12 أكتوبر، 2024

سوار الذهب تبنّى الانتفاضة

أم أنّه يحاول احتواءها؟

        خلال هذا الشهر من عامة السودان تمكّن سوار الذهب من تهديم ما بناه النميري خلال ما يقارب العقدين من الزمن. فقد حلَّ كافة المؤسّسات الدستورية والأمنية خاصة، واستبدل المساجين الذين ينتمون إلى المعارضة في عهد النميري بمساجين من الموالين، فأدخل ثلاثة آلاف من الضاط والعسكريين الذين لعبوا في السابق دور السجّان والجلاد، ودخل في حوار إيجابي مع المعارضة، وفتح صفحة جديدة في علاقاته الخارجية، لا سيما مع جيرانه الذين كان النميري يناكدهم، وعلى الأخص ليبيا وأثيوبيا الخ.

        بعد أن نجح سوار الذهب في أن يواكب، في السر، حركة الانتفاضة، ونجح في الوصول معها في نفس اللحظة إلى نقطة النهاية، يجد نفسه اليوم أمام مهمات أشد تعقيداً. فالإطاحة بنظام النميري كانت سهلة جداً بعد أن دوّخته المظاهرات والإضرابات وأشكال العصيان، وبعد أن استعصى عليه القبض على أسباب المجاعة، بينما كان قبض المال عنده متعة. كان سهلاً على أبو الذهب أن يمنع المسافر من العودة، وهو العسكري الذي يعرف جيداً أنّ الدفاع عن موقع يسيطر عليه أسهل بكثير من احتلاله، ولذلك اختار أبو الذهب لحظة غياب النميري فأجهز عليه.

        بيد أنّ أبو الذهب يعرف جيداً أنّه التحق بالانتفاضة في اللحظة الأخيرة، وهي اللحظة المناسبة، وأنّ الامتعاض الشعبي الذي تراكم خلال سنوات طويلة كان سيودي بنظام النميري إنْ لم يودِ بحياته، لا سيما وأنّها ليست المرّة الأولى التي يخلع فيها السودانيون حاكمهم بواسطة الضغط الشعبي والمظاهرات. ومن الطبيعي والضروري أيضاً أن يأخذ هذا الأمر في الحسبان كي لا تطيح به المظاهرات اللاحقة.

        أشياء كثيرة تغيّرت في الخرطوم. القاعات والأندية، مثلها مثل السجون، استبدلت زائريها وروّادها. ولأول مرّة منذ سنوات يجتمع فيها أشخاص كانوا في المنفى أو في السجون أو في ما يشبه الإقامة الجبرية، أو في جو من العمل السري الشديد الظلمة والخفاء.

        ولأول مرّة منذ سنوات تعقد الاجتماعات الشعبية الواسعة التي تضم حسب تقديرات الصحافة الغربية بضعة آلاف من السودانيين وتصل أحياناً إلى العشرين ألفاً.

        ولأول مرّة منذ سنوات يجتمع ممثّلوا الأحزاب السياسية في العلن في إطار تحالفي، فيقرّرون مصير بلادهم مع حاكم البلاد، بل يفرضون عليه إشراكهم في القرار، والمشاورات بشأن تشكيل الحكومة أمر ذو دلالة، والأبلغ منه اختيار رئيس إحدى النقابات رئيساً للحكومة.

        على الجبهة الخارجية سارع أبو الذهب إلى تطمين جارته مصر بتصريحات إيجابية عن العلاقات التاريخية بين البلدين وعن احترام المواثيق، وإلى تطمين المملكة العربية السعودية برسالة حملها أحد مبعوثيه، وليبيا التي يزورها وفد عسكري، وأثيوبيا التي رحّبت بالرغبة في فك الاشتباك الصامت.

        لا شك أنّ ذلك، وكثيراً غيره، من الإنجازات الهامة. لكن الأهم هو استكمال الإنجاز وإلاّ تعرّض للتراجع فالانهيار وأخيراً للإطاحة. وسوار الذهب يعرف بفضل عمله العسكري أنّ خسارة الموقع تعني هزيمة المدافعين عنهم، بينما يبقى المهاجمون، وإنْ فشلوا؛ يحتفظون باحتمال معاودة الهجوم. وها قد أصبح، بعد وصوله إلى السلطة، في موقع المدافع عن حصنه، وبذلك غدت مهماته، من حيث المبدأ أكثر صعوبة.

        هذا من حيث المبدأ، أمّا التفاصيل فهي التي تنطوي على المخاطر الفعلية. أيّة إيديولوجية سيعتمد سوار الذهب. الشريعة الإسلامية، الأنظمة الليبرالية، نظام الحزب الواحد، المبادئ الإصلاحية؟! فهو يعرف جيداً أنّ مقدرة النميري على التقلُّب والتنقُّل بين الإيديولوجيات كانت سبباً كافياً لكي تنقلب الدوائر عليه وتدور. فقد بدأ النميري ثورياً صديقاً للماركسيين وانتهى وهو يطبق شكليات الشريعة الإسلامية كإقدامه على هتك أستار المحلاّت التجارية لتجميع ما فيها من الخمر وتكسيرها في طقوس احتفالية أعطاها الطابع الوطني والقومي، واستخدم فيها الدبابات الكسولة التي لا عمل لها على مستوى الدفاع عن حدود الوطن، لا على مستوى المساهمة في القضية القومية.

        قد تكون المشكلة الداخلية الأولى هي مشكلة الجوع. ولا شك أنّ سياسة تتميّز بالحد الأدنى من الحكمة واتخطيط من شأنها أن تصل بالجائعين إلى الشبع، أو على الأقل الكفاية، لا سيما وأنّ أقل من 3% فقط من الأراضي الصالحة للزراعة هي قيد الاستثمار.

        على مستوى السلطة كان موقع الرجل الأول موضع خلاف حتى انحسم الأمر. وهذا ما يجوز قوله عن كل رجل أول في كافة مستويات السلطة السياسية بل والاقتصادية أيضاً. فقد برزت النقابات من جديد، في كثير من المؤسسات، وأقدمت على خلع المسؤولين وتعيين البدائل من جسم العاملين في المؤسّسة، وهذا ما حصل في قطاع الصحافة. فكيف سيكون موقف الرجل الأول في رأس الهرم من الرجال الأوائل في مستويات السلطة الأدنى. فإذا تعامل معهم كأمر واقع فإنّه يبقي نفسه رهينة لموافقتهم على قراراته، وإلاّ فإنّ عليه أن يتمرّد، والتمرُّد غير مضمون النتائج.

        مشكلة الجنوب قد تكون أكبر وأصعب ما يواجهه السودان عبر كافة العهود. وقد يكون المقياس الذي يحاسب على أساسه أي حاكم هو مقدار نجاحه أو عدمه في حل قضية الجنوب. ومن المعروف أنّ النميري كان قد حذا حذو السادات. فبعد أن أقدم هذا الأخير على تنصيب نفسه حاكماً دينياً على الأقباط وعلى خلع البابا شنودة من منصبه، راح النميري يقتفي خطواته ويقدم على تأديب الجنوب ذي الأغلبية المسيحية باعتماده الشريعة الإسلامية في القانون السوداني، وراح يخلع ويعيّن الحكّام الزمنيين والدينيين كما يحلو له، وبذات الطريقة التي يغيّر فيها موظّفاً أو ضابطاً في الجيش دون أي إدراك لحساسية مثل هذا الأمر الخطير.

        مهما قيل ويقال عن السودان وعن غيره من البلدان التي تعاني من ظاهرة النميري، ومهما قيل في تشخيص الحالة، تبقى المسألة الأساسية هي مقدار انخراط الحاكم والنظام في لعبة الحريات الديمقراطية والعامة. ذلك أنّ مشكلة معظم أنظمة العالم الثالث إنّما تكمن في الرغبة الملحّة عند الجميع في أن يلغي الحاكم معارضيه، بالحُسنى إذا نجح، وبالنفي، أو الاعتقال، أو الإلغاء الجسدي، “وهذا أضعف الإيمان” عند البعض، وأقواه عند البعض الآخر.

        وفي إطار الديمقراطية يطرح مصير النميري الذي ارتكب بحق شعبه الفظاعات، ليس الجوع أصعبها، وارتكب بحق القضية القومية جريمة خيانية بتسهيله عمليات نقل الفالاشا من اليهود الأثيوبيين إلى إسرائيل، وذلك على مسمع العام ومرآه، وبالثمن البخس.

        السودان اليوم أمام احتمالات الانفراج، وذلك يفترض توفر القليل من الحرية والقليل من الحكمة، والقليل من القرارات التي يمكن إيجازها باثنين: القضاء على مخلّفات حكم النميري جملة وتفصيلاً، واللجوء إلى الأُطر الديمقراطية حلاً وحيداً لمشاكل المجتمع السوداني على المستوى السياسي وعلى كافة المستويات الأخرى.