29 مارس، 2024

واشنطن عضو مضارب في السوق الأوروبية

        عندما تقدّمت كل من اليونان وإسباني والبرتغال بطلبات انضمام إلى عضوية السوق الأوروبية المشتركة، جوبهت الطلبات برفض إجماعي، وكانت الحجّة في ذلك أنّ هذه البلدان الثلاثة تنتمي إلى عصر آخر، إلى عصر ما قبل الثورة الفرنسية، أو على الأقل، أنّ الأنظمة السياسية فيها ما تزال متخلّفة عن الديمقراطيات الغربية، وأنّها ما توال تتمسك بتقاليد دكتاتورية تجاوزتها معظم بلدان أوروبا.

        بدا أنّ المقياس الأساسي إذن هو توفُّر الحد الأدنى من المواصفات العصرية، على مستوى الحريات السياسية، لكي تحوز هذه البلدان على جواز مرورها. بيد أنّ ظروف تشكيل المجموعة الأوروبية كانت تشير إلى أمرٍ آخر. فلقد قامت المجموعة، باقتراح فرنسي واستجابة ألمانية. أمّا فرنسا فقد كانت ترغب في تحقيق حد من الاستقلالية عن الموقف الأميركي يتيح لها تأمين التغطية على انسحابها جزئياً من حلف الأطلسي، وبالتحدي، على إعفاء نفسها من بعض الالتزامات العسكرية، لا سيما تلك التي تُجيز للولايات المتحدة نشر قوات وقواعد لها أو للحلف على الأراضي الفرنسية.

        كما كان للجانب الاقتصادي دوره، وبمبادرة من فرنسا أيضاً، ذلك أنّها اعتبرت مهمة تمتين اقتصادها بمثابة حصانة لها ضد الموقف الأميركي المتوقع حيال خطوة فرنسا. إذن كان لقيام المجموعة أساس سياسي، هو تعبير عن موقف اعتراضي من الرئيس شارل ديغول على الهيمنة الأميركية، وأساس اقتصادي، هو، في الحقيقة، سند الموقف السياسي.

        كما كان ذلك محاولة من الأوروبيين، في إعادة أمجاد أوروبا، وفي استعادة الدور القيادي الذي بدأت تفقده، تباعاً، لحساب تنامي الدور الأميركي. إذن من أين أتى المقياس الثالث؟ وهل هو تعبير عن حقيقة الموقف الأوروبي من الديمقراطية أم أنّ الأمر مجرّد مناورة؟

        لا شك أنّ التقاليد الفرنسية بشكلٍ خاص والأوروبية عموماً تؤكّد احترام هذه القيمة الإنسانية التي كان للثورة الفرنسية فضل في تعميمها. ولا شك أنّ مسألة الحريات السياسية والفردية تعتبر، لا سيما من وجهة النظر الفرنسية، مقياساً تعامل فرنسا على أساسه حلفاءها وأعداءها، مع التأكيد طبعاً على أنّه ليس مقياساً وحيداً. ولا شك أيضاً أنّ وراء المماطلة الأوروبية التي طالت عشر سنوات أسباباً أخرى اقتصادية وعسكرية.

عودة إلى أوروبا عودة إلى الديمقراطية

        بعد تحوُّل الدكتاتوريات في اليونان وإسبانيا والبرتغال إلى ديمقراطيات على النمط الأوروبي، ظهرت الأسباب الأخرى، وغدت دول المجموعة محرجة أمام نفسها وأمام الدول التي ما تزال خارج الأُطر الأوروبية، وبناءً على ذلك، افتتح الأوروبيون صفحة جديدة من النقاش تناولت، هذه المرّة، الأمور الحسّاسة في العلاقات بين دول المجموعة. نذكر من هذه الأمور: الأسطول البحري الإسباني، إنتاج العنب الإسباني، القطاع الزراعي في كل من إسبانيا والبرتغال. وتأخذ هذه الأمور بُعدها الحقيقي في اعتراضات اليونان، وهي حديثة العهد بالديمقراطية، على إسبانيا والبرتغال، والثلاثة في أوضاع متشابهة جداً على مستوى النظام السياسي والعلاقة العسكرية مع دول حلف الأطلسي.

        لقد عادت إسبانيا والبرتغال إلى أوروبا بعد غياب. إنّها عادت إلى الديمقراطية بعد عهود طويلة من الدكتاتورية. وشعر جوليو أندريوتي وزير الخارجية الإيطالي “بفرح عظيم كونهم توصلوا إلى اتفاق، ووضعوا أُسس ترسيخ المجموعة الأوروبية”.

        قبلت عضوية إسبانيا والبرتغال شرط خضوعهما لفترة انتقالية تمتد سبع سنوات لكي يتكيّف الاقتصاد في كل من البلدين تدريجياً، مع اقتصاد المجموعة. ولم يذكر في الحيثيات، شرط ترسيخ الديمقراطية. وقد كانت فرنسا راغبة فعلياً في تعليق المفاوضات لأنّها الدولة الأكثر تضرُّراً، حسب اعتقادها، من توسيع السوق الأوروبية المشتركة.

الديمقراطية والأسطول الإسباني

        أول المسائل التي تمَّ الاتفاق عليها، تحديد دور الأسطول الإسباني وحجمه. ويقضي الاتفاق بالسماح لإسبانبا بتشغيل أسطول قوامه 300 مركب، ويسمح لها أيضاً بتجديده، وباستخدام نصف عدد المراكب للقتال، على أن يبقى النصف الآخر في الاحتياط.

        القضية الثانية هي زراعة الكرمة. وقد رغبت فرنسا في تخفيف وطأة عضوية إسبانيا بسبب المضاربة بين الإنتاج الزراعي في كل من البلدين لا سيما إنتاج العنب ومشتقاته. وقد فرض الاتفاق على إسبانيا تخفيض إنتاجها من العنب خلال السنوات الست القادمة لكي “يعتاد المزارعون الإسبانيون على القوانين المرعية في المجموعة الأوروبية”.

        إنّ قدرة الزراعة الإسبانية محصورة في بعض القطاعات ولذلك يخشى الإسبانيون، من جانبهم، من انفتاح حدود بلادهم، تجارياً، على دول السوق، في مجال تربية الدواجن، وزراعة الحبوب، وإنتاج الحليب ومشتقاته. لكن هذه القيود ستلغى حالما تنضم إسبانيا، بشكلٍ كامل، أي بعد الفترة الانتقالية.

        هل أصبح ممكناً الانتقال من أوروبا الاقتصادية إلى أوروبا السياسية؟ إنّه السؤال الذي شغل الأوساط النافذة وما يزال. وهو على كل حال سؤال صعب؛ وتظهر صعوبته من خلال المحاولات الفاشلة، حتى الآن، في مجالات أقل خطورة، في الظاهر، من قضية الوحدة الأوروبية. فالوحدة تعني توحيد العملة، الأمر الذي يعتبر تحدياً للدولار، وعاملاً من شأنه خلخلة مواقع المارك الذي يفرض هيبته أوروبياً. كما تعني الوحدة مركزة القرار السياسي، وهو ما ليس بمقدور أعضاء المجموعة، رغم أنّهم تمكّنوا من تحقيق خطوات في هذا المضمار. لكن ذلك لا يتجاوز الخطوط الحمراء الأميركية.

        بعض ردّات الفعل الإسبانية البرتغالية اعتبرت الأمر انتصاراً تاريخياً. ونظرت إليه كإنجاز بالغ الأهمية لأنّه سينقل البلدين إلى عصر التكنولوجيا وسيدخلهما في مرحلة التحديث. ولا ندري ما إذا كانت شروط التحديث تفرض زيادة الضرائب الإسبانية مثلاً بقيمة 12% بشكلٍ عام، وبقيمة 6% على المواد الأساسية الضرورية، كالأغذية والأدوية، وبنسبة 33% على الكماليات، كالسيارات والسياحة والمجوهرات.

        لا شك أنّ هذا الأمر لا يناقش بمعزل عن دور إسبانيا والبرتغال في حلف شمالي الأطلسي، وعن الدور الأميركي المباشر، سياسياً واقتصادياً، في أوروبا الغربية، وهو الدور الذي يدفع السجال حول علاقات التوتر بين الشرق والغرب إلى مستوى جديد من الحدّة. وقد تكون إسبانيا بحاجة إلى دعم أميركي تستقوي به على جاراتها، من هنا يبرز الاستنتاج المنطقي باحتمال تقديمها تنازلات داخل الحلف من أجل حصولها على مكاسب داخل المجموعة.

        التنافس بين عضوية حلف الأطلسي وعضوية السوق الأوروبية هو النتاج الطبيعي لوضع بلدان أوروبا، جغرافياً وسياسياً، بين قطبي الصراع العالمي، وهو التعبير عن ارتباك أوروبا الغربية باعتبارها متحالفة مع واشنطن وملزمة بأن تدفع، ربما وحدها، ثمن مواجهة قد تحصل على أراضيها.

        إنّه عنصر جديد يُضاف إذن إلى مقاييس العضوية في مجموعة السوق. لكنّه عنصر غير معلن. وبناءً على ذلك هل يسمح بأن تبقى واشنطن مفاوضاً سرياً في شؤون السوق؟