28 مارس، 2024

ماركسية … ماركسيات

مساهمة في ندوة المجلس الثقافي للبنان الجنوبي ، عن كتاب غسان الرفاعي : ماركس ، دون دوغمائية ودون تفريط          

ماركسية … ماركسيات

يقول ريمون آرون إن ماركس حقق بعد عام 1845 ، في كتابه الإيديولوجيا الألمانية ، قطيعة مع المرحلة السابقة من تفكيره . قبل هذا التاريخ كان ماركس فيلسوفا ، وبعده ، أصبح عالما .

ألتوسير يرى ، من جانبه ، أن ماركس أسس علما جديدا هو علم التشكيلات المجتمعية أو علم التاريخ ، وربما كان هو صاحب فكرة القطيعة الابيستيمولوجية التي تحققت مع كتاب الإيديولوجيا الألمانية لكنه يطلق عليها تسمية أخرى ، القطيعة التي رآها آرون حصلت بين الفيلسوف والعالم ، قال ألتوسير عنها أنها حصلت بين وعي إيديولوجي ووعي علمي .

ويقارن ألتوسير العمل الذي قام به ماركس بأهم الاكتشافات النظرية في تاريخ العلم ، فيرى أن اليونان افتتحوا قارة معرفية أولى هي الرياضيات ، وافتتح غاليليه قارة معرفية أخرى هي الفيزياء، فيما افتتح ماركس القارة العلمية الثالثة التي هي قارة التاريخ .

ويجمع قراء ماركس ومؤولوه ومفسروه الكبارعلى أنه وضع أسسا لعلم جديد، لواحد من العلوم الانسانية، من دون أن يحددوا بدقة حدود هذا العلم . بعضهم قال إنه أسس لعلم الاجتماع ولعلم الاقتصاد ولعلم التاريخ ، وهنري لوفيفر يرى أن المادية التاريخية تتضمن مسائل تتعلق بكل علم من العلوم الانسانية إذا ما أخذناه منفردا ولكنها لا تتطابق مع أي علم من هذه العلوم… ذلك أن الاستقصاء الماركسي يركز بحثه ومفاهيمه النظرية حول مسألة واحدة هي العلاقة الجدلية بين الانسان الاجتماعي الفاعل وبين أعماله العديدة المتباينة والمتناقضة …

أيا يكن الأمر ، يمكن القول بوحدة التفكير الماركسي بصدد كل المسائل التي تمس العلوم الانسانية المختلفة ، لكنها وحدة في منهج التفكير لا في مضمون تلك العلوم .

السؤال الذي طرح بعد انهيار الاشتراكية : ماذا تبقى من الماركسية ؟ ما هي حدود العلم الذي أنتجته وما هي حدود الفلسفة والإيديولوجيا ؟ وقد أجمعت الإجابات ، أو معظمها ، على أن التجربة السياسية في الاشتراكية بنيت على فلسفة ماركس لا على علمه ، على ماركس الإيديولوجي لا على ماركس العالم ، في حين استفادت العلوم الانسانية كلها ، في الاقتصاد والتاريخ والاجتماع ، وكذلك في علم النفس وحتى في الدراسات الادبية والفنية من المادية التاريخية ، فيما عجزت السياسية عن استثمار هذا العلم استثمارا ناجحا  ، ما فتح الباب واسعا أمام نقد ضرب بسيفه الماركسية السياسية الفلسفية الإيديولوجية ، ولم يكتف بذلك بل شمل العلم أيضا .

هذا هو بالضبط ما حدا بغسان الرفاعي إلى نشر كتابه ” ماركس، دون دوغمائية ودون تفريط” عارضا فيه مرافعته عن الماركسية في مواجهة النقد الذي لم يتوقف عند حدود النقد بل تجاوزها إلى ” إعلان نهاية الماركسية ” أو النقد الذي “تناول الماركسية بإجحاف” أو النقد الذي يؤدي إلى “تقويض الأساس الفكري للماركسية : أي محاولة تقويض المنطلق والأساس الفلسفي ، المادي الديالكتيكي التي يستوحيه” ، أو النقد الذي يرى أن عرض ماركس للتاريخ قد ” اكتسب شيئا من ملامح الغبش الصوفي للهيغلية ، وبخاصة فكرة وجود غائية في التاريخ ، أي كأن التاريخ هو ذات تعي نفسها ، وهي فكرة انتقدها الماركسيون عموما ، لأنها فكرة زائلة” ، وصولا إلى النقد الذي رآه غسان بمثابة فكر ” تجزيئي تجريبي من شأنه إلغاء فكرة التعميم والفهم الشمولي ، إي إلغاء التفكير الفلسفي ، في أحسن الحالات ، لمصلحة علم الاجتماع ( السوسيولوجيا) “( اقتباسات من غسان)

لم يكن الدفاع عن الماركسية حافزه الوحيد . إلى جانب هذه المهمة الجليلة ، كان غسان الرفاعي حريصا على فتح أفق أمام النضال الثوري ، معتبرا أن نقد النقد من شأنه إزالة ” إحدى العقبات الرئيسية أمام عملية إعادة بناء اليسار الجديد” ، سعيا وراء “معالجة أسباب أزمة اليسار وتقديم إسهام نضالي للخروج منها”

مادة النقاش في كتاب غسان الرفاعي هي كتاب آخر وضعه الماركسي العراقي فالح عبد الجبار . ومع أن النصوص أو العبارات التي يتناولها غسان بالنقد يضعها بين مزدوجين ، إلا أنه لا يشير إلى الكتاب الذي أخذت منه ولا إلى اسم صاحب الكتاب . كتاب فالح هو الآخر عن الماركسية وعنوانه : ما بعد ماركس ، وكلاهما صادر عن دار الفارابي.

لا أجيز لنفسي أن أكون حكما بين استاذين كبيرين . غسان الرفاعي الثمانيني، الشيوعي منذ أكثر من سبعين عاما وعضو المكتب السياسي في الحزب الشيوعي اللبناني على امتداد أربعين عاما ، وفالح عبد الجبار الذي انتهى البارحة من ترجمة كتاب رأس المال وأصدرها عن دار الفارابي . لكنني أجيز لنفسي القول بأن نقاط الالتقاء الكثيرة بين أفكارهما النقدية حالت دون إبراز التباينات بينهما بوضوح . ذلك أنهما متفقان على نقد الماركسية السوفياتية ، وعلى “مشروعية الانتقادات التي يمكن أن توجه إلى التفسيرات الجامدة ، الميكانيكية ، لتعاقب أنماط تطور المجتمعات البشرية ، وعلى عدم جواز تحويل المادية التاريخية الديالكتيكية إلى قوالب جامدة .. وتحجر فكري ، وعلى أن  السوفياتية النظرية حرفت نظرية ماركس عن الرأسمالية وشوهتها ” . وقد حدد غسان بنفسه المشكلة التي عصفت بالماركسية بعد سقوط التجربة الاشتراكية بقوله : ” محنة الماركسية المعاصرة ، عندنا ، أنها باتت تتقاذفها الدوغمائية من جهة ، وبعض التيارات الاجتهادية التجديدية التي لم تستكمل ، كما ينبغي ، قواعد المتابعة العلمية ، من جهة ثانية ” (ص164). علام هما مختلفان إذن ؟

يخشى غسان على الماركسية من “التيارات الاجتهادية التي لم تستكمل ، كما ينبغي ، قواعد المتابعة العلمية ” ، ولا سيما في تلك الجوانب من الماركسية التي يمكن أن تكون حمالة أوجه . فإذا كانت الماركسية تنطوي على علم وعلى فلسفة وإيديولوجيا ، وعلى منهج في التفكير ، فإن الخلاف لن يكون على تحديد ماهية العلم ، بما هو علم المادية التاريخية والديالكتيك ، بل على شروط استخدامه وتوظيفه وخصوصا في الركن الثالث من الترسيمة الماركسية ، أي الاشتراكية العلمية . لذلك نحا غسان نحو نقاش ” تشوبه شبهة فلسفية ” ، تناول فيه قضايا مطروحة في كلاسيكيات الماركسية كأولوية المادة على الوعي ، والربط الموضوعي بين تطور العلوم  وتطور الفلسفة ، ونظام الاشارات والرموز واللغة ، ودور الدماغ ككتلة مادية ، والعلاقة بين الواقع وانعكاسه في الذهن ، الخ .  وهنا بالضبط يبرز الاختلاف المنهجي في مقاربة القضايا ، إذ يبدو غسان مرتابا من المناهج الجديدة التي قلصت مجال عمل الفلسفة وجعلت المنهج علما مستقلا عن الفلسفة ، وعن نظرية المعرفة ،الإبستيمولوجيا ، بحجة أنه ” بات لكل علم منهجه” ، ما يجعلنا ” أمام إعلان صريح ب”إلغاء”  الفلسفة ” التي يتحدد دورها باكتشاف القوانين الأعم والأشمل في تطور الطبيعة والمجمتع والفكر، استنادا إلى اكتشافات العلوم الاختصاصية تحديدا” ( ص60).

إلغاء الفلسفة لصالح علم الاجتماع هو خوف على وحدة العلوم التي لا تتحقق ، في نظر غسان إلا في كنف الفلسفة . وهذه وجهة نظر ربما تكون الابستيمولوجيا قد تجاوزتها  .

القسم الثاني من الكتاب يتناول قضية العولمة وفيه يتوارى السجال مع فالح عبد الجبار ليظهر مع سواه ، فيبدو متصالحا معه ومتفقا على ضرورة تجديد النظر إلى الرأسمالية المعولمة ، انطلاقا من منهجية ماركس الديالكتيكية التاريخية وعلى أساسها، مع الأخذ بالاعتبار أن ” رأسمالية أيامنا هذه ، رأسمالية العولمة ، لها سمات ومعالم جديدة ، تختلف عن الرأسمالية التي بحثها ماركس ، وعن الرأسمالية التي واجهتها التجربة السوفياتية …” ، ويتفقان على أن البحث في هذا المجال “يصطدم بعقبات فكرية وسياسية تنتجها التفسيرات المتحجرة لفكر ماركس ، التي تضفي عليها صفة الاطلاق، باسم المبدئية “

إذا كانت النظرية ، كل نظرية، قائمة على علم وقوانين ، فإن استبدالها بعلوم تجريبية يعني عدم اعتراف بعلميتها وبعلمية قوانينها . هذا كان أحد المخاوف من نقد جامح أثارت جرأته ريبة غسان ، الذي يقبل بأن توضع موضع النقاش كل المفاهيم الإجرائية : البنية التحتية ، البنية الفوقية ، علاقات الانتاج ، القوى المنتجة ، أشكال الوعي ، التعبير الايديولوجي عن موقعها في علاقات الانتاج ، التشكيلة الاجتماعية، الثورة، الصراع الطبقي، لكنه لا يقبل بأن تكون الماركسية بقوانينها العلمية ، كنظرية ، موضع شك .

ما أثار ريبة غسان في نقد فالح الجريء هو استخدام عبارات حادة ومثيرة أحيانا  . أسوق على سبيل المثال كلاما عن الدولة ، صحيحا في مضمونه ومثيرا في صياغته. يقول فالح : “لم يتسن الوقت لماركس كي يضع مؤلفه الخاص في الدولة وبقي مشروعه ناقصا”. ويقول في مكان آخر، “الميزة الأخرى لتعميمات ماركس أنها محدودة في الزمان والمكان ، فهي تتمحور بدرجة أساسية على القرن التاسع عشر في كل من ألمانيا وفرنسا وبريطانيا”…. ويستكمل أحكامه في كلام عن لينين وكتابه ” الدولة والثورة ” يقول فيه : “لعلني أصدم القارئ في طريقة النظر إلى هذا الكتيب ، ذلك  أن أهميته تكمن في انعدام أهميته النظرية والعملية “.

هل من فائدة من هذا السجال بين الماركسيين ؟ هل هو من قبيل الترف النظري ؟ هل يصل هذا السجال إلى حيث ينبغي أن يصل ؟ هل المطلوب قراءة الماركسية مجددا ، أم قراءتها أولا ؟؟ طبعا، كل نقاش مفيد حتى لو انحصر بين النخب ، وحتى لو كان في أكثر الأطر ضيقا . فهل هناك أضيق من المختبرات التي يكتفي فيها الباحث بمحاورة نفسه ؟ ولكن !

السواد الأعظم منا ، نحن الماركسيين ، ينطبق علينا قول الدكتور حسان قبيسي في كتابه ” المتن والهامش” . حين سأله الصحافي ” لماذا غادرت الماركسية ” أجابه بكلام على لسان اسحق دويتشر “المؤرخ اللينيني الكبير” عن تجربته مع كتاب رأس المال،  قال دويتشر :

” إن طريقة ماركس في عرض المشكلات كانت تبدو لي على جانب كبير من البطء والدقة . خاصة بالنسبة لشخص مثلي يتشوق بفارغ الصبر لفهم العالم وتغييره بالسرعة القصوى ، لكنني ما لبثت أن وجدت بعض العزاء حين علمت أن دازيفسكي النائب والخطيب المفوه ورائد الاشتراكية كان يعترف بأن ” رأس المال” عسير جدا على الفهم ، ويتباهى بقولته : الحقيقة أنني لم أقرأ رأس المال لكن كارل كاوتسكي قرأه ووضع له تلخيصا أقرب إلى الإفهام . غير أني لم أقرأ تلخيص كاوتسكي هو الأخر ، بل إن كليس كراوس قرأ كاوتسكي ولخص تلخيصه ، وأنا لم أقرأ تلخيص كليس كلاوس ، لكن ذلك اليهودي الذكي هرمان ديامند ، خبيرنا المالي ، قرأ كراوس وأخبرني بكل ما ينبغي أن أعرفه حول الموضوع”.

وأخيرا ، هناك نقطة وعدنا غسان بالحديث المفصل عنها ، وهي تتعلق بالدولة . أما فالح فقد تحدث عنها بإسهاب ، وكان سمير أمين قد أشار إليها بكلمة مقتضبه مفادها ، أن ماركس قدم صورة مفصلة عن الاقتصاد الرأسمالي وأجاز لنا تلخيص آلياته بشعار : السلعة صنم . وعلى الماركسيين أن يستكملوا ماركس بكلام مفصل عن البنية السياسية في الرأسمالية التي يمكن تلخيصها بشعار ، السلطة صنم . وقد سمحت لنفسي أن أكتب مقالة في الموضوع تحت عنوان ، الماركسيون بين اضمحلال الدولة والقضاء عليها ، قلت فيه ، إن التحدي أمام اليسار الجديد يكمن في سؤال التجديد الممكن بعد انهيار التجربة الاشتراكية : أوطاننا مهددة بالانهيار ولا سبيل إلى إعادة بنائها موحدة إلا في ظل دولة القانون والمؤسسات ، أي النموذج الدولتي الذي نشأ مع الحضارة الرأسمالية ، فهل يقبل الشيوعيون والماركسيون تحدي أن يكونوا على رأس حملة نضالية  لبناء دولة رأسمالية أو أن يشاركوا في بنائها ، إسهاما منهم في تحضير التاريخ للانفتاح على حضارة جديدة كان ماركس قد استشرف معالمها وسماها الاشتراكية ؟

قلنا ذلك في المقالة منذ خمسة عشر عاما ، ونعيد قوله الآن ، ليس من قبيل الاعتراض على الاستشراف الماركسي ، بل من قبيل تأكيده . ذلك أن البشرية لم تكن في حاجة إلى مثل هذا الاستشراف حاجتها اليوم إليه.

شكرا لغسان الرفاعي ، الثمانيني الشاب ، الذي ما زال مثابرا وسباقا وحاضر الذهن ، وقادرا على إثارة الأسئلة وعلى تحريك عقولنا بحثا عن أجوبة وحلول.