25 أبريل، 2024

انكسارات صبي

رواية لنديم نجدي

مساهمة في نقاش الرواية في ندوة المجلس الثقافي للبنان الجنوبي

رواية نديم نجدي نص جميل وغني . جميل بلغة تتميز بالأناقة وغزارة المفردات وتنوع أشكال التعبير ، وغني بما ينطوي عليه من صور اجتماعية وثقافية ونفسية وفلسفية وسياسية وحزبية من شأنها أن تشكل لوحة تفصيلية عن الحياة في لبنان خلال الحرب وفي أيام السلم .

الحكاية الواردة في متن الرواية بسيطة جدا. صبي يدخل تلميذا في مؤسسة خيرية للأيتام ، مع أنه لم يكن يتيما، ينتقل مراهقا إلى الدراسة الثانوية ، يرجئ استكمال دراسته الجامعية ليلتحق بالمقاومة الوطنية مناضلا ثم معتقلا ، وينتهي به المطاف في خيبة وإحباط ومرارة من الحرب ، ومهاجرا ابتلعته إفريقيا وغيبته في مجاهلها.

الحكاية موزعة على اثني عشر فصلا لا تحمل عناوين بل أرقاما فحسب . البداية في الفصل الأول مع موسى، بطل الرواية ، جالسا في حضن والده داخل سيارة الأجرة التي أقلته إلى القسم الداخلي في مؤسسة تربوية خاصة تعنى بالأيتام .

 الفصل الثاني استرجاعي يتذكر فيه موسى ، وهو في القسم الداخلي من المدرسة ،  شقاوة أولاد الضيعة ومغامراتهم في البراري أو بين بيوت الحارات .

 في الثالث ينتقل موسى إلى إحدى مدارس الارساليات المسيحية ويعيش مع زمرة الدراسة شقاوة التبرم من القوانين الصارمة في المؤسسة الرهبانية والتمرد على أنظمتها وعدم الانصياع إليها .

في الرابع ، يعود إلى قريته ليتفاجأ بغياب أخيه الذي رافق الفدائيين في رحلة غامضة ولم يعد .

في الخامس كان موسى قد بلغ الرابعة عشرة من العمر ، وكانت الحرب الأهلية في بداياتها، دعا شلة من زملائه المراهقين من رفاق المدرسة وجربوا حظهم في عملية عسكرية أشبه بلعب الأطفال أطلقوا فيها النار عشوائيا متوهمين أنهم صوبوا باتجاه موقع لقوات الأمم المتحدة وعادوا سالمين.

في السادس شارك في عمليات عسكرية ، من بينها حين كان مع رفيقيه عمار وأياد . عادوا سالمين إلا من  جرح في كتف عمار ، ثم في أخرى مع  مجموعة تضم في صفوفها رفيقة صبية مناضلة ، نفذوا عملية ناجحة ، وفي ثالثة ورابعة وخامسة ، إلى أن استشهد عمار واعتقل موسى .

في السابع بدأ العمر يعود أدراج الذكريات والمراجعة . موسى يشاهد صورة رفيقه رضوان معلقة في الضاحية الجنوبية مع صور الشهداء . زار عائلته وتبادلا الدعوة إلى وليمة    

في الثامن صار موسى مسؤولا عن حياة أسيرين من القوات اللبنانية وتصرف بقناعاته العلمانية فحماهما ، وحملته مخيلته على التفكير في الذين يحملون السلاح على الضفة الأخرى ومن بينهم رفيق دراسة في المدرسة الإرسالية صادف أن أحد الأسيرين يعرف رقم هاتفه . كانت مناسبة ليقطع خطوط التماس ويقيم ليلة عند رفيق الدراسة الابتدائية ومناسبة للمراجعة وإعادة القراءة بعين نقدية .لكن الحرب لم تتراجع وسقط من بين من سقطوا مضيفه ورفيق طفولته في المدرسة جوزف حنا الطنوش ، ذاك الذي زاره في المنطقة الشرقية يوم كانت الحرب في أوج لظاها.

في التاسع ، استمرت المراجعة. أحد كسالى المدرسة الابتدائية صار من الاغنياء والوجهاء ،  التقاه موسى في عرس درزي فأعاده بالذاكرة إلى المدرسة ودفعه إلى زيارتها ليتأكد من إدارتها بأن هذا المنتقل من الخسة والوضاعة إلى الوجاهة هو الذي تكفل بتجهيز مقر جمعية خريجي المدرسة على نفقته، وهو الذي صار بعد مدة رئيساً شرفياً لعشر منظمات غير حكومية. بعد أن استسلم موسى ل”قدر حاجته إلى واسطة رجل نافذ” . خذله حديث النعمة هذا وخاب أمله من هذا “اللاإنصاف في حياة تعج بالمفارقات…” وراح يفكر بالهجرة .

في العاشر هاجر موسى إلى إفريقيا وراح في الأيام الأولى يسترجع شريط ذكرياته اللبنانية ليعقد المقارنة بين حياته اللبنانية وتلك الجديدة بين الزنوج. حنينه إلى الوطن دفعه إلى العودة ، وصعوبات الحياة في الوطن دفعته إلى الهجرة مجددا إلى نيجيريا.

في الحادي عشر راح يسترجع في مخيلته ،وهو في نيجيريا ، قصة حبه مع فتاة اسمها ديمة في لبنان.

في الثاني عشر قصة حب جديدة مع سيدة لبنانية أرمل في إفريقيا تكبره بسنوات ينتهي منها هائما على وجهه في مجاهل القارة السوداء .

هذه هي الحكاية . بل هي تشويه الرواية ومسخها ، لأنها ليست سوى هيكلها العظمي. من يطلع عليها ير كيف اكتسى هذا الهيكل الجامد ، بقلم جميل ولغة سلسة ، جسدا ممتلئا وألبسة زاهية الألوان . جسد من الصور والأحداث والوقائع والتحليلات ، تمتد من شيطنات الصبيان في الحقول والأرياف وبين أزقة القرى وطرقاتها الموحلة والأفاعي والدبابير والمغاور المرعبة وصيد العصافير وحكايات الجن ، وتنتهي بنقد يتشفى من الحرب وشرورها ويتطهر من آفاتها ، مرورا بكل شي ، كل شيء ، الرهبنة ونظامها التعليمي، الطوائف والأديان والمعتقدات والطقوس والبيوت المسكونة والتداوي بالأعشاب وقراءة الكف والأبراج … قيم الحرب وقيم السلم ، الصداقات التي اخترقت الطوائف والأحزاب،الأحزاب التي اخترقت المناطق والمذاهب، الأعراس،المآتم، الطبقات، المآدب، المؤسسات الخيرية، المجتمع المدني، الوظيفة، الوطنية، الانعزالية، الهجرة ، الزنوج ، العنصرية ، الحب ، العشق ، الزواج ، الهيام ، الضياع ، التصوف ، التقمص ، الخ ، الخ .

كان هذا غنى الرواية ونقطة ضعفها . كأن نديماً أراد أن يحشر فيها كل شيء ، ففاض محمولها من المعلومات والوقائع والأحداث عن طاقة رواية واحدة ، وتوزع هذا المحمول على عدد من شخصيات عديدة فلم يسمح لأي منها أن يتحول إلى بطل في الرواية ، كما حرم البطل الرئيسي موسى من اكتمال ملامحه ووضوح صورته ، فلم ترتسم له شخصية تميزه عن سواه ، إلا في كونه الوحيد الذي احتكر الحضور في كل فصول الرواية . وكان من الممكن استبدال موسى بأي من رفاقه الآخرين ، جورج ، جوزيف ، رضوان ، شكيب ، عمار، فداء ، ليلى ، جورجيت لولا اختلافات في السياسة جعلت بعضهم شرقي خطوط التماس وبعضهم الآخر غربها ، لكنها اختلافات لا تعدو كونها الوجه والقفا من صورة اللبناني من هذا الجيل الذي انخرط في حرب خيّرته عند نهايتها بين الموت والهجرة والخيبة .

اختار نديم أن يطابق بين زمن الحكاية وزمن القص ، فجعل فصولها تتسلسل بالتوازي مع حياة الشخصيات العديدة فيها بحسب تسلسلها الزمني ، من الدراسة الابتدائية إلى الثانوية والجامعية ، ومن لعبة الحرب بين أولاد الحي أو رفاق الصف إلى لعبة الحرب الدموية والسلاح الناري إلى الهجرة . كان زمن الحكاية ، زمن العمر ينمو وحده تاركا أحداث الرواية  تتراكم أو تتراصف فوق بعضها من غير أن تتفاعل وتنمو ، ولذلك كان يمكن أن يضاف إلى فصول الرواية فصل أو أكثر  أو يحذف منها فصل أو أكثر ،  من غير أن يؤثر ذلك على سياقها العام .

الحكاية في الزمن تبدأ من طفولة موسى ، أما الرواية في الكتاب فتبدأ من لحظة أخرى  ، من اللحظة التي كان يمكن أن يبدأ حدث مشوق : علاقة حب  جارف مثلا أو مغامرة عسكرية. لكن الرواية ، بدل أن تفعل ذلك راحت تسطح الأحداث ولا تسمح لها أن تحفر في نفس القارء ، فألمحت  مثلا إلى مصير سليمان الغامض في الفصول الأولى ، ثم أطفأت ظمأ القارئ لمعرفته وجعلته طي النسيان ، ثم راحت تفتعل مناسبة لتكشف النقاب عنه في لحظة استرجاعية لزمن الحكاية، لكن بعد أن يكون القارئ قد فقد فضوله لمعرفة مصيره . في المقابل ، أرجئت علاقة الحب التي كان يمكن أن تشكل عصب الرواية إلى فصلها الأخير، حين نشأت بين موسى وسيدة لبنانية في نيجيريا علاقة حميمة كان يحتاج كل منهما إليها ، غير أن الرواية لم تعط لهذا الحب فرصة زمنية للنمو لأنه شكل خاتمتها الحزينة ، مع تمهيد حزين هو الآخر  تمثل ، في الفصل ما قبل الأخير ، باسترجاع علاقة حب جميلة عاشها موسى مع ديمة قبل أن يغادر الوطن إلى إفريقيا لسبب غير منطقي . فهل من المنطقي أن يكون سببا كافيا لهروبه من لبنان ” كون نايف ، رفيق المدرسة الكسول والخسيس ، صار بهذا الاقتدار والأهمية” ؟ هل يكفي هذا ليسدل الستار على وطنه ويمضي ؟ وهل تكفي الخيبة من الحرب والأحزاب والسياسة ليهاجر بحثا عن مورد رزق في إفريقيا ويتخلى عن وظيفته كأستاذ في التعليم الثانوي ؟

الرواية غنية بالتحليلات العميقة والمفيدة والجميلة . بعضها نقد مفيد لتجربة الحرب وتبرؤ منها ، وبعضها تعبير عن ميل لدى الكاتب يشده نحو التحليل الفلسفي والنفسي .فالرواية ملأى بمفردات التحليل النفسي وبمقاطع التحليل النفسي، لأن مستقبل البشر ، في نظره ، ” يرتسم في مآلات الطفولة وظروفها ” ، ولهذا رأى أن ” مآل التبدل في شخصية محدثه لها علاقة بعقدة ذنب ، قلبت شكيب المفعم بالحيوية والانفعال إلى شكيب الورع والزاهد في حياة الدنيا” ، ولهذا أيضا ، فإن فداء، “كان مصابا على الأرجح بداء ظمأ عاطفي عمره من عمر ولادته ، بعد أن تركته أمه في عهدة جده … وإلا لما كان ليأخذه الهوس بالشهرة والنجومية إلى حد خطفه طائرة إسبانية …” ولهذا أيضا فإن موسى هو الآخر مصاب ” بقحط عاطفي عتيق من جراء طفولة معذبة … فالانضباط الصارم بممنوعات طفولة محرومة من حنان الأم دفعت به إلى الغفو في حضن امرأة غير إمه … “

على أن ذروة تحليلاته الجميلة تلك التي ساق فيها نقدا للحرب ولتجربته في الانتماء إلى الشيوعية والفكر الماركسي . انتهى في نقده للحرب إلى دعوة المتقاتلين للجلوس إلى طاولة مصارحة ، يلفت فيها سمع أنصار الجبهة اللبنانية إلى أنهم بالغوا بسلخ لبنان من محيطه العربي ، وسمع أنصار اليسار إلى أنهم غالوا في إقحام لبنان في الصراعات الاقليمية وفي توهمهم بوحدة عربية ” ليست متوافرة إلا في رؤوس إيديولوجيي اليسار والقوميين العرب ” . كما انتهى في نقده للتجربة الحزبية إلى أن الشيوعية هي ” في أسوأ الأحوال مناطة بأصحاب الرؤوس اليابسة والحلول السهلة ، لهذا استقطبت هذا الصنف من الناس كي تحول عنادهم الفطري إلى عناد ثوري ، يسوغ اطمئنانهم إلى حل جذري تام لمشاكل الدنيا وتعقيدات الحياة كلها ” ، ليلتقي مع جان باشلر في قوله إن الإيدولوجية في الماركسية هي وعد للمظلومين بتحقيق عدالة مستحيلة ، وإلا فيكف ” نفسر رواج الشيوعية في أوساط المعدمين ، ممن لا تتوافر لديهم المؤهلات ولا القدرات الكفيلة بتفكيك شيفرة المغزى الاقتصادي لتحفة ماركس في كتابه رأس المال؟ ”  

كان يمكن للتحليلات العميقة والمفيدة  والجميلة التي توزعت في أرجاء الرواية أن تشد من أزر السرد لو كان اختار الراوي حبكة أخرى لروايته ، كأن يختار مثلا زمنا للقص مختلفا عن زمن الحكاية ، أو كأن يبدأ روايته من إفريقيا مثلا ، وبالتحديد من فصلها الأخير ،أو من فصلها الثامن الذي دشن فيه مرحلة التذكر، وأن يجعل هذه اللحظة بمثابة مركز الدائرة في أشعة استرجاعية يعدو بعضها إلى الطفولة وبعضها إلى مرحلة الدراسة وبعضها إلى مرحلة الحرب وبعضها إلى العلاقات الغرامية المراهقة أو الجدية ، ما يسمح له بأن يرسم ملامح شخصياته بصورة معمقة فيبقيها محفورة في ذاكرة القارئ ، وما يتيح للحدث بأن ينمو ليزيد من منسوب التشويق من خلال اللعب بالزمن

الكاتب يبني عمله الإبداعي متماسكا أما النقد ، الإيجابي منه والسلبي ،  فيأتي ليقرأه مفككا . لا تنزعج يا صديقي من التفكيك ، فهذه هي ضريبة المبدع للنقد الذي ، أيا تكن قدرته ،  ليس له أن يكون سوى طحلب ينمو على جذع الإبداع .