5 نوفمبر، 2024

سلطة البابا والمعارضة

        تحت عنوان “كيف تتمكّن من قتل البابا” نشرت إحدى المجلات الهولندية “دريفت”، وهي مجلّة موجَّهة إلى الشبيبة، مقالاً افتتاحياً تستقبل فيه البابا يوحنّا بولس الثاني إلى البلاد المنخفضة، هولندا، اللوكسمبورغ، بلجيكا. واستعرضت الصحيفة في مقالها احتمالات عدّة للتعرض إلى حياة صاحب الغبطة، وتمنّت “حظاً سعيداً للذي سيتمكّن من إسقاط هذا الرمز”، ومن إلغاء هذا “الطاغية الضاحك”.

        جاء ذلك في سياق علاقات يسودها التوتر الدائم بين الكنيسة الكاثوليكية في تلك البلاد وبين الفاتيكان، وقد اشتدت التناقضات في عهد البابا الحالي بسبب رسوخ مفاهيم تستلهم قيم الديمقراطية الليبرالية في هذه البلاد في وقت تشتد فيه هجمة الفاتيكان على ميدان السياسة من باب الدفاع عن الظالمين ضد المظلومين، ومن باب مناصرة الطغاة في أميركا اللاتينية مثلاً ضد أشكال التذمر الشعبي المختلفة الأشكال، ومن باب تقديم الدعم لسياسة ريغان العدوانية ضد بلدان تلك القارة.

        تعبيراً عن ارتباط الكنيسة في البلاد المنخفضة بالحد الأدنى من الأُسس الليبرالية يقول الأب زويدبورغ، راعي الأبرشية الكاثوليكية: “إنّ كنيستنا هي مكان للعبادة للمسيحيين وللمسلمين وللبروتستانت”. ويضيف رجل الدين المتنوّر هذا: “إنّ واجبنا الأول هو الدفاع عن الناس وحمايتهم من إرهاب أيّة سلطة، بما في ذلك سلطة الكنيسة”.

        ولقد بات من الواضح أنّ استهدافات البابا يوحنّا بولس الثاني تركّز على حالات معيّنة غدا فيها “الاجتهاد” سيّد التفكير والنهج المجدد، وبات من الواضح أيضاً أنّه كلّما قصد بلداً فلكي يحاول إعادة كنيسته إلى “جادة الصواب” المسيحي، بمفهوم الخضوع والإذعان، لا بمفهوم الحرية، ولم يتورع عن استخدام التسامح، وهو قيمة دينية دعت إليها كافة الرسالات السماوية، في مصلحة “السلطة” وطالب الرعية بأن تتسامح مع البطش والإرهاب “خدمةً للسلام وتفادياً للحروب”.

        على أساس هذا المقياس اعتبر البابا أنّ الكنيسة في البلاد المنخفضة هي بمثابة “الولد المرعب” ويقصد الولد العاق، ولم يتأخر أنصارها عن الإعلان عن تذمرهم وامتعاضهم من شكو البابا ضدهم فتظاهر عشرة آلاف منهم قبل ثلاثة أيام من وصول سيّد الفاتيكان، وقد قصدوا من وراء ذلك أن يبرزوا “وجهاً آخر للكنيسة”، وهذا ما دفع البابا إلى إطلاق تصريح متلفز للالتفاف عن مظاهرات الاعتراض على سياسته فقال: “نعم، إنّني أعرف أنّ كنيستكم تشهد نسبة عالية من التوتر”. وأضاف: “قد نجد صعوبة في فهم وتفسير بعض القرارات، ومع ذلك فها إنني ذاهب إليكم كأخ أو كصديق”.

البابا يقبّل أرض المطار

        كعادته بدأ البابا بتقبيل الأرض عند نزوله من الطائرة. ثم يبادر إلى إفهام الناس أنّه صاحب قدرة على تفهُّم خصوصيات بلدهم وعلى التكيُّف مع أنماط حياتهم فيأكل كما يأكلون ويتقصّد أن “يأكل البطاطا بيده” حسب تعبير القاص الرسولي في لاهاي. لكن سرعان ما يجد نفسه أمام وضع صعب وفي مواجهة شعب يستعصي على مفاهيم البابا.

        لم يكن دور البرنامج التلفزيوني الذي استعرض ابتكارات البابا في التكيُّف واحترام عادات الشعب كافياً، فبدا أنّ في البث جانباً ساخراً، وظهر كم أنّ الشعب متعلّق بحرية التعبير وبالديمقراطية. بيد أنّ اللمحة الساخرة هي، في نظر المونسنيور إدوار كاسيدي، موجّهة ضد هذه المزايا والخصال لدى الشعب أكثر ممّا هي موجّهة ضد سلوك البابا.

        يعبّر المونسنيور كاسيدي، الأوسترالي الأصل، عن الأسباب الفعلية التي تقف وراء خلاف كنيسة البلاد المنخفضة مع روما فيعزو ذلك إلى الروح الليبرالية وإلى الحساسية ضد كل نمط سلطوي، وهي حساسية ناشئة من تطور هذه الكنيسة تاريخياً ومن انتقالها، خلال قرن من الزمان، إلى جزء أساسي ومنصهر داخل البلاد بعد أن كانت فيما مضى أقليّة مضطهدة.

        وقد زاد ارتباط الجالية الكاثوليكية التي تشكّل نسبة 40% من سكان البلاد بانتمائها الوطني بعد الحرب الثانية وغدا موقفها حيال “كل غزو” مسألة مبدئية ولا يربكها القول أحياناً أنّ رغبات الفاتيكان في الإشراف التفصيلي على سلوك الكنيسة هو بمثابة غزو ديني من شأنه أن يعكّر علاقات المسيحيين الكاثوليك بالمذاهب الأخرى لا سيما البروتستانتية.

ابتكارات علمانية للكنيسة

        أول إنجازات الكنيسة في البلاد المنخفضة أنّها أشركت التيارات العلمانية في نقاش بعض المفاهيم والأُسس التي بقيت محرَّمة على النقاش طيلة قرون، وتوصلت إلى إلغاء قانون العزوبية المفروض على رجال الدين، وقد حمل هذا القرار إلى الفاتيكان الكاردينال الفرنك، وكان في حينه راعي أبرشية أوترخت، ودافع عنه أمام البابا.

        وصلت ابتكارات الكنيسة إلى حد القول أنّ شخصاً علمانياً موهوباً بإمكانه أن يقود الصلاة وأن يوجّه القداس، وقد أصدر مثل هذه “الفتوى” اللاهوتي إدوار شيلليبيك الذي استمر يدرس في الجامعة الكاثوليكية في نيميك وهو في سن الحادية والسبعين. لكن بعض أفكاره كانت تعد بدعة وتوضع في خانة “الزندقة”.

        يقول هذا اللاهوتي اللامع أنّ زيارة البابا تعبير عن أزمة علاقة الفاتيكان بالكنيسة، وأنّ هذه الأزمة ناتجة عن “افتقارنا للوحدة التي أرسى أُسسها الكاردينال الفرنك ثم حطمتها الفاتيكان، وقد بدأ سوء التفاهم منذ أن دعا البابا إلى اجتماع كنسي خاص عُقد في روما عام 1980 بهدف معالجة المشكلة الهولندية. وبذلك اتسعت الهوّة بين الكنيسة والكرسي البابوي، وهذا ما يهدّد، حسب رأيه، بوقوع الكنيسة في المأزق. إنّه مأزق “وجود كهنة بدون رعايا”.

السياسـة واللاهـوت

        مهمة البابا هذه المرّة مهمة لاهوتية، بينما كانت في زياراته السابقة ذات طبيعة سياسية واضحة. ولكنها في الحالتين تهدف إلى “إعادة المتمردين إلى بيت الطاعة” ولا يهم إذا كان بيت الطاعة السياسي الخضوع لسلطة الحاكم وبيت الطاعة الديني لسلطة روما. بيد أنّ المفارقة في الحالتين هو أنّ صاحب القداسة يلعب دوراً مستَلهَماً من القرون الوسطى، متجاوزاً في ذلك مرحلة قرنين من الزمن وضعت فيها المجتمعات الأوروبية، منذ أيام نابليون، حداً لتدخُّل الكنيسة في شؤون السياسة.

        حين يتوصل شعب في القرن العشرين إلى التجرؤ على المطالبة ” بقتل البابا” في صحيفة يومية، ذلك يعني أنّ شيئاً مخيفاً يطل من الماضي حاملاً معه رعب كنيسة القرون الوسطى. غير أنّ هذه الحالة ليست معزولة، ففي الثمانينات من هذا القرن تشهد البشرية حالات عديدة تستلهم فيها الأفكار الظلامية التي سادت منذ زمن. ولا سبيل إلى معالجة مثل هذه المخاطر إلاّ بالديمقراطية التي تتيح لحضارة القرن العشرين أن تحمي نفسها بمثل ما تتيح لقِيَم الأديان السماوية من أن تدافع عن معانيها السامية ضد محاولات التشويه والتحريف.