12 أيلول 2023
https://www.nidaalwatan.com/article/203506
كتبت هذه الوثيقة وقدمتها كمشروع اقتراح إلى قيادة الجنوب في خريف عام 1994 ونوقشت وأقرت وصدرت باسم الحزب ، ، وطبعت في مطابعه وبعد توزيعها على الرفاق ونقاشها في وسائل الإعلام تم التراجع عنها بقرار غير معلن من اللجنة المركزية أي المجلس الوطني.
لماذا هذه الوثيقة؟
شهدت العقود الثلاثة الأخيرة أحداثاً كبيرة على الصعد المحليّة والعربيّة والعالميّة، من إنهيار المعسكر الإشتراكي، وهزيمة حركة التحرر الوطني العربيّة أمام المشروع الإسرائيلي – الإمبريالي، إلى إنفجار الحرب الأهليّة في لبنان، ثمّ إنتهائها منذ سنوات ودخول لبنان مرحلة السلم.
كانت تجربة الشيوعيين في هذه الحقبة غنيّة بالدّروس، كما كانت مشاركتهم فعّالة في أحداثها، إلّا أنّهم تحملوا حصّتهم من آثار الزلازل الكبرى التي أصابت قوى التقدّم والتحرر، فانخرطوا في عملية غنية من النقاش بهدف قراءة التجربة والإستفادة منها، غابوا خلالها، في صورة جزئيّة، عن لعب دورهم في ساحة العمل السياسي.
وها هم اليوم، بعد ان قطعوا شوطاً كبيراً في عمليّة المراجعة النقديّة، يضعون بين أيدي المعنيين بشؤون الوطن والجنوب بعض الخلاصات التي توصلوا إليها، لنقاشها مجدداً على أوسع نطاق، مع كل القوى السياسيّة والنقابيّة والثقافيّة والفعاليات، من أجل تصويبها وتعميقها لما فيه مصلحة شعبنا في إعادة بناء ما تهدم خلال الحرب، وفي تحرير ترابنا المحتل، وفي النهوض بوطننا ومجتمعنا في طريق التقدّم والحريّة.
– برنامج الخروج من الأزمة:
كان نضال الحزب الشيوعي ينطلق من الإعتقاد بأنّ هذا العصر هو عصر الإنتقال إلى الإشتراكيّة، وبأنّ التناقض الأساسي والملموس هو ذاك القائم بين رأس المال والعمل، وبأنّ الحل الملموس لهذا التناقض هو الإنقلاب الجذري على آلية النظام الرأسمالي، وتحويله تحويلاً جذرياً وثورياً بإتجاه الإشتراكيّة، نظاماً سياسياً وإقتصادياً وإجتماعياً، فكانت الإشتراكيّة لازمة نستحضرها في كل نقاش وحول أية قضية جزئية، من قضايا توزيع الثروة الوطنية إلى الديمقراطية وحل المشاكل القومية إلى مسائل تتناول الوضع التربوي والصحي وغير ذلك من هموم المواطنين، وكانت تشكّل العصب الحي والنقطة التي تنطلق منها وتعود إليها السجالات الفكريّة والنضالات اليومية، وكانت عامل التماسك الذي يؤمّن للبرنامج الحزبي زخمة ووحدته، وبالتالي تمايزه.
1. البحث عن تجاوز الخيار الرأسمالي:
بعد الإنهيارات في المعسكر الإشتراكي وفي حركة التحرر الوطني العربيّة التي شكّلت الإشتراكيّة احد محاورها الأساسيّة من المحيط إلى الخليج، وبعد إنهيار مشروع الحركة الوطنيّة، بما هو خطوة تفسح في المجال، في نظر الحزب الشيوعي، امام الإنتقال إلى الإشتراكيّة، وبعد التحولات والتغيرات في بنية لبنان السياسية والإقتصادية بات على الحزب ان يبحث عن برنامج جديد وخطة بديلة، مع إعتقاده الدائم ان الحل الجذري لتناقضات النظام الرأسمالي يكمن في تجاوز الرأسمالية إلى سواها، والمجال هنا مفتوح امام الفكر التقدمي للبحث عن هذا البديل استناداً إلى التراث التقدمي والثوري في العالم.
وإذا كانت الإشتراكية، في صيغتها المحققة قد سقطت فإن ذلك لا يعني الإستسلام للقائلين بأنّ الرأسمالية هي “نهاية التاريخ”، بقدر ما يعني الضرورة النظرية والسياسية لانكباب اهل الفكر وأهل السياسة على البحث النظري والسياسي عن سبل تنقذ البشرية من شرور الجشع الرأسمالي الذي ملأ الدنيا حروباً وحروباً اهليّة وجوعاً وبؤساً وبطالة، منذ قرنين من الزمن حتّى هذه اللحظة.
إلّا أنّ هذه المهمّة البعيدة المدى هي سيرورة معقدة على صعيدي الفكر والممارسة لا يجدي احزاب التغيير التقدمية ان تنتظر نهايتها، لتستأنف نضالها من جديد، بل من المستحيل على هذه الورشة الفكرية السياسية ان تؤتي ثمارها دون البحث في التناقضات الملموسة والهموم اليومية ومواجهتها واستنباط الحلول الملموسة لها. ومن الأكيد ان هذا البحث الدؤوب هو السبيل الأمثل لإنجاز أشكال من التقدم والتطور التدريجي الذي سيؤول ولا شك إلى تغير نوعي، حالما تنضج الظروف الموضوعيّة وتستكمل النظرية بناءها.
إذا كانت الإشتراكيّة كصيغة محققة، قد أخفقت في جانبها السياسي بفعل نواقصها في مجال الديموقراطيّة وفي حل القضايا القوميّة، كما أخفقت على الصعيد الإقتصادي في مجال إنتاج الثروة وفي عدم تشجيع الحوافز الفردية، إلا انّها تمكنت من تقديم نموذج اكثر عدالة بما لا يقاس من التوزيع الرأسمالي للثروة، وشكلت مثالاً وحافزاً لكل مجتمعات العالم، بما في ذلك الدول ذات الإقتصاد الحر، لتحقيق مستويات من العدالة مستلهمة كلها من التجربة الإشتراكيّة.
فضلاً عن ذلك، وقبل ذلك، يهم الشيوعيين ان يحذروا من حالة الإنهيار المعنوي التي سادت أوساطاً واسعة من المتنورين، ذلك ان سقوط التجربة لا يلغي القيم السامية التي ناضلت الحركة الإشتراكيّة في سبيلها، والتي ألهمت أهل الفكر والعلم والثقافة، إذ ليس من المصادفة أن أعظم مفكري هذا العصر وفنانيه وشعرائه وأدبائه وفلاسفته كانوا منخرطين في الأحزاب الشيوعية أو يستلهمون الماركسية كمنهج للتغيير الثوري.
II. القضايا الملموسة: بناء الدولة:
إنّ الحزب إذ ينطلق في رسم خطّته وبرنامجه النضالي من واقع مجتمعنا اللبناني في بنيته الداخلية وعلاقاته الخارجية يرى انّ المهمّة الراهنة التي تواجه لبنان بعد سنوات الحرب الطويلة هي: تحرير الأرض وتثبيت السلم الأهلي ومعالجة أسباب الأزمة الداخلية، بالإضافة إلى مواجهة الإستحقاقات الإقليميّة.
ولهذا يرى ان مواجهة الإحتلال الإسرائيلي وتحرير الجنوب، وصيانة حقوق لبنان الوطنيّة في مواجهة مسار التسوية يتطلّب وجود دولة موحدة وفعّالة تعبّر عن وحدة المصالح اللبنانيّة في مواجهة هذه المخاطر. كذلك الأمر بالنسبة للسلم الأهلي، حيثُ أن ترسيخه يتطلّب معالجة الاسباب العميقة المولدة للتفجرات السياسية والإجتماعية، وتأتي مسألة إعادة بناء الدولة هنا ايضاً في مقدمة الأولويات بإعتبارها شرطاً ضرورياً لتجاوز حالة التفتت والتفكك التي تخطت السلطة والمؤسسات لتطال المجتمع نفسه.
إلّا انّ عمليّة إعادة بناء الدولة لا تنفصل عن الأسس التي تقوم عليها والإصلاحات الضروريّة في النظام السياسي اللبناني.
1- التّمييز بين الدولة والسّلطة:
إنّ اوّل شروط قيام الدولة هو تمييزها عن السلطة. فالدولة كيان معنوي، يجسد إرادة العيش الواحد(لا المشترك)، ضمن حدود ثابتة، وفي ظل سيادة وطنيّة. أمّا السلطة فهي جهاز يدير شؤون الدولة ويجري إختياره، في الأنظمة الديمقراطيّة، عن طريق الإنتخاب(السلطة في اميركا تسمّى الإدارة)، وهي جهاز قابل للتّغيير، لأنّ له من يعارضه ومن يؤيّده. فالدولة تعبير عن مصالح الأمّة بينما لا تعبر السلطة إلا عن مصالح من تمثّله. وعليه، فالدولة ملك للمواطنين بينما السلطة ملك لفئة معيّنة من المواطنين.
إنّ أوّل خطيئة يرتكبها اهل السلطة في بلادنا، وهو تقليد ورثناه منذُ الإستقلال، وها هو يتجدّد بعد الحرب الأهليّة، هي أنّهم يتماهون بالدولة، ويصورون للشعب انّ الدّولة هي السلطة والسلطة هي الدولة، وأنَّ الإعتراض على هذه هو إعتراض على تلك. فيستظلّون بذلك وراء قدسيّة الدولة ليسحبوا هذه القداسة عليهم.
2- الدّولة المطلوبة لمعالجة الأزمة الداخليّة: أية دولة نريد؟
دولة مدنيّة عصريّة
ترفض أن يكون بينها وبين المواطنين اي وسيط. تتحرر من البنية العائليّة-الطائفيّة المتخلّفة التي جعلت من النظام السياسي نظاماً وراثياً للعائلات السياسيّة الحاكمة. دولة مدنيّة بلا دين. اي التي لا يكون الإنتماء الديني شرطاً للإنتماء إليها. مثل هذه الدولة تكون عنصر توحيد للبنانيين بعد ان كان النظام الطائفي سبباً في إنقسام اللبنانيين دولة ومجتمعاً.
دولة ديمقراطيّة
اي دولة القانون، حيث يكون القانون هو الناظم للعلاقة بين المواطنين أنفسهم وبين المواطنين والسلطة. وفي إطار هذه المساواة أمام القانون يتميّز المواطن عن غيره بالكفاءة والأخلاقيّة والإنتاجيّة. ولهذا فالدولة التي ننشدها هي دولة الكفاءة وتكافؤ الفرص.
والدولة الديمقراطيّة هي الدولة التي تؤمّن تمثيلاً صحيحاً للمجتمع اللبناني. وهي التي تحتضن الإختلافات فتكون التعدديّة فيها من ضمن الوحدة. ويضمن فيها إستقلال القضاء والمؤسات وتحترم حقوق الإنسان وحرياته العامة والخاصة في التعبير والنشر والإنتماء والعمل.
دولة ذات سيادة:
على حدودها وداخل حدودها لا ينازعها على هاتين السيادتين احد، لا من الطامعين بأرضها ولا من العاملين على توزيعها وتقاسمها دولاً داخل الدولة. وأخيراً، الدولة التي يطمح اللبنانيون اليوم إلى إعادة بنائها هي دولة حاملة لمشروع تنموي حقيقي، تجعل من أولوياتها تخفيف التفاوت بين المناطق وبين الطبقات الإجتماعيّة وتعيد بناء الإقتصاد وإعمار البلاد بالترافق مع حل المشاكل الإجتماعيّة كمشكلة المهجرين والمعاقين والبطالة والإسكان وإنهيار التعليم الرسمي والخدمات وتدهور مستوى المعيشة للفئات الشعبيّة والوسطى…
إنّها بإختصار دولة الديمقراطيّة السياسيّة والعدالة الإجتماعيّة.
في سبيل قيام مثل هذه الدولة يناضل الشيوعيون من اجل تعديل قانون الإنتخاب وتصحيح قواعد التمثيل الشعبي، على أساس النسبيّة، وجعل لبنان دائرة إنتخابيّة واحدة، وتخفيض سن الإقتراع حتّى سن 18 وإعتماد البطاقة الإنتخابيّة والإقتراع في مكان السّكن.
وفي سبيل هذه الدولة ايضاً يطالب الشيوعيون بتشجيع مؤسسات المجتمع المدني وهيئاته الأهليّة أحزاباً ونقابات وأندية وحركات ثقافيّة، ويعملون على كسر الهيمنة السياسية الرسميّة والحزبيّة التي تمارس عليها.
وفي سبيلها يطالبون بسياسة إقتصاديّة إجتماعيّة عقلانيّة توفّر مناخاً سليماً للوحدة الوطنيّة ولعلاج القضايا والمشاكل الناجمة عن الحرب وعن توحش رأس المال، عن طريق صياغة ميثاق إقتصادي – إجتماعي وإنشاء المجلس الإقتصادي – الإجتماعي.
إنّ هذه المهمّات التي تواجه لبنان هي مسؤوليّة جميع اللبنانيين بكل فئاتهم وقواهم الإجتماعيّة والسياسيّة والفكريّة، ونحن جزء منهم، ولسنا نرى فيها اية مصالح وأهداف فئويّة، بل على العكس نرى فيها قراءة لحاجات وطننا ومجتمعنا ونعلن إلتزامنا بها. إلا أننا في المقابل لا نرى ان عملية إعادة بناء الدولة تجري وفق الأسس والمعايير السليمة، بل هي تواجه أزمة.
III. أزمة بناء الدولة في لبنان وأثرها على الجنوب:
1- التناقض بين مصلحة الشعب والسلطة:
بعد إن إنهارت الدولة بفعل الحرب والمحاولات الجارية لإعادة بنائها على أسس طائفيّة هشّة تحمل في طياتها بذور حروب جديدة، يبدو بوضوح انّ التناقض الأساسي الذي يعصف بلبنان هو بين مصلحة الشعب اللبناني في بناء دولة مدنيّة عصريّة وبين مصلحة بعض القوى السياسيّة في السلطة وخارجها في العمل الدؤوب على عدم بناء الدولة، او بنائها على أسس لا تضمن إستقرارها وديمومتها.
2- دور العوامل الخارجيّة في بناء الدولة:
لعبت العوامل الخارجيّة الدور الأساسي في قيام الدولة، منذ الإستقلال حتّى إتّفاق الطائف، ما جعل عوامل القوّة الداخليّة في قيامها في الدرجة الثانية من الأهميّة، وجعلها ذات بنية هشّة سرعان ما تنهار عند اول عاصفة، وسرعان ما يستنجد اركانها بعوامل خارجيّة ويستقوون بها، ولا يعيرون الإهتمام الضروري بعمليّة الإنصهار الوطني، الضامن الأساسي والوحيد لقوّة الدولة وثباتها وصمودها في وجه التناقضات الخارجيّة.
3- الطائفيّة: خطر على الوحدة والإستقلال:
لقد شكّل النظام السياسي الطائفي الخطر الأكبر على وحدة البلاد وإستقلالها وسيادتها، بحكم طبيعته المغلبة لعوامل الإنقسام والتفتيت على عوامل الوحدة والإندماج، ولأنّها أتاحت لقادة الطوائف السياسيين زج جماهير الطوائف والصراع السياسي في البلاد في مسار الإرتباط بالخارج.
إنّ الفكر الطائفي بطبيعته لا يعترف بالكيان والدولة إلا بمقدار حصّة (زعماء)الطوائف في السلطة. وهو بطبيعته إذ يعطي الأولويّة للسلطة وللنظام على الوطن والدولة، دائم الإستعداد للإرتباط بالخارج على حساب الوطن وسيادته ومؤسساته.
لقد واجه مفهوم الإنتماء إلى الوطن خطر التجليات المختلفة للفكر الطائفي: فإحدى صيغ هذا الفكر تدمج بين الكيان وبين هيمنة طائفيّة محددة، ولذا تنكفئ إلى حالة دون وطنيّة جاعلة الإنتماء الطائفي إنتماءً قومياً حضارياً، وترتبط بقوى إقليميّة ودوليّة على حساب الإنتماء الوطني. وإحدى الصيغ الأخرى لهذا الفكر الطائفي تتأرجح بين المطالبة بزيادة حصّتها في النظام وإستبدال هيمنة طائفيّة بأخرى. أو تسعى لتجاوز الإنتماء الوطني إلى إنتماء اوسع قومي او ديني لاغٍ او مذوب له.
والجنوبيون الذين عانوا، مثل سائر اللبنانيين، من خطر التجليات المختلفة للفكر الطائفي، من الإهمال والحرمان إلى التشريد والإنقسام والتقاتل، هم اكثر اللبنانيين تمسكاً بوحدة وطنهم وبالإنتماء إليه لا سيّما انّ العدو لا يزال يحتل جزءاً من ارضهم ومقاومته وتحرير الأرض يتطلّبان تجاوز التصنيفات الفئويّة والطائفيّة لما تلحقه من ضرر في توحيد المواقف.
إنّ شيوعيي الجنوب يرون انّ مرض الطائفيّة يشكّل الخطر الأكبر على وحدة البلاد وإستقلالها وسيادتها، ويعتبرونه ظاهرة تستدعي مواجهة ذات طابع وطني يشاركهم في ذلك عدد كبير من القوى السياسيّة والشخصيّات النقابيّة والثقافيّة والدينيّة التي تلتقي مع ما طرحه سماحة الشيخ محمد مهدي شمس الدين حيث يقول بضرورة قيام “دولة مدنيّة بلا دين، والإلتزام بكل مقتضيات التنوع من منطلق انّ الوحدة السياسيّة للمجتمع هي المواطن وليس الطائفة”. هذا التصوير لمفهوم المواطنية بصفتها علاقة مباشرة بين المواطن والوطن، بينه وبين الدولة (لا السلطة) لا يسيء إلى الدين ولا يتناقض معه.
مثل هذا الحل لا ينتقص من كيانات الطوائف بل يحوّل التعدديّة المذهبيّة في لبنان إلى مصدر غنى، بعد ان كانت سبب تنازع وصراعات دفع الوطن والدولة ثمناً لإنفجارها، ويجعل المذاهب جزءاً عضوياً من المجتمع المدني ومؤسساته الأهليّة التي تحافظ على خصوصياتها لا بالإنفصال عن الدولة والإستقلال عنها، بل برفع هيمنة السياسة عليها، ذلك ان ما يميز لبنان ليس تدخل المرجعيات الدينية في شؤون الدولة، وقد يكون ذلك من حقّها في المواطنيّة، بل هو المحاولات الدؤوبة من جانب السياسيين للإستقواء بالكيانات الدينيّة او الطائفية ضد الدولة وسيادتها.
على هذا الأساس يرى الشيوعيون انّ إلغاء الطائفيّة السياسيّة، بمقدار ما هو ضرورة للنهوض بالوطن وبالدولة بمقدار ما تحول إلى شعار صراعي يضعه المسلمون في وجه المسيحيين فيقابلهم هؤلاء بشعار العلمنة الكاملة وتوحيد قوانين الأحوال الشخصيّة، الأمر الذي جعل هاتين المهمتين الضروريتين لقيام الدولة عقبتين امام حوار ديمقراطي هادئ بين اللبنانيين، وبالتالي حائلين دون بناء دولة مدنيّة، هي دولة القانون والمؤسسات، ولم يعد القصد من طرحهما، في الظروف الملموسة الحالية في لبنان، لا إلغاء الطائفيّة السياسية ولا العلمنة، ولا سيما أنّ القوى التي تطرحهما اليوم غارقة في التعصب الطائفي، وبالتالي إذا كان فاقد الشيء لا يعطيه، فمن الطبيعي ان يدخل هذان الشعاران، على أهميّة كل منهما، في طاحونة حوار الطرشان.
إنّ شيوعيي الجنوب لا يدعون إلى محاربة هذين الشعارين، بل يرون ان تحقيقهما يتم في سياق عمليّة متدرجة تستدعي مجموعة من الخطوات السياسيّة والإجتماعيّة والثقافيّة والتشريعيّة الضروريّة لبناء الدولة المدنيّة الديمقراطيّة.
4- غياب السيادة الوطنيّة على الحدود:
يشكّل الإحتلال الإسرائيلي إعتداءً صارخاً على السيادة الوطنيّة، اي على سيادة الدولة، فضلاً عن كونه يشكّل خطراً داهماً على الكيان اللبناني وعلى مصيره وتطوره. ولهذا يندرج تحرير التراب المحتل في سياق النضال من اجل إعادة السيادة الوطنيّة على الأرض. من هذه الزاوية، ومن موقع المدافع المخلص عن تراب الوطن قدم الحزب اغلى التضحيات من اجل تخليص شعب الجنوب من براثن الإحتلال، ولا تزال رموزه الكفاحيّة كواكب مضيئة في سماء نضالنا.
إلا انّ الحزب الشيوعي اللبناني في الجنوب يعترف انّ ازمة العمل الحزبي عامّة وأزمته خاصّة قد ضاءلت من دوره في المرحلة الأخيرة من نضال المقاومة، في صورة موازية لتضاؤل حجم التأييد الشعبي لها، الذي يعود في جانب منه إلى التحول في وضع المقاومة بعد بدء المفاوضات من وسيلة وخيار وحيد للتحرير إلى وسيلة وأداة ضغط على العدو يجري وقعها على وقع المفاوضات، كذلك بسبب حجم الخسائر والأضرار التي يلحقها العدو بأهلنا وقرانا نظراً لإستغلاله بعض أنواع العمليات بهدف الإساءة إلى أهلنا وإلى المقاومة معاً، الأمر الذي ينبغي تلافيه لتخفيف العبء عن اهلنا في قرى التماس مع الشريط المحتل.
والحزب إذ يدعو للتمسّك بحق لبنان في إستعادة ارضه ورفض الشروط الإسرائيليّة يرى انّ من حقّ اللبنانيين ممارسة كل أشكال النضال والضغط لتحرير ارضهم بكافّة السبل والوسائل من المقاومة المسلّحة حتّى المفاوضات لتنفيذ القرار 425، وهو يعمل على تجاوز أزمته سعياً لتفعيل دوره في إطار المقاومة.
وفي هذا المجال يقوّم الحزب بصورة إيجابيّة التغيير الجذري في الخطاب السياسي الرسمي الذي انتقل من تخوين المقاومين إلى التنسيق معهم. غير انّ خطاب السلطة هذا ملجوم بكوابح الخوف من ان يتحوّل السلاح، بدوره، إلى سلطة بديلة عن سلطة الدولة. والشيوعيون إذ يقدرون هذه المخاوف يرون انّ الحل هو ان يجري تنسيق بين السلطة السياسيّة وأطراف المقاومة لتنظيم الأعمال العسكريّة يضمن في الوقت نفسه دوراً للجيش في إطار واجبه الوطني للتصدّي للإحتلال وإعتداءاته، وكذلك دوراً للمقاومة في القيام بعملياتها العسكريّة دون موانع وعقبات.
وتندرج في هذا السياق قضيّة التعامل مع اهلنا في الأرض المحتلّة، الذين يحتاجون إلى كل اشكال الدعم وتأمين كل مقومات الصمود لهم للحؤول دون لجوئهم قسراً إلى تطبيع عملي مع إسرائيل، تطبيع يرغمون عليه في ظل الظروف الصعبة التي يعيشونها ويتعرضون خلالها لأبشع أنواع القهر المادي والمعنوي والجسدي. وكم من العائلات منهم تشردت وأرغمت على مغادرة أرضها، او فرض عليها الإنقسام إلى شطرين موزعين بين الأرض المحتلة والأرض المحررة، الأمر الذي يملي على الهيئات الرسمية الإهتمام بالمهجرين منهم وتقديم كل أشكال المساعدات للمعتقلين والمحررين من معتقلات العدو، في الخيام أو في إسرائيل، من خلال الهيئات التي تمثلهم (هيئات المهجرين، هيئات المعتقلين والأسرى).
5- غياب سيادة الدولة داخل حدودها:
لكن غياب سيادة الدولة في الجنوب لا يقتصر على الأرض المحتلّة فقط. بل إنّ سيادتها داخل الأرض المحررة في الجنوب، ومن لبنان عامّة، معرّضة لإعتداءات فاضحة تمارسها ضدها السلطة الرسميّة بأطرافها وإمتداداتها. مثل هذا الإعتداء من جانب السلطة السياسيّة على الدولة ليس جديداً في تاريخ الجمهوريّة اللبنانيّة، بل إنّه تحول إلى جزء عضوي من تركيبة الكيان وإلى سبب أساسي من أسباب إنفجار الحرب كل عقدين من الزمن.
لقد تواطأت السلطات المتعاقبة في لبنان على التخلّي طوعاً عن سيادة الدولة لصالح هيئات وجهات أخرى، فعملت من حيث تدري أو لا تدري على قيام دويلات داخل الدولة لم تكن النسخة الفلسطينيّة بدايتها، بل هي تتويج للنسخ اللبنانية المتجسدة قبل الحرب بالدويلات الطائفية والعائلية التي اقتطعت من سلطة الدولة، وعلى حسابها، جزءاً كبيراً من الصلاحيات في تنظيم شؤون المجتمع او في التوسط بين المواطن والمجتمع. والمتجسّدة خلال الحرب وبعدها بسلطات رديفة على حساب الدولة ايضاً. واليوم تمارسها قوى في السلطة الراهنة على غرار ممارسات الطوائف قبل الحرب، لا بل أضافت صنوفاً جديدة إلى إنتهاك سيادة الدولة والقوانين حيث غدت تجارة النفوذ جزءاً من أصول التجاذب السياسي والصراعات الداخلية في ظل دولة منقوصة السيادة بعد ان كان كذلك في ظل غياب الدولة.
وتندرج في هذا الإطار ممارسات اهل الحكم في تحميل العلاقات المميزة بين لبنان وسوريا، وهي ضرورة وطنيّة وإستراتيجيّة في كل المجالات، اعباء وتبعات، بإمكان اللبنانيين معالجتها بقواهم الذاتية.
السلطة تنتهك سيادة الدولة:
العدوان على سيادة الدولة هو ذاك الذي تمارسه السلطة السياسيّة من خلال بدعة الترويكا التي الغت عملياً الدستور ومبدأ فصل السلطات.
ليس خافياً على أحد من اللبنانيين تسرب قيم الحرب إلى مرحلة السلم، من التسلط والفئويّة والإستئثار في معركة التعيينات الإداريّة لا سيما بعد حلقتها الأولى، حيث حشر في دوائر الدولة عدد من الأفراد الذين لا مأخذ عليهم في ولائهم الحزبي. وإذا كان من حق السلطة التنفيذية وحدها ان تختار من تراه مناسباً وقادراً على تنفيذ خطتها على اساس الكفاءة، إلا انّ ذلك ليس من حق السلطات الأخرى في اجهزة الدولة. ومن الضروري في هذا المجال المطالبة بإستقلال الأجهزة الإداريّة والعسكريّة والقضائيّة عن السلطة السياسيّة بحيث يترك لهذه الأجهزة أن تختار أو، على الأقل، أن تقترح من بين أفضل كفاءاتها من ترشحهم لسلّم الترقي الوظيفي.
ليس خافياً على احد ان جزءاً من مؤسسات الدولة، وهي بالضرورة، وإستناداً إلى الدستور، وإلى كون الدولة كياناً معنوياً تهم جميع المواطنين، قد تم توزيعه على ممثلي قوى الأمر الواقع داخل السلطة، حيث لم تعد هذه المؤسسات محسوبة على أجهزة الدولة بمقدار ما جرى التعامل معها وتصنيفها في خانة قوى الأمر الواقع، وباتت تتعامل مع المواطنين لا بصفتها العامّة، بل بصفتها الفئويّة. تلك كانت حال مجلس الجنوب الذي لا ينتظر التوجيهات من السلطة التنفيذية التي يخضع لها في سلم التسلسل الإداري بل من القيادات الحزبية التي يتبع لها عملياً موظفوه وإداريوه، وقد استفحل الأمر اكثر فأكثر حين تحوّلت المرجعية إلى مجموعة من المسؤولين الحزبيين في القرى، حيث بات واحدهم اكثر نفوذاً في مجلس الجنوب، من رئيس مجلس الوزراء نفسه. فضلاً عن نشوء جهاز من السماسرة يحيط بمجلس الجنوب ويحدد له طرق الإنفاق ومجاريها ومصباتها.
إنّ الحزب الشيوعي اللبناني في الجنوب ينتقد ذلك من باب الدفاع عن سيادة الدولة والقانون وحقوق المواطنين، لأنّ الذي يجري في مجلس الجنوب لا ينتقص من هذه السيادة بل يهدد، بممارساته الفئوية، الديمقراطية بما هي ركن اساسي من اركان قيام الدولة. ذلك انّ سياسة الإستئثار بمقاليد الأمور ليست سوى إسفين يدق في بناء الاستقرار الاجتماعي والأمني والسياسي في الجنوب.
والشيوعيون ينظرون بإيجابية إلى حجم المشاريع في البنية التحتية التي تحققت بأموال الخزينة اللبنانية، وأمكن من خلالها إقتطاع حصص اكبر من حجم الإنفاق العام في ميزانية الدولة لصالح المناطق المحرومة، ومنها الجنوب، فتحسنت اوضاع الطرقات وتأمنت مياه الشفة لعشرات القرى في قضاءي صور والنبطية ومنطقة الزهراني.
إنّ شيوعيي الجنوب لا يترددون في الإشارة إلى هذه المنجزات، وإن كان لهم ملاحظات جوهرية على الإجراءات الإداريّة والمالية في تنفيذها، كما لا يترددون، إحتراماً منهم للمقام الذي يمثّله نواب الجنوب في البرلمان اللبناني ورئيس المجلس النيابي ورئيس مجلس الوزراء، وكلاهما من الجنوب، من تشكيل وفود او المشاركة في اخرى لتنسيق المطالب مع الجهات الرسمية، شرط الا تتحول هذه العلاقة بين مؤسسات السلطة ومؤسسات المجتمع المدني، ممثلة بهيئاته واللجان الشعبية إلى سبيل لتعزيز الإنتهازية، وتشجيع الإستزلام، وتشويه القيم السياسية والأخلاقية. وهم يلاحظون، في هذا المجال، انّ من أشكال انتهاك الديمقراطية والفصل بين السلطات جعل المطالب المحقة للمواطنين منوطاً تحقيقها بأشخاص لا بمؤسسات، بل بردائف غير رسمية للمؤسسات الرسمية، وهي ردائف من خارج أجهزة الدولة وتمارس سلطتها على المواطنين وعلى اجهزة الدولة، على الوزارات والدوائر الحكوميّة كلها من دون إستثناء، وعلى كل المؤسسات الخاصة الكبيرة منها والصغيرة، من البنوك حتى الحوانيت، مروراً بالمعامل والمصانع والمزارع.
كما يلاحظون ايضاً انّ قوى السلطة تعمل، مستفيدة من موقعها الرسمي، على (المضاربة) على مؤسسات المجتمع الأهلي، فتنافسها على تشكيل هيئات مماثلة وتستأثر بالمساعدات الحكومية، ملغية بذلك المسافة الضرورية بين اجهزة الدولة والهيئات الشعبية، والإستقلال النسبي اللازم لكل منها.
إنّ موقف الشيوعيين في الجنوب نابع من إقتناعهم بأنّ هذا المنطق لا يبني الدولة ولا يعزز سيادتها، بل هو تكرار فج للعبة السياسية التقليدية في لبنان بأدوات متجددة، ولا سبيل للخروج من هذا الإنتهاك الفاضح لدروس الماضي إلا بتضافر الجهود من اجل بناء دولة المؤسسات وسيادة القانون وتكافؤ الفرص، وبالفصل الحاسم بين الدولة ككيان وطني عام والسلطة كتعبير عن مصالح فئات من الشعب.
6- غياب الديمقراطية:
لا شك انّ منجزات كبيرة تحققت على صعيد بسط سلطة الدولة في الجنوب، ساهم في ذلك مساهمة فعّالة إنتشار الجيش اللبناني وإستعادة قواه جزءاً كبيراً من مهامها، الأمر الذي أمّن جوّاً كبيراً من الإستقرار، في المناطق المحررة، ومن الهدوء الأمني بعيداً عن محاور المواجهة مع جيش الإحتلال وعملائه.
إنّ الوضع الذي آلت إليه المؤسسات العسكرية بفعل سياسات السلطة، وبفعل الحرب من تفكك وشرذمة يؤكد الاستنتاج بأنّ لا حياة للجيش خارج وحدة الدولة والوطن، وخارج مصالح الشعب اللبناني، ولا شك انّ التغييرات الإيجابية التي طرأت على بنية الجيش اللبناني، وتصديه للإعتداءات الإسرائيليّة، وسلوكه وعلاقته الجيدة مع المواطنين قد ساعدت على إعادة الثقة به من قبل جماهير الجنوب وإعتباره جزءاً منهم وحاجة ماسة لهم، بعد ان كان وجوده قبل الحرب محاطاً بالحذر والسلبية.
لقد كان لإنتشار الجيش اللبناني الأثر الكبير في تأمين اجواء صالحة لترسيخ نوع من العلاقات وأجواء الهدوء، إلّا انّ عقبات ثلاث لا تزال تحول دون قيام علاقات ديمقراطية بين القوى السياسية المختلفة في الجنوب.
1- لا يزال منطق الحرب، وبعض ظروفها، مستمراً في جزء من مناطق الجنوب، وما يزال سلاح آخر غير السلاح الشرعي منتشراً بين ايدي المواطنين كونه سلاحاً للمقاومة. إنّ هذا السلاح رغم ضرورته، ورغم ندرة الحوادث الأمنية، لا يزال يفرض جواً معنوياً في صفوف عامة الناس لا يدعو إلى الطمأنينة الكاملة كون العلاقات بين القوى السياسية لا تزال مشوبة بمنطق الحرب والإستئثار ذاته الذي ولّد حروباً ومعارك عديدة. ولئن كانت قد انتهت الصدامات المسلحة، فإنّ الإختلاف على صغار القضايا في القرى من شأنه ان يؤدي إلى توتير الأجواء، وشحن النفوس والإحتقان الذي تشعله أيّة شرارة. مما يخلق في قرى الجنوب ظروفاً غير مؤاتية لتوحيد المواقف والإرتقاء من الإنقسامات إلى اجواء الإنصهار التي يتطلبها تثبيت السلم الأهلي في لبنان.
يعتقد شيوعيو الجنوب انّ الحرب اللبنانية كانت غنية بالدروس، ومنها بشكل خاص انّه لا سبيل إلى تجاوز الحالة الإنقسامية في القرى على اساس الولاءات العائلية المتداخلة مع الولاءات الحزبية والسياسية إلا بإتباع نهج تضامني بين كل القوى والفاعليات، على صعيد كل قرية، او قضاء، او محافظة وفي الجنوب عامّة في إطار من التفاعل والتعاون على اسس ديمقراطية لما فيه المصلحة العامة، وعلى رأسها بسط سيادة الدولة والقانون. ولاشك انّ الشيوعيين في الجنوب سيلعبون هذا الدور التوحيدي في كل الميادين.
2- تضاءل دور الأحزاب ذات الطابع الوطني، وغلب، بديلاً منها دور الأحزاب الطائفية والمذهبية في كل مكان من لبنان، ومنها الجنوب، الأمر الذي افقد الجنوب أحد أهم تقاليده في نبذ الطائفية، والذي جعل الإقليّات السياسية، والدينية فيه بصورة خاصّة، تشكو من غياب الديمقراطية التي تنطوي، في احد مضامينها، على سيادة رأي الأكثرية، تماماً كما تنطوي على ضرورة إحترام رأيْ الأقليات وأخذه بالإعتبار في كل ما يتناول الشأن العام.
إنّ شيوعيي الجنوب يرون أنفسهم مطالبين بالنضال لإستعادة تقاليد الجنوب اللاطائفيّة التي ظلت سائدة قبل إندلاع الحرب وفي ظل سيطرة الأحزاب التقدمية اللبنانية، حيث لم يشهد الجنوب ايّة حوادث طائفيّة. وعلى الشيوعيين ان يبعثوا هذا الوجه المشرق من تاريخ منطقتهم وذلك بوقوفهم الموقف المبدئي المتعاون مع جميع القوى العلمانية ومع كل المتضررين من هيمنة الطائفية والمذهبية، عاملين على رفع مستوى الوعيْ الوطني في صفوف الأوساط الشعبية التي وقعت، هي بدورها، ضحية الشحن الطائفي وإثارة الغرائز الطائفية.
كما انّ عليهم ان يناضلوا من اجل تعميم قيم التسامح الديني والأخلاقي في مواجهة قيم التعصب المذهبي، كما انّ عليهم ان يواجهوا دور المال والخدمات في عملية إستقطاب تنشر قيم الإنتهازية والوصولية، وهي قيم أمينة على المصالح الفردية الخاصة لكنها تشكل خطراً على التضامن الإجتماعي المطلوب في مرحلة السلم الأهلي. وبذلك يسهم الشيوعيون في إعادة الإعتبار للقيم الأخلاقيّة في السياسة التي تحوّلت في اللاوعي العام إلى مرادف للأخلاق.
3- أهم ما تتجسّد فيه الديمقراطية هو المجتمع المدني، وهو معيار من معايير التنمية والتقدم والرقي الإنساني. فيه وعبر مؤسساته كالأحزاب والنقابات والجمعيات، يمارس المواطن حقّه في المشاركة والمراقبة والمحاسبة، ويتعرف إلى أصول الديمقراطية. كذلك يتعرف المجتمع إلى ممثليه الحقيقيين ويراقب مسارهم بصورة تدريجية.
إنّ العلاقة بين المجتمع المدني والديمقراطية علاقة عضوية، لا بل سببية. والمجتمع المدني هو الضمانة لتفعيل النظام الديمقراطي وصيانته وتطوير آلياته. ففيه يقوم الحوار وتترسخ العلاقات والروابط الإجتماعية، وفي مؤسساته تنتج البرامج والمشاريع.
أ- الأحزاب والسلطة في علاقة دائمة من الرفض المتبادل. هكذا كانت الحال قبل الحرب وخلالها. ومع بداية السلم الأهلي بات من الضروري أن تعيد الأحزاب قراءة تجربتها قراءة نقدية، والشيوعيون قطعوا، في هذا المجال شوطاً كبيراً، وأن تعيد السلطة السياسية النظر بعلاقتها بالأحزاب بإتجاه المزيد من الديمقراطية، اي الإعتراف بها كقوى ذات فاعلية وتمثيل شعبي، وبإتجاه تحفيزها على العمل العلني وتشجيع قيامها والنظر إليها كحاجة لإعادة العافية إلى الحياة السياسية اللبنانية، خاصة وأنّ غياب الأحزاب أغرق الوطن في دوامة المذهبية والإنقسامات، وبإتجاه سن التشريعات التي تحول دون قيام احزاب مذهبية أو دينية، والتي تنظم الإنتخابات النيابية والمحلية على اساس لوائح وبرامج تكون الأحزاب جزءاً عضوياً منها.
ب- أمّا النقابات فقد كانت، فيما مضى، مطية للعمل الحزبي تتقرر سياساتها وبرامجها داخل القيادات الحزبية لا في هيئاتها التمثيلية، الأمر الذي يدعو إلى إعادة النظر بهذه الآلية من العمل النقابي، من جانب العاملين في هذا الحقل من اجل تعزيز دور النقابات وتوسيع دائرة تمثيلها لتشمل أوسع أوساط العاملين في حقول الإنتاج الزراعية والصناعية والتجارية، ومن أجل صياغة البرامج النقابية من جانب الهيئات المنتخبة في صورة مستقلة عن البرامج الحزبية، وبهذا تنتظم العلاقة الديمقراطيّة بين النقابات والأحزاب.
أمّا علاقة النقابات مع السلطة السياسية فهي كتلك القائمة بين الأحزاب والسلطة. والسلطة هي صاحبة المسؤولية الأولى في إستمرار هذه العلاقة متوترة، لأنّ الحق المشروع والواجب الطبيعي المفروض على النقابات هو الدفاع عن مصالح الطبقة العاملة في مواجهة ميل رأس المال الطبيعي إلى مراكمة الربح على حساب قوة عمل العمال. وعليه فالسلطة مطالبة بإعطاء العمال والنقابات حقوقهم وحصتهم من الإنتاج على الأقل قياساً على معدلات التضخم وأرقام مؤشرات الغلاء التي تنظمها السلطة. ولن تنتظم هذه العلاقة بين السلطة والنقابات إلا ضمن تشكيل المجلس الإقتصادي-الإجتماعي الذي يجسد إعترافاً من ارباب العمل بحق العمال لا في حصتهم العادلة من الإنتاج بل في حقهم المشروع في المشاركة في إتخاذ القرار، وفي رسم السياسة الإقتصادية، وإعترافاً من جانب الطبقة العاملة بأنّ واجبها لا ينحصر فحسب في ممارسة الضغط على السلطة وأرباب العمل من اجل تحسين شروط العمل والأجور والخدمات، بل يتعداه إلى البحث مع خصومهم الطبقيين في الطرق الآيلة إلى زيادة الإنتاج الوطني.
غير ان سياسة السلطة لا تبشر بإمكانية تصويب العلاقة مع النقابات، فهي بدل ان تخطو خطوة في هذا الإتجاه إبتعدت خطوات إلى الوراء في محاولة مفضوحة لتدمير الأطر النقابية وإستعدائها وتحطيم هيكلياتها، ولا تؤشر قرارات وزارة العمل على تشخيصها الصحيح لنواقص العمل النقابي بقدر ما تدل على سياسة ثأرية تسعى إلى إستبدال مواقع النفوذ بمواقع أخرى من غير معايير واضحة سوى تسلط السياسة على النقابات وتنصيب نقابيين من خارج العمل النقابي، بل من خارج القيم النقابية والديمقراطية تماماً كما حصل في معركة الوزارة مع نقابة مزارعي التبغ في الجنوب. فإذا كانت ذريعة الوزارة في حل النقابة الأولى مستندة إلى إدّعاء لا شرعيتها القانونية،ـ وهذا مخالف للواقع، فالنقابة التي (عيّنت) مكانها تفتقد إلى ابسط قواعد الشرعية النقابية والديمقراطية.
إنّ الشيوعيين مطالبون بإعادة النظر بسياساتهم النقابية بإتجاه إعطاء المزيد من الإستقلالية للنقابيين الحزبيين داخل اطرهم النقابية بما يضمن توفير مزيد من الديمقراطية في علاقاتهم مع قواعدهم النقابية وفي صياغة برامجهم، كما أنّهم مطالبون بالدفاع عن هذه الأطر ضد مخاطر التسلط السياسي الذي يمارسه اهل الحكم حفاظاً على التراث النقابي العريق الذي بناه العمال بتضحيات غالية وجهود مضنية، وضد مخاطر العمل النقابي الفوقي وذلك عبر توسيع القاعدة النقابية وجعل النقابات اكثر تمثيلاً.
ج- أمّا الأندية والجمعيات فقد كانت تفتقر إلى الديمقراطية، هي ايضاً، لأنّها كانت تخضع لإستقطابات سياسية حادة، الأمر الذي أوصلها إلى مأزقها خلال الحرب، ففقدت فاعليتها ودورها بفعل تسلط السياسة عليها. وحين إستفاقت هذه المؤسسات من غمرة الحرب وجدت نفسها مطالبة باستعادة دور ريادي لها، لكنّها اصطدمت هذه المرّة، بمحاولات من قوى السلطة لمصادرة دورها او لقمعها، كما حصل مع هيئات ثقافية عدّة او لممارسة الضغط عليها بهدف إلحاقها بقوى السلطة، يضاف إلى ذلك إستمرار التنافس الفئوي الحزبي الضيق داخل اطر هذه الهيئات.
وقد تضاعفت أزمة الديمقراطية في هذا المجال في ظل إقدام السلطة على إنشاء هيئات اهلية تابعة لها الأمر الذي يفقد هذا الحيز من المجتمع المدني صفته الطبيعية اي كونه مجموعة هيئات غير حكومية.
إنّ الشيوعيين يعتبرون تسلط السياسة على المؤسسات الثقافية والمثقفين مرضاً خطيراً ينبغي علاجه بمزيد من الإستقلالية داخل هذه الهيئات عن الأطر السياسية الرسمية والحزبية، بحيث تطلق الديمقراطية على مصراعيها داخل الهيئات الأهلية لإختيار قيادتها ورسم برامجها، بما يشجّع هذا القطاع على التطور، لأنّ تطوّره في هذا المنحى، هو وحده الكفيل بتعزيز الديمقراطية في المجتمع وفي بناء الدولة وكل منحى آخر مخالف لهذا يعتبر إنتهاكاً لأسس بناء الدولة العصرية التي ينشدها المواطنون.
د- الفساد الإداري:
إنّ جانباً من أزمة الدولة اللبنانية هو تفشي الفساد في صفوف الإدارة من خلال الروتين والمحسوبيات والرشاوى والمركزية وغير ذلك. غير ان هذا الفساد هو نتيجة لفساد اكبر يحميه ويبرره. ولئن كان حل هذه المسألة ينبغي ان يبدأ من إصلاح النظام السياسي أولاً، فإنّ الإدارة بحاجة إلى تطوير يتناسب مع معطيات العلم والتقنية والبرمجة.
هـ – الإنتخابات الديمقراطية:
بعد سنوات الحرب التي تعطلت فيها ممارسة حق الإنتخاب على كل المستويات تعود الحياة إلى عمليات التمثيل من المجلس النيابي إلى البلديات والمخاتير إلى الهيئات النقابية والمهنية إلى النوادي والجمعيات.
إنّ الإنتخابات بإعتبارها وسيلة بيد الناس لتفعيل دورهم في شؤون البلد، ولإدارة شؤونهم المحلية عبر إختيارهم لممثليهم او محاسبتهم، ينبغي ان تتجسد فيها القيم الديمقراطية بالكامل، وتتحرر من القيود والضواغط التي تفرغها من مضمونها.
إنّ القوانين التي تجري عليها الإنتخابات النيابية والبلدية والمحلية قوانين غير ديمقراطية. لأنّ هذه القوانين بإستنادها إلى الاساس الطائفي تفرق بين اللبنانيين، وتضعف الإنصهار الوطني، وتحول دون الإختيار الديمقراطي لممثلي الشعب في كافة المؤسسات التمثيلية. لهذا يدعو الشيوعيون إلى توسيع القاعدة التمثيلية لمؤسسات الحكم وذلك بتعديل قانون الإنتخابات النيابية على قاعدة إلغاء الطائفية منه، وإعتبار لبنان دائرة واحدة وإعتماد النسبية، وتخفيض سن الإقتراع إلى 18 سنة وإعتماد البطاقة الإنتخابية والإقتراع في مكان السكن.
كما يدعون إلى إعادة الإعتبار للهيئات التمثيلية في المناطق والأقضية والقرى والعمل على تنظيم الإنتخابات البلدية والإختيارية ورفض مبدأ التعيين لما لذلك من دور في تعزيز الديمقراطية وفي مشاركة الشعب في إدارة شؤونه المحلية وتعزيز اللامركزية الإدارية.
مقالات ذات صلة
الثورة وبرلمان 2022دروس انتخابية من تجربتي مع الحزب الشيوعي (1من 4)
دروس انتخابية من تجربتي مع الحزب الشيوعي (2/4)بداية الافتراق عن نهج القيادة
تحية حبّ لروح جورج حاوي