19 أبريل، 2024

منـذ هزيمـة النازيـة

أربعون عاماً من التحضير لحرب ممنوعة

        أربعون عاماً مضت وما تزال البشرية ملاحقة بكابوس النازية، رغم أنّ الأجيال الجديدة في أوروبا خاصة وعلى الكرة الأرضية بوجه عام لا تعيش بشكل ملموس مخاطر النازية ومجازرها، لكنّها تشاهد نسخاً  “مزوَّرة” أحياناً من الإرهاب النازي.

        أمّا القول بأنّ الإرهاب المعاصر هو “تحريف” النازية فلأنّ ضحايا الإرهاب وأشكاله لم تصل في نوعها وفي عددها وفي جذريتها إلى ما كانت قد وصلت إليه على يد هتلر. وما تزال معظم دول أوروبا تحفظ منذ عقود أربعة بعض شواهد على “حضارة” دمّرت البشرية، وما تزال أهم النصب تواجهك عند زيارتك لبلدان أوروبا الشرقية، وهي تجسّد الكفاح ضد هتلر ومشروعه الدموي. كما أنّ الأفران التي استخدمها النازيون لتذويب البشر، والمعتقلات التي تحتوي على أحدث أساليب التعذيب ما تزال هي أيضاً حاضرة بما تبقّى منها، إضافة إلى الوثائق المصوَّرة والمقطوعات الفنية في الرسم والسينما وغير ذلك من أشكال الإبداع البشري في تصوير جرائم النازية، وغير ذلك ممّا بقي حتى أيامنا.

        بيد أنّ مسألتين ما تزالان ماثلتين أمام البشرية وهما من أكثر النقاط سخونة وأهمية:

        الأولى هي أنّ النازية كحركة سياسية يمينية متطرفة ما تزال مخاطرها دون المستوى المطلوب من الوضوح في عالمنا العربي، لا سيما وأنّ الصهيونية تشوّه عمداً تاريخ النازية وتستخدمه إعلامياً في سبيل خدمة مصالحها دون مصالح شعوب الكرة الأرضية. وقد غدت النازية، كما تصوّرها أجهزة الإعلام الغربي الموجّه صهيونياً، بمثابة خطر هدَّد وما يزال يهدّد الحركة اليهودية فحسب، أو كأن هتلر استهدف في الحرب العالمية الثانية الجاليات اليهودية الموزّعة على دول أوروبا وغيرها وراح يغزو بجيوشه كافة بلدان العالم لتجميع اليهود والنّيل منهم. ولسنا نبالغ في هذا الاستنتاج، لأنّ وسائل الإعلام إيّاها تقدّم عن النازية صورة قاطعة في وضوحها حول هذا الأمر، فتحاول أن تقول للأجيال الجديدة أنّ الضحية الوحيدة لتلك الحرب العظمى كان اليهود. وفي هذا السياق يندرج العمل السينمائي الضخم “شواة” وهو من إنتاج لانزمان، وهو فيلم يستمر عرضه تسع ساعات ونصف، وينطق بالعبرية وبلغات العالم الحيّة وقد دام إنتاجه عشرة أعوام.

        أجل إنّ الصهيونية العالمية اليوم تحاول الاستئثار بنتائج الحرب العالمية الثانية لجهة التحريض ضد النازية، واستدرار العطف على يهود العالم، والمطالبة بالتعويض عليهم بسبب ما “تحمّلوه” وما دفعوه ثمناً لجرائم هتلر. وليس أسهل، بالنسبة إليهم، من أن يختزل تاريخ البشرية إلى مثل هذه التفاصيل؛ غير أنّ أحداً لا ينكر أن يكون هتلر قد جعل اليهود من ضحاياه، لكنّهم كانوا من الضحايا “التفصيلية”.

        الخطير في الأمر هو أنّ التباكي على ضحايا الصهاينة ليس إلاّ نوعاً من التكاذب ذلك أنّ من المعروف عن مفاهيم بيغن أنّه تعاون تعاوناً وثيقاً مع النازية ضد الإنكليز اعتقاداً منه أنّ بريطانيا كانت تلعب، خلال فترة الانتداب، دوراً معيقاً لعملية الاستيطان اليهودية في فلسطين وقد وضعت مؤلّفات ونشرت وثائق بالعبرية تدين مناحيم بيغن، لا سيما بعد أن “انفتحت” وسائل الإعلام الإسرائيلي على التهجُّم على صاحب “الصفقة اللبنانية” الخاسرة.

        بالإضافة إلى التكاذب، ما يزال الصهاينة “يحشرون” بعض المسؤولين الأوروبيين عامة، والألمان الغربيين خاصة، في عملية تأنيب ضمير دائمة متهمة إيّاهم بتحمُّل بعض المسؤولية بسبب انتمائهم إلى الجنس البشري أو العرق الذي نبت منه هتلر! ولهذا لم يتجرّأ أي مسؤول ألماني، خلال العقود الأربعة التي أعقبت الحرب، على القيام بزيارة إسرائيل بسبب تأنيب الضمير، ويوم صرَّح هلموت كول في القدس، خلال الزيارة الألمانية اليتيمة هذا العام، بأنّ بلاده هي التي تحد سياستها الخارجية، وبأنّه يرفض أن يملي عليه أحد موقفاً، اعتبر الإسرائيليون ذلك تصرفاً وقحاً. وفي فرنسا عندما يحتفل الشعب بالنصر على النازية تخصص لليهود الفرنسيين حصة الأسد في إطار استحضار البطولات التي جسّدتها مقاومة الشعب الفرنسي ضد النازية وتكاد تحصر المقاومة أحياناً باليهود، كما تكاد تحصر التضحيات الفرنسية أيضاً بما قدّمه اليهود من خسائر بشرية ومادية.

        هذا الأمر يحتاج إلى أموال طائلة وتبذل في سبيل تكريسه ملايين الدولارات وتخصَّص من أجله آلاف الكادرات بل خيرة الكادرات الإعلامية والفنية. وهذا ما يجعل المهمات الملقاة على عاتق العرب جسيمة جداً لسببين:

        أمّا السبب الأول فهو انّ العرب قد تحمّلوا من نتائج النازية، ونالوا حصّتهم من هذا الخطر الكبير الذي هدّد مستقبل البشرية، وأنّ عليهم أن يبذلوا في المقابل حصّتهم من جهود الإنسانية في مقاومة الخطر النازي وأن يحتفلوا كغيرهم من الشعوب في ذكرى النصر على الفاشية، الأمر الذي يمنع الصهاينة من الاستئثار بحصة الأسد من تاريخ هذه الحقبة الغنية من القرن العشرين.

        أمّا السبب الثاني فهو أنّ الصهيونية هي النسخة الأكثر أمانة للنص النازي الأصلي، وهي الحركة التي هدّدت بالخطر مصير الشعب الفلسطيني وشرّدته وارتكبت بحقّه أبشع أنواع المجازر وهدّدت أو قتلت مئات الآلاف من الشعب اللبناني خلال اجتياحاتها المتعددة، وهدّدت كافة الدول والشعوب العربية لأنّها قامت وكان في رأس استهدافاتها “إقامة جسر بشري يفصل بين عرب شمالي أفريقيا وعرب آسيا، ويمنع إمكانية توحيد هذه الشعوب التي يجمعها رابط الدين واللغة والتاريخ…”.

        وإذا كانت المسألة الأولى تتعلّق بدور الصهاينة وبضرورة الرد عليها وفضح تراث النازية فيها، فإنّ المسألة ألأخرى التي تساويها أهمية هي أنّ مخاطر تجدُّد النازية ما تزال ماثلة أمام الأنظار في كافة المشاريع والأطر التي تسترشد بالنازية وسيلة لحل مشاكل البشرية. الأمر، ببساطة، هو أنّ النازية قامت بعد الحرب الأولى كمحاولة للخروج من أزمات مستعصية واجهت مجتمعات القرن العشرين وقد أثبتت تجربة هتلر وموسوليني أنّ هذا السبيل قد كلّف البشرية أكثر من خمسين مليون شهيد إضافة إلى تدمير الاقتصاد والخسائر المادية التي أرهقت البشرية بعد الحرب.

        وقد آن الأوان لكي تواجه الأشكال الجديدة للنازية، ومن بينها النموذج الصهيوني، والنموذج العنصري، والنموذج الكتائبي اللبناني، وكل نموذج سياسي يقوم على الإرهاب والقمع وارتكاب المجازر وتوسيع السجون وابتكار أساليب التعذيب، كما هي الحال في تايلاند أو تشيلي وغيرها من المجتمعات التي تفتقر إلى متطلبات الحد الأدنى من الديمقراطية.

        كما أنّ البشرية هي أكثر ما تكون حاجة إلى جهود تبذل لمنع تفاقم سباق التسلُّح والضغط من أجل الحد من استخدام الأسلحة النووية وتطويرها، ومن المضي في مشاريع التحضير لحرب عالمية جديدة.

        حاول هتلر أن يعالج آثار الحرب الأولى ففجّر الثانية، وكانت أكثر هولاً. ويحاول ريغان أن يكون الفوهرر الجديد. لكن الحرب الثالثة ما تزال ممنوعة “رسمياً”. والطموح هو أن تصبح ممنوعة شرعياً.