3 ديسمبر، 2024

قبرص بعد الانتخابات اليونانية

        لم يمضِ وقت طويل على ورشة النقاشات والمفاوضات التي دارت بين أثينا وأنقرة سراً، وبين دانكطاش وكبريانو عبر الأمين العام للأمم المتحدة من أجل البحث عن حل معقول ومقبول للمشكلة القبرصية. ولم يكن هؤلاء المفاوضون يعرفون جيداً أنّ قراراً بإعادة توحيد الجزيرة يقضي بتنحية الظلال التي تركها المطران مكاريوس وراءه في حكم الجزيرة، حتى ولو كانت هذه الظلال أفكاراً ونهجاً، أو ربما أنّهم علموا بذلك، فقرّر الرئيس اليوناني تقديم التنازلات لواشنطن عوضاً عن تقديمها “للشريك” القبرصي بقيادة رؤوف دانكطاش.

        الجزيرة لا تكفي لقيام دولتين، خاصة على المستوى البشري. ففي القسم الجنوبي منها حيث يسكن القبارصة اليونان، لا يتجاوز عدد السكان ستماية ألف نسمة، بينما تعد الطائفة التركية حوالى ربع هذا الرقم. ومع ذلك فها هم منقسمون ديموغرافياً منذ عشرين عاماً. إضاة إلى أنّ حالات الانقسام المشابهة قد عمّرت طويلاَ، دون أن تحوز على الصفة القانونية على المستوى الدولي. 

        من نيقوسيا، المدينة التي تتسع لعاصمتين، يمكن تلخيص الأزمة. نصفها اليوناني ينتمي إلى حضارة، ونصفها الثاني ينتمي إلى حضارة مختلفة تماماً. في الأولى عمارات شاهقة على الطراز الأوروبي ومظاهر من البحبوحة الاقتصادية، وفي الثانية بيوت صغيرة من الطين تذكّر ببيوت القرى الزراعية في الأرياف المتخلّفة. والحقيقة أنّ الجزء الشمالي، أي التركي، كان يشكّل المورد الاقتصادي الأساسي في مجال الإنتاج الزراعي، ولذلك اختار عاصمة تعبّر عن مستوى معيشته. بينما تأثرت العاصمة الثانية، أي الجزء الثاني من المدينة، بشكلٍ آخر من الإنتاج يغلب عليه طابع الخدمات والتجارة.

التفـاوت المعيشـي

        متوسط دخل الفرد في الجزء التركي يساوي ربع ما هو عليه في الشطر اليوناني، مع أنّ الإحصاءات كانت تشير، في فترة ما قبل أحداث عام 1974، إلى أنّ الجزء الشمالي كان مصدراً رئيسياً لثروة البلاد. والمسؤولون في الشمال يعزون ذلك إلى أنّ الشرعية ما تزال إلى جانب دولة الجنوب، أي الدولة الأُمّ، ويقصدون بذلك، أنّ المجتمع الدولي ما يزال يعترف بدولة قبرصية واحدة، وما زال يعتبر دولة القبارصة الأتراك منشقّة وغير شرعية. ومن هنا يعلّق مؤيدو دنكطاش آمالاً كبيرة على اعتراف دولي يمكن أن ينتشلهم من حالة الفقر. وفي جميع الحالات يبدو احتمال العودة إلى البلد الواحد ليس من الأولويات، في مشاعر أهل الشمال.

        المطالب التي طرحها القبارصة الأتراك ما تزال هي ذاتها موضع نقاش، وإنْ تغيّرت صيغها. إنّهم طالبوا ويطالبون بالتساوي مع الطائفية اليونانية في كافة الشؤون، وهم يعرفون أنّهم لا يشكّلون من سكان الجزيرة سوى خمس العدد. إذن المساواة هي ذات طابع سياسي يتجاوز حدود الجزيرة إلى تلك الكواليس التي أرادت أن تعاقب الدولة الواحدة بقيادة المطران مكاريوس، ولا يخفى في هذا المجال أنّ الولايات المتحدة كانت تنظر إلى هذا الكاهن على أنّه فيديل كاسترو الشرق الأوسط، وبالتالي فقد أنكرت على سياسته صفة الحياد، وحكمت على نفوذه بالزوال، ولم يكن بد، أمام تحلُّق القبارصة حول مطرانهم الذي لعب دور القائد السياسي، دون أن يرثّر عليه الثوب الكهنوتي، من أن تستخدم ضده كل الأسلحة، ومن بينها تصوير الأزمة القبرصية على أنّها “مبارزة” حضارة المآذن وحضارة أجراس الكنائس، ومان لا بد، من أجل استكمال السيناريو من أن تدفع المشاعر الطائفية وتشحن النفوس في الشمال من أجل المطالبة بالحكم الذاتي، أو الاستقلال، أو التمسُّك بالوحدة، ولكن على أساس المساواة بين الطائفتين.

التشـدُّد والتنـازل

        التطورات التي شهدتها اليونان ليست في منأى عن التأثير الخارجي، وفي هذا السياق لم يكن دفع الجزيرة إلى مرحلة الفرز السكاني مجرد عقوبة اتخذت بحق اليونانيين، وبحق المطران/ الرئيس، بل إنّها أيضاً، وعلى نفس المستوى عقوبة اليونان بسبب مواقفها الرمادية في حلف شمالي الأطلسي، ومن هنا يسود الأوساط الدبلوماسية الاعتقاد بأنّ المواقف الجديدة التي اتخذها الزعيم اليوناني الجديد قد تكون على علاقة معيّنة بوضع الجزيرة. فقد كان الحزب الاشتراكي الحاكم قد وعد مواطنيه باتخاذ قرار جريء من مسألة عضوية اليونان في حلف شمالي الأطلسي، غير أنّ زعيمه باباندريو اعتبر قبيل الانتخابات الأخيرة أنّ المسألة قد طويت، مؤكّداً، بذلك، وجود أساس جديد للعلاقات مع واشنطن، يقضي بالتشدُّد حيال حلفاء موسكو في الداخل، على أن يسري هذا التشدُّد على القوى السياسية في الجزيرة. وهذا ما يفسّر، حسب رأي بعض الأوساط المطّلعة في أوروبا، قرار الرئيس القبرصي كبريانو بفك تحالفه مع الشيوعيين لصالح إقامة تحالفات جديدة من شأنها أن ترضي واشنطن، وتعزّز لديها الثقة بأنّ عودة الوحدة إلى الجزيرة لن يشكّل خطراً على السياسة الأطلسية في المنطقة.

        وجه المفارقة في سياسة واشنطن هي أنها تتخذ مواقف متباينة من بلدين عضوين في منظمة الحلف الأطلسي، ربما لأنها ترغب في ترسيخ انتماء تركيا إلى الحلف، أو لأنّها ترى فيها حليفاً أكثر أهمية وتأثيراً في المنطقة، فتعمل انطلاقاً من ذلك، على الانحياز لها ضد اليونان لتحصل على مكسب مزدوج: الضفط على اليونان من أجل المزيد من الارتباط بالحلف، وزرع الثقة عند الجانب التركي، غير أنّ هذه المفارقة التي عمَّرت نتائجها حتى الآن عشر سنوات قد اصطدمت بواقع جديد ناجم عن التأكيد اليوناني الرسمي على الولاء لسياسة البيت الأبيض. فهل يكفي ذلك لإعادة الوحدة إلى الجزيرة؟

        التعبئة في الجنوب ما تزال تتمحور حول شعار وحدة الجزيرة. رئيس الجمهورية يتهم اليمين واليسار بالميل لتقديم التنازلات إلى الشطر الشمالي من الجزيرة، ويرد عليه المعترضون بأنّ التنازل إلى الشركاء في الجغرافيا والتاريخ خير من التعلُّق بالأوهام ومن طلب الحل على أشلاء الوحدة الوطنية المنشودة. أما في الشمال فالتعبئة تأخذ منحى آخر. إنّها تستمر في التحريض على الطائفة اليونانية التي تسد عليها طريق البحبوحة لأنّها ما تزال تملك القوة الشرعية الدولية التي، بفضلها، تمكّنت الجمهورية القبرصية المعترف بها من أن تنال مبالغ كبيرة على سبيل القروض والمساعدات للتغلب على أزمة اجتماعية ناجمة عن تدفق حوالى مايتي ألف مهجَّر نحو الجنوب، أي ما يوازي نصف عدد الطائفة اليونانية تقريباً.

        والطائفة اليونانية متهمة أيضاً، باحتكار الصلة بالعالم الخارجي ولذلك تتدفق الثروة عن طريق السياحة. فقد بلغ عدد الزائرين عام 1973، أي قبل الأحداث القبرصية، حوالى ربع مليون سائح، في حين أنّ هذا الرقم قد تضاعف ليصل إلى حدود ثلاثة أرباع المليون في عام 1984، أي بمعدل سائح مقابل كل مواطن قبرصي. إنّها الجزيرة التي يتضاعف عدد سكانها إذن، كل عام، دون أن تزداد آمالها بالعودة إلى حدود البحر. إنّها الآن تشكو من حدود مصطنعة بين نيقوسيا الشمال ذات المآذن والبيوت الزراعية، ونيقوسيا الجنوب ذات العمارات الفخمة والخدمات.

        في الجنوب ينظر المواطنون إلى أعلى قمة في نيقوسيا “قمة الأصابع الخمس”، فتصطدم آمالهم بجبال من العراقيل السياسية التي تحول دون عودة المهجرين إلى قراهم وفي طليعة العراقيل وجود الجيش التركي على أرض الجزيرة حامياً للطائفة التركية حسب ادّعائه، بل حامياً لتقسيم الجزيرة. فهل تعود الأمور إلى أصولها؟ والجيوش إلى ثكناتها؟