23 أبريل، 2024

اغتيال الدولة

12-3-2012

حبيبتي الدولة

حين أصدرت الكتاب الذي يحمل هذا الإسم ” اغتيال الدولة ” أخذ بعض الأصدقاء على العنوان مبالغته ، إذ افترضوا أن الكلام عن اغتيالها ليس في محله لأنها لم تكن موجودة أصلا  في لبنان لتتعرض للاغتيال.

الحقيقة أن الدولة قامت مع قيام وطن حديث أطلق عليه إسم لبنان. قبل ذلك لم يكن ثمة وطن بل ولايات تابعة للسلطان مباشرة أو بالواسطة، وبالتالي كانت توجد صيغ أخرى للدولة ، تعرف بأسماء شتى ، من بينها إسم الدولة السلطانية .

دولة الاستقلال الحديثة نسخة منقحة من دولة الدستور والقانون الوضعي . قبلها لم يكن ثمة دستور ولا قوانين. الدستور العثماني الذي بدأت نسخته الأولى عام 1837، والثانية عام 1856، والثالثة في ثمانينات ذلك القرن ، علقه السلطان قبل تطبيقه ، وانتهى بانتهاء السلطنة.

   الدولة الحديثة والدستور قرينان ، حيث يوجد توجد. محاولات كثيرة لاغتيال الدولة حصلت منذ البداية ، في كل مرة كانت تحاك مؤامرة على الدستور ، أو في كل مرة كانت تنتهك فيها القوانين. لذلك لم تكن تلك سوى محاولات فاشلة، لكن تراكمها الكمي أدى إلى لحظات تحول نوعي، فانهارت قيم الدولة ، وأرجعت السياسة إلى عهد الشبيحة والبلطجية والحكم الوراثي والدوس على القانون.

لحظة التحول النوعي الأولى حصلت على يد القوى التقليدية التي عملت على التملص من سيادة القانون ، فكانت تخطئ أحيانا وتصيب أخرى ، لكنها رسخت نظام المحاصصة ، وهو تقليد خطير في تاريخ الدساتير ، لأنه وزع سيادة الدولة على سيادات الطوائف و مراكز النفوذ العسكري والسياسي والديني ، وذلك باسم القضايا القومية الكبرى واستدراج الخارج والاستقواء به ، فصار لكل منطقة قانونها ولكل طائفة قانونها . كان ذلك على حساب القانون العام والدستور.

اللحظة الثانية حصلت على يد الأصوليات  “التقدمية  والقومية والدينية ” التي رفعت شعارات أخرى منافية لدولة القانون ، مثل ، الإسلام هو الحل ، الاشتراكية هي الحل ، الوحدة العربية هي الحل . بعض هذه الأصوليات ندم على أفكاره وأفعاله ، وبعضها لا يزال ممعنا في غيه من غير رادع  ولا وازع ، ويتباهى بممارسة كل صنوف الاستبداد على شعبه وعلى مناصريه.

اللحظة الثالثة، وهي الأخطر، هي تلك التي يحكم فيها ، باسم القانون، شبيحة وبلطجية وجهلة، جهلة في أمور القانون على نحو خاص. تذكروا مثلا أن المجلس النيابي اللبناني يتعاقد مع مشرعين من أهل القانون عند الحاجة … فما هي الحاجة إذن لمن انتخبهم الشعب ممثلين للأمة في هذا المجلس؟؟؟

من أعراض هذا اللحظة الثالثة أنه يطلع علينا في كل يوم مسؤولون ينتهكون القوانين وآداب التعامل ، من قانون السير والقانون الضريبي ، حتى القوانين الاجتماعية والأخلاقية ، إلى آداب المناظرة والمناقشة والحوار، تشجعهم على ذلك منابر منتشرة كالفطر في فضائنا الإعلامي ، في الإذاعات والتلفزيونات والمواقع الالكترونية ، الخ. الخطير في ذلك أنهم يحاولون أن يعمموا سلوكهم هذا ويجعلوه بمثابة القدوة ، ويعملون على إدخاله في صلب عاداتنا وتقاليدنا الاجتماعية والسياسية .

سأكتب في هذه الزاوية دفاعا عن الدولة ، حتى لا تنجح محاولات اغتيالها . وأنا على ثقة بأن الحريصين عليها ، على دولة القانون والمؤسسات والكفاءة وتكافؤ الفرص ، دولة الحرية والديمقراطية ، هم الأكثر عددا والأرقى قيمة ، وهم الذين سينتصرون للدولة في وجه أولئك الذين استولوا على مقاليد السياسة وشوهوا تقاليدها وأنزلوا الحكام وممثلي الشعب من مرتبة رجال الدولة الكبار إلى مستوى رجال سياسة صغار.