3 ديسمبر، 2024

فنــدق المنــاورة

        استؤنفت المفاوضات بشأن طابا بين مصر وإسرائيل بعد تأخير. وقد اعتبر المراقبون بمثابة إعلان عن حرص البلدين على استكمال مباحثات السلام حول أزمة المنطقة. ذلك أنّ مصر غير قادرة على لعب دور أساسي  في الشرق الأوسط على أساس كمب دايفيد إذا لم تضع حداً نهائياً لكل الالتباسات التي أحاطت وتحيط بملحقات الاتفاقية المعقودة بين البلدين، لا سيما تلك المتعلقة بمنطقة طابا، على أقل أن تكون القضية الفلسطينية هي الموضوع اللاحق.

        أما إسرائيل فليست حاجتها إلى المفاوضات أقل من حاجة مصر. فهي بدورها تريد مناقشة مشروع حول الشرق الأوسط يستحيل الولوج إليه بالقفز فوق الجوانب المستعصية من ملحقات اتفاقيات السلام المصري الإسرائيلي، أو من العلاقات القائمة على السلام وهي الأولى من نوعها، مع مصر، وهي البلد الأول في قائمة البلدان المعنية بقضية السلام والموافقة عليه أساس التصور الإسرائيلي. وبذلك يصبح من الضروري ألاّ تكون إسرائيل في نظر جاراتها وحلفائها سبباً لإثارة المخاوف عند مَنْ ترتبط معهم باتفاقات، ذلك لكي تتمكّن من الانصراف إلى مرحلة ما بعد لبنان، دون أن يكون للمشاكل السابقة أي تأثير في مجريات المباحثات اللاحقة.

الحاجة المصرية والأخرى الإسرائيلية لا تكفيان من أجل نجاح المفاوضات حول طابا، خاصة وأنّ تل أبيب تلمح إلى إمكانية المطالبة بتعويضات مالية عن شبكات البترول التي أقامتها خلال سنوات احتلالها لشبه جزيرة سيناء. ففي مثل هذا التلميح إشارة إلى ما هو أبعد من الشأن المالي، وإلاّ فقد كان على إسرائيل أن تتذكّر أنّها استثمرت آبار النفط في سيناء طيلة تلك الفترة وأحياناً بنسبة تفوق نسبة الاستثمار المصري لها.

فإلى جانب الحاجة لا بد من توفر الإمكانية. ففي مصر حيث يستمر النظام على احترامه لاتفاقيات كمب دايفيد، مع محاولة تعديل هادئة من نهج السادات في الشأنين الداخلي والخارجي، دون المساس ببعض أُسس الاتفاقيات، تبدو المشاكل على ازدياد وتفاقم، وهذا ما تتداوله أوساط مطّلعة ترى في حملة الاعتقالات الأخيرة تعبيراً عن أحد وجوه الأزمة ناهيك بأنّ النظام ما يزال يتحمّل، بالإضافة إلى أعباء سياسته الداخلية والخارجية، بعض تبعات علاقته بالسودان والتزامه، حيال جارته في وادي النيل، بتدعيم نظام النميري من خلال الوجود المباشر للجيش المصري، وليس خافياً أنّ نظام النميري يعاني من مشاكل يصعب تجاوزها أو القفز عنها بمجرد إجراءات فوقية لا تتناول جوهر القضية. من هنا ينظر المراقبون إلى عملية نقل الفلاشة من اليهود الإثيوبيين عبر السودان على أنّها، من جهة، إرضاء للنظام المصري وبالتالي للحلف الإسرائيلي الأميركي ومن جهة أخرى تعبير عن حاجة مادية مالية سدّتها تسهيلاته في نقل اليهود إلى إسرائيل.

وفي إسرائيل، ورغم مضي الحكومة في تنفيذ اتفاقيات السلام مع مصر، ما تزال الأوساط المغامرة، أو بالأحرى المتطرفة، تعترض على استكمال المفاوضات بشأن طابا وتعتبر ذلك نوعاً من التنازل عن الأرض التي وعدهم الله بها. أي نوعاً من الكفر والخروج على تعاليم التوراة! لذلك يتظاهر الإسرائيليون تعبيراً عن استنكارهم لاستباحة مقدسات العقيدة الصهيونية. وهذا ما يفسّره سلوك الصهاينة لدى خروجهم من سيناء عندما أقدموا على تهديم الأبنية التي أقاموها خلال وجودهم لكي يحرموا المصريين من الاستفادة منها. ولم يكن ذلك تصرفاً فردياً بل كان عملاً مخطَّطاً بقيادة آرييل شارون نفسه الذي ما يزال وجوده داخل الحكومة يعكس ما له من نفوذ تمتّع به لدى بعض الأوساط الشعبية اليهودية.

هل كانت القاهرة تنتظر مخرجاً لها لكي تستأنف المفاوضات، أي لكي تتابع، من خلالها، العلاقات الطبيعية التي تنص عليها اتفاقات كمب دايفيد للسلام، كما يقول بعض المراقبين؟ ربما وجدت هذا المخرج في القرار الإسرائيلي بالانسحاب من لبنان، حيث استطاعت الدولة الصهيونية أن تظهر أمام العالم الغربي، كما تقول المصادر ذات الميول الأوروبية، بصورة الطرف المعتدل الراغب، حقاً بالسلام. فهل أصبحت مصر تتعامل مع قضية المنطقة على طريقة الدول الأجنبية، الأوروبية تحديداً؟ هنا يظهر ما يفسّر التنسيق الرفيع المستوى مع فرنسا.

أما السبب الأهم فهو الدور الذي يمكن أن تلعبه مصر في استكمال عملية السلام بين العرب وإسرائيل، هذا ما ترى إسرائيل نفسها ملزمة بتأمينه تمهيداً لقيام الحلف المصري الأردني الفلسطيني بشكلٍ رسمي، وفي رأس ذلك تقديم ما هو ضروري لكي يلعب النظام المصري دوره كاملاً في هذه العملية، نعني المصادقة في كونه مثلاً يحتذى به للسلام القائم على العدل!

لا بد، والحالة هذه، من التوصل إلى أي اتفاق مهما كان مضمونه، وهذا ما يفسّر طرح اقتراح بإمكانية تشر قوات متعددة الجنسيات في تلك المنطقة كمخرج، في الحقيقة، من أزمة، لا كحلّ لها، وقد مهّدت لذلك التصريحات اللينة من قِبَل الطرفين.

لكن هذا الاتفاق أو غيره حول مشكلة طابا لن يحل لأي من الفريقين مشاكله ولن يسمح له بالولوج،، إلى مشكلة الشرق الأوسط من باب مشكلة طابا. فلا قيام الحلف العربي الجديد، ولا المباحثات حول الحكم الذاتي على الطريقة الإسرائيلية، ولا تكليف الملك حسين بالتفاوض نيابة عن منظمة التحرير الفلسطينية التي تبقى، بناءً على هذه الصيغة، الممثّل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، ولا مواجهة المشاكل الإسرائيلية الداخلية، ولا الأخرى المصرية الداخلية.. الخ. ليس كل ذلك مرهوناً بمشكلة طابا، خاصة بعد عودة مشروع ريغن ليكون الاقتراح الأميركي الوحيد، حسب المصادر الأميركية، القادرة على إيجاد حل لأزمة الشرق الأوسط مع ما في ذلك من ضغط على كل الأطراف المعنية لكي تنظّم أوضاعها بما ينسجم مع الخطة الأميركية، لا بما يتعارض معها.

ليست طابة مسألة فندق، ولا هي مساحة تُقاس بالكيلومترات المربّعة. إنّها مساحة سياسية للمناورة تستخدمها إسرائيل رأس حربة للعودة إلى المواقع المتطرفة انطلاقاً من – فندق – طابا، أو للمساومة مع العرب، على ذلك الفندق، على حساب مصالح الشعب الفلسطيني وحقّه المشروع وقضيته العادلة.

لكن الطرف الذي لا بد وأن يدخل في المفاوضات وفي المعادلات كافة على ساحة الشرق الأوسط إنّما هو لبنان، أي التجربة المرّة التي لا تزال إسرائيل متورطة فيها رغم كل ما تحاول فعله للخروج من أزمتها، ذلك أنّ خروجها سيكون خروجاً من أزمة الدخول في مأزق. هو مأزق السياسة العدوانية التي وضعت لها المقاومة الوطنية اللبنانية حداً معيناً من الممكن استكماله بالأسلوب نفسه لا بأسلوب مفاوضات طابا.