18 أبريل، 2024

سنابل محمد فرحات

يسعدني أن أقف بينكم لأشارك في تكريم مبدع من أهل القلم في بلادي. إن كرمناه فنحن نكرم فيه أهل العلم والأدب، وما أكثر الذين يستحقون التكريم من أهل قريتي. لائحة طويلة تبدأ بأوائل المتعلمين وخريجي الجامعة، رحم الله الأموات منهم وأطال الله بأعمار الأحياء،علي حمد الشامي، علي ابراهيم درويش، شبيب مقلد، عاطف مقلد، علي رضا مقلد، موسى دويك، عبد الحسين دويك، أحمد دويك،  صبحي مشورب، بطرس خواجة. وتنتهي البارحة بسامر عادل دويك الذي شرف القرية بنيله شهادة الدكتوراه في الرياضيات من فرنسا، وقبله بقليل ميساء حسن مقلد التي حصلت على براءة اختراع في الطب من الولايات المتحدة الأميركية وعلى الطريق العشرات، من بينهم صوفيا محمد فرحات التي تعد أطروحة الدكتوراه في التاريخ والعلوم السياسية من السوربون في باريس.

عددت الأوائل والأواخر وبينهم مئات الأسماء ممن رفعوا اسم جرجوع عالياً، وجعلوها القرية الأولى من حيث عدد المتعلمين فيها الحائزين على شهادات عليا في الطب والهندسة والمحاماة والعلوم والعلوم الإنسانية. في التسعينات من القرن الماضي، أي منذ عشرين عاماً، اقترحت أن تتولى بلديات جرجوع وحومين وعربصاليم، بالتعاون مع الحكومة اللبنانية والهيئات الدولية، إقامة مدينة كشفية رياضية في عرض الخروب،(وها أنا الآن أجدد اقتراحي، وأضع نفسي في تصرف بلديتنا لتنفيذ هذا المشروع) وأحصيت، بمساعدة من لهم تواصل واسع مع المقيمين في القرية  أو في بيروت أو في بلاد الاغتراب، عدد المهندسين من جرجوع، من كافة الاختصاصات، ممن يمكن أن يشاركوا في وضع تصميم لهذا المشروع، من البنية التحتية إلى التشجير والبناء والإنارة وكل ما له علاقة بالمدن الرياضية. يومذاك بلغ عدد الذين نعرفهم من مهندسينا أكثر من مئة وخمسين  مهندساً.

العلم هو ثروتنا الحقيقية. كل ما عداه من أموال منقولة وأموال غير منقولة وشركات وأسهم في البورصة إلى زوال. بالعلم وحده ننتصر على آفاتنا وأمراضنا المستعصية، وبالعلم وحده ينتصر أعداؤنا علينا. حين أقفلت بيوت الحكمة في  بغداد وأحرقت كتب ابن رشد في المغرب، انهارت الخلافة العربية الاسلامية وعشش الجهل في العقول وسادت شريعة الغاب حتى وصل بهم الأمر إلى أن حطموا البارحة تمثال أبي العلاء المعري في المعرة وهدموا قبل البارحة تماثيل بوذا في أفغانستان.

في كتاب محمد تاريخ لهذا الجيل الرائع، جيل آبائنا الفلاحين الذين بذلوا الغالي والرخيص لكي يتعلم أولادهم. من أيام المعلم أسعد، معلم الآباء، إلى أيام محمد فضل مقلد معلم الأحفاد وموكب العلم لم يتوقف. أبو علي، والد محمد له في الكتاب حصة كبيرة، ويوسف جده له حصة أكبر، ومحمد يعطي في كتابه درساً في مكارم الأخلاق حين يكتب باعتزاز عن جده العتال، الذي أمضى حياته في العمل المضني لكي يتعلم أحفاده، أو عن جده المزارع الذي قضى عمره وراء المحراث لتأمين القوت لأولاده في المدرسة. نحن مثلك يا محمد، نعتز بانتمائنا إلى أبو عاطف الفلاح وإلى أبو علي المزارع الذي لقبته بطبيب الشجرة الجراح الذي تعلمنا منه  ومن أهلنا الفلاحين إباء وعزة نفس لا يملكهما من يملك ثروات الأرض، وتعلمنا منهم صبراً على الفقر وعلى مقاومة العوز ، وعلى مجابهة الظلم ، وكان ذلك كله ذخيرة للجيل الذي قاوم الاحتلال ودحر الغزاة. وتعلمنا منهم  الفروسية من غير أن يملكوا فرسا ولا جاه الفرسان.

أبو علي كان طبيب الشجرة الجراح . مبضعه لا يخطئ ، وسكينه مع البراعم مثل القلم في يد الشاعر أو الريشة في يد الرسام أو الإزميل في يد النحات . يعرف مواقيت الشجرة ، وتبوح له بأسرارها، وتأنس البراعم لدفء أنامله . مثل الطبيب أو المهندس وعدتهما في حقيبة ، كانت عدته على خصره أو في جيبه ، يلبي نداءات البساتين والفلاحين ، ويقول لمولود الشجرة الجديد  كن فيكون: أنت في الربيع وذاك في أول الصيف ، وفي كل عام ثمر وخصب ، ومن خصبه وثمره أتى يوسف ومحمد برعمين صغيرين، وأصبحا شجراً وارفاً من دفء حبه ومن مدرسته ومن الجامعات والعمل الناجح.

أنا أعتز بك يا محمد صديقاً وفياً ورفيقاً أبياً

كان معتقلك مسيجاً بالأسلاك الشائكة، فيما كنا نحن في الحرية غارقين في شوك من نوع آخر، في القضايا الشائكة. ولا تحسبن شوك القضية أقل إيلاماً من شوك المعتقل. تخيل أن عنصراً في القوات اللبنانية التي كنا نقاتلها في حينه هو الذي أنقذني من اغتيال محقق، وأن شقيقه، شقيقه من أمه وأبيه، جاء ليستولي على منزلي غداة مغادرتي إياه.

تخيلت في ما كتبته عن المعتقل أنك لم تكن تكتب عن معتقلك بل عن معتقلنا الحر. رحت تكتب ما علمتك إياه تجربة الاعتقال. لم نتعلم نحن في معتقلنا الحر أننا كنا نقاتل نيابة عن سوانا. نحن في الحركة الوطنية نيابة عن الفلسطينيين وإخواننا في حركة أمل وحلفاؤها نيابة عن سوريا. لكنكم داخل الأسلاك جسدتم وحدة النضال ضد عدو واحد هو العدو الصهيوني.

حين قرأت نصوصك الأولى عن المعتقل تذكرت أول كتاب قرأناه عن بطولات المقاومين، وكان عنوانه، مع المقاتلين الفيتكونغ. لكن الفيتكونغ كانوا حزباً صافياً، أما أنت فقد علمك المعتقل أن الحزب الصافي، كل حزب صاف، هو حزب أناني، يقاتل بصدق، لكنه يقاتل لنفسه لا لشعبه، أو أنه، وهذه هي حالنا، يظن أنه يقاتل من أجل شعبه فيما هو لا يقاتل إلا من أجل مشروعه الحزبي.

كتابتك عن المعتقل علّمتنا الكثير. نحن رفاقك يا محمد نعتز بك مناضلاً وفياً لمبادئك وقيمك الجميلة. تعلمنا منك كيف استطعت أن تجمع في شخصك وفاء المناضل لمبادئه وقيمه ولرفاقه في الخنادق أو في خيمة الاعتقال، وشجاعة خفيفة الظل  في قراءة التجربة، في نقد تجربتك وتجربة الحزب، وتعلمنا منك كيف يمكن أن يخرج المناضل من تجربة فاشلة معافى وفي صحة جسدية وعقلية جيدة.

علاقة صداقة مع محمد بناها آباؤنا و أجدادنا ، و علاقة رفاقية بنيناها معاً وحاولنا معا أن ننقذها من السقوط، ونأمل أن تستمر التجربة الجميلة هذه مع الأولاد والأحفاد.