى التنازلات التي وافق على تقديمها رئيس الجمهورية أمين الجميّل، بعد حسابات دقيقة أجراها لموازين القوى، وبعد الهزائم التي مُنّي بها في جبل لبنان وبيروت الغربية والضاحية الجنوبية، وبعد الانسحاب الأول والثاني والثالث، وبعد خيبة الأمل الأميركية من نظام الكتائب، وخيبة الكتائب من سياسة ريغان التي وُصفت بالميوعة وعدم الحسم، وبعد إلغاء اتفاق 17 أيّار/ مايو، وغير ذلك من الأحداث التي جرت عكس ما تشتهيه سفن الحكم الكتائبي.

        كان لانتفاضة جعجع تأثير واضح على مجريات الأمور خلال الشهر الماضي. فهي قد أعادت الأمور في لبنان إلى نقطة البداية، والبداية هذه المرّة مختلفة عن سابقتها في عام 1975، عام اندلاع الحرب الأهلية، وعن سابقتها بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982؛إنّها بداية تراجع المشروع الصهيوني. وقد كان من منطق الأمور أن يترافق ذلك مع بداية تراجع المشروع الفاشي الكتائبي، وهذا ما لم يقرّ به سمير جعجع، وفوق ذلك فقد أصرّ على المضي من جديد، فخلط أوراق حزبه، وأوراق المعارضة. وكان من نتائج خلط الأوراق أنّ قوى جديدة حسمت موقفها نهائياً من الحكم الكتائبي، وأضافت قوتها إلى قوة وليد جنبلاط والجبهة الوطنية الديمقراطية. وكان لا بد أن يدفع حسم الموقف الأمور نحو التصعيد، والتصعيد أمر محكوم بموازين عربية إضافة إلى الموازين اللبنانية.

        العامل الثاني عربي، وقد اتهم الوزير نبيه برّي صراحة، جهة عربية بالتآمر على أمن بيروت الغربية ووحدة موقفها السياسي. وما أراد الوزير برّي قوله هو أنّ الحل العربي المتمثّل بالدور السوري في لبنان كان موضع اعتراض بعض الجهات العربية مما دفع ببعض امتداداتها اللبنانية إلى إخراج هذا الاعتراض إلى العلن، والتعبير عنه بالعصيان المسلَّح، الأمر الذي رفع حدّة التوتر فجأةً، ودفع بيروت الغربية إلى ليلة عسكرية تذكّر بالأيام السوداء التي عاشتها مرّات كثيرة فيما مضى.

        العامل الثالث هو أزمة مدينة صيدا. وهي أزمة الموقف الرسمي المماطل الذي لم ينتصر لعاصمة الجنوب ضد المعتدين عليها، حتى أنّ قضية الملاّلات باتت مهزلة القرارات، بعد أن استمرّت في مطار بيروت تتهيّأ للانطلاق إلى الجنوب، دون أن تنطلق، طيلة أسبوعين، وكانت الحجّة في ذلك أنّها غير مزوّدة بمدافع رشاشة! أمّا السبب الحقيقي فهو أنّ الحكم الكتائبي كان يرغب في تفادي صدام الجيش اللبناني مع “القوات اللبنانية” وفي كسب المزيد من الوقت قبل أن يتخذ قراره، لعلّ في التأجيل مناسبة لتغيير بعض الظروف الضاغطة على الرئيس أمين الجميّل. لكن القوى المعارضة كانت ترى في ذلك انخراطاً رسمياً بالتآمر على مدينة صيدا وهذا ما دفع نائب مدينة صيدا الدكتور نزيه البزري إلى التهجُّم على رئيس الحكومة واتهامه بتبنّي موقف “القوات اللبنانية”.

الرابط بين أزمة صيدا وأحداث بيروت الغربية هو غياب الموقف الوطني، فالمراقبون يعتقدون أنّ عدم حسم الموقف ضد القوات اللبنانية، وضد الحكم الكتائبي المتواطئ معها، يعود، في جزء منه، إلى عدم وحدة الموقف الوطني من هذه المسألة. وبعد أن بذلت جهود حثيثة دبلوماسية من أجل حل أزمة صيدا، دون جدوى، شكّل استمرارها ضغطاً هائلاً على القوى التي يفترض فيها مناصرة المدينة المحاصرة والمخيمات القريبة منها، وبات توحيد الموقف ضرورة يحول دون تنفيذها بعذ التعارضات العربية واللبنانية.

العامل الرابع هو زيارة مورني والمساعي الجارية على الضفة الأخرى لحل أزمة الشرق الأوسط. وقد كان للزيارة فعل السحر، حسب قول أطراف المعارضة الفلسطينية؛ ذلك أنّ نجاح الزيارة يفترض بالضرورة تعطيل الدور السوري في لبنان أو الوقوف موقفاً اعتراضياً منه، من أجل إضعافه في المنطقة.

إنّ ما حدث يُعتبر انتفاضة ثانية أو ثالثة في بيروت الغربية. المرّة الأولى حصلت في أيلول/ سبتمبر 1983، الثانية في شباط/ فبراير 1984، والثالثة في نيسان/ أبريل 1985. يضاف إلى ذلك المعارك التي تلت الانتفاضة الثانية والتي تُعتبر اليوم تكراراً لها شكلاً ومضموناً. أمّا في الشكل فقد كان الهدف من المعركة إقصاء إحدى التنظيمات البيروتية عن ساحة العمل السياسي والعسكري لأنّها غير منخرطة في القرار السياسي الذي يطمح البعض إلى توحيده. أمّا في المضمون فقد شكّلت المعارك في المناسبتين تعبيراً عن رغبة في استكمال الهجوم على موقع الحكم الكتائبي ممثَّلاً في المرّة الأولى بالمطالبة بإسقاط رئيس الجمهورية، وفي الثانية، بالقرار الذي اتخذه الاجتماع الموسَّع الذي انعقد مساء السابع عشر من نيسان/ أبريل، والذي ينصّ على إعلان التعبئة العامة دفاعاً عن صيدا، أي هجوماً على القوات اللبنانية وعلى سياسة الحكم المنحازة ضد وحدة الوطن، حسب ما تقول أوساط المعارضة.

لقد تركت الأحداث انعكاسات سلبية في الشارع البيروتي، وذلك أنّ ظاهرة التفتت الطائفي والمذهبي قد أخرجت الطائفة السنيّة من دائرة التمثيل ضمن أُطر العمل الشعبي السياسي والعسكري، خاصة بعد أن فضّل ممثّلو الطائفة تمسُّكهم بالصيغة التقليدية، وبعد أن أكّدوا، أكثر من مرّة، على نهجٍ يرغب في التوصل إلى مساومة مع حزب الكتائب، ويستبعد المواجهات الحاسمة معه، وهذا ما تعارض كلياً مع طبيعة المشروع الكتائبي الذي لم يقبل أيّ حل وسط، والذي رفض كل العروض اللبنانية والعربية والدولية بهذا الشأن.

هذه الانعكاسات بلغت، هذه المرّة، حدّ الخطر، لأنّها نقلت خطر التفتيت من المستوى الطائفي إلى المستوى المذهبي، وهدّدت تماسك القوى التوحيدية، وألقت بظلالٍ من الريبة على مشروع لبنان الجديد الذي يأمل به جيل الحرب الأهلية. وما يدفع إلى التشاؤم هو أنّ رئيس الحكومة المستقيلة قد خرج من شباك الطائفية، بعد أن كان الوحيد الذي دخل الحكم من بوابة الوطن. وباستقالته يكون قد وضع حداً لموجة التفاؤل الهائلة التي استمر يبشر بها طيلة عام كامل، رغم أنّ حكومته انطلقت في مسيرتها وهي تشكو من التخلُّع ومن فقدان النصاب، واستمرت على هذه الحال إلى أن نعاها برسالة تنطق بضمير “القوم والعشيرة” بعد أن بشَّر بها ببيان الشعب وبلسان الأُمّة.

والآن، ماذا ينتظر لبنان من مفاجآت؟

السبب الفعلي لما حدث هو غياب المواجهة الجدية لمشروع القوات اللبنانية، وهو غياب ذو وجه سياسي بسبب عدم الاتفاق على برنامج واضح الافاق، وذو وجه تنظيمي بسبب عدم الاتفاق على أُطر قيادية واحدة. وإذا لم تندرج أحداث بيروت الأخيرة في سياق توحيد الموقف والبرنامج والقيادة فإنّها تكون قد حملت معها المخاطر فحسب.