28 مارس، 2024

قراءة في رواية هدى عيد

 ( الحياة  في الزمن الضائع )

   ليس هذا نقدا لرواية هدى عيد ، الحياة في الزمن الضائع . إنه احتفاء بها وبصاحبتها  . ولا نعتقد أن الاحتفاء جاء متأخرا ، ولو أن الرواية ليست الأولى ، بل الثانية بعد رواية ، في بلاد الدخان .  فكل عمل جديد هو مولود جديد ، ولكل مكان ، على رأي إبن الرومي ، لا يسد اختلاله مكان أخيه …

ليس نقدا لأن العمل الإبداعي أجمل من كل نقد . بل لأن النقد إبن الكتابة العاق ، لا يعلم الفن والابداع  بل الانتهازية . فهو ما إن يرى تحفة فنية حتى يتسلق عليها فيقتات من ألقها .

الناقد كالتاجر ، هو سمسار بين المبدع والمتلقي ، هو الوسيط . والابداع لا يحتاج إلى وسيط لكي يتوهج ويشعشع ، على ما يقول الشاعر ، كالمدن الساهرة .الفن يتسلل إلى النفس بلا وسيط .

ربما لأنني أكره السمسرة والانتهازية ، أقلعت عن النقد ، ورحت أعلم طلابي مناهج النقد وأنصحهم ألا يمارسوه .

ما سأتلوه هو إغراء لكم لقراءة هذه الرواية الجميلة . إنها ترميكم في قلق من كل شيء . تكدس أسئلة فوق أسئلة وتترككم في بحر من حيرة يغمر كل شيء ، تجعلكم تمضون في رحلة الشك بأنفسكم وبأزواجكم وبأولادكم ، وبالحضارة والتاريخ والمستقبل . لا شيء يرضي المرأة ، ” ما الذي تريده النساء ، هذه المخلوقات العجيبة التي لا تعرف الاكتفاء …؟ ” هكذا تقول الرواية .

غير أن هذا الشك الوجودي ليس سوى دعوة لكم ، لتتفكروا بشكاوى المرء من أحوال المجتمع وقوانينه وعاداته وتقاليده وطقوسه . المرأة مخلوق لا يعجبه العجب ، تعالوا ايها القراء قولوا رأيكم ، هل تؤيدون الروائية في شكوكها ؟

الرواية مبنية من تسعة وعشرين مشهدا أو فصلا . يبدأ الفصل الأول بانسياب الموسيقى في أذنيها، وينتهي الفصل الأخير بانسياب الجسد  ، جسد حلا ، بطلة الرواية ، في هدأة البحر . وبين الانسيابين ضجيج وصخب وأحداث تجري كلها داخل أروقة النفس ، أو في الغرف الضيقة أو على أرصفة المدينة .

تنفتح الرواية على حلا ، الصبية الجامعية الجميلة ، وتنغلق عليها . وبين المشهدين تتكرر حلا ، تتكرر المرأة في الرواية ، حتى لنكاد نقول إن بطل الرواية الحقيقي هو المرأة عموما ، لا امرأة بعينها ، مع أن حلا هي محور نفسها ومحور سائر النساء من حولها .

النساء في الرواية هن :

حلا وأمها القوية التي طردت زوجها زكريا من البيت ولم تستقبله حتى وهو جثة جامدة ، أمها التي رتبت زواج ابنتها من صادق التاجر ، بالسمسرة ، والسمسارة امرأة إسمها عزيزة .

حلا وأختها ريان التي تحضر في الرواية في مشهد واحد ، وفي لمحات قليلة أخرى لتكون وسيلة إيضاح ومادة للمقارنة  .

حلا وصديقتها ديانا التي تعيش مع رجل بالمساكنة ، والتي تعرض على حلا في لحظة ما أن تكون بديلا عنها في الزواج من صادق .

حلا وصديقتها ليال التي تشكو من زرج غبي وفقير ، بل ربما هو غبي لأنه فقير ، بينما أخت لها إسمها هند متزوجة من غني ، يرد إسمها  في الرواية على لسان أختها .

حلا وريم ، السعودية الجنسية ، زوجة اللبناني رياض الذي يخونها أمام ناظريها مع العاهرات ، مع أنه بذل كل غال ليحظى بها .

نوال الطبيبة التي تركت زوجها خلدون ومضت تبحث عن مستقبل لها ولولديها في بلاد الغربة .

فضلا عن امرأة عجوز التقتها حلا في المطار ، ولا إسم لها ، إنها العجوز فحسب ؛ والحماة مرت في الرواية مرتين .

هؤلاء هم نساء الرواية أما رجالها فمعظمهم يحضر على لسان الزوجة أو العشيقة أو الحبيبة ، يحضرون بأسمائهم ويشاركون في الأحداث من بعيد . رجال هم سبب الضيق لزوجاتهم .

زكريا والد حلا يختفي من أول الرواية ثم يعود جثة . تتذكره حلا حين كانت صغيرة ، تتذكره على لسان جدتها ، وكلما انتبهت إلى صلف أمها وقسوتها في معاملته ، قسوة غالبا ما كانت تصل حتى العقوبة الجسدية . كان ضعيفا أمام زوجته ، وهو الذي أخرج من البيت طردا ولم يعد .

صادق زوجها ، بنية قوية وثروة وصداقات أرستقراطية وسفر دائم ، وزواج من غير حب. وعلاقات  جنسية فيها كثير من السادية والقليل من الحب . الزواج يمكن أن يتم بالسمسرة أما الحب ، أما الجنس فلا . ولهذا تندم حلا على دزينة من السنوات قضتها معه تحت جبل من البرودة . إنه نموذج للانتهازي الذي يأكل المال الحرام ويجمع الثروة ولو على حساب كرامته وحياة الفقراء ، يبيع الإعاشة أو يحرقها ويحرمها لمستحقيها إذا لم يجن منها فائدة .صورته البشعة ظهرت فجأة قبل أن تنتهي الرواية ، قبلها لم نتعاطف مع حلا لأننا لم نكن نعرف صورة حقيقية عن زوجها .

خلدون حبيبها ، هو أيضا زوج مخلوع ، زوجته أخذت ولديهما سافرت إلى فرنسا وتركته وحده في وظيفته وفي شقة صغيرة في شارع الحمراء .

مهدي صديق خلدون ، الحزين هو الآخر لأن عائلته تركته وحيدا أيضا وغادرت إلى السويد .

مايكل الأميركي صديق خلدون أيضا ،  ثم عم خلدون الذي تعهد تربية ابن أخيه ، بعد موت أبيه وأمه ، الذي رباه على كره النساء ، الذي لم يحضر في الرواية إلا في مشهد وحيد ، من خلال الراوي ، إبن إخيه ؛ فضلا عن أسماء رجال آخرين ذكروا من غير أسماء .

هؤلاء هم رجال الرواية .

العائلة الحب الزواج قضية مركزية تشغل المرأة في الرواية . تشغل المرأة لأن الرجل في الرواية ليس إلا وسيلة إيضاح . المرأة تبحث عن استقرارها العاطفي ، عن حريتها ، عن حقها في أن تكون ندا للرجل ، عن هويتها وموقعها ، عن أسباب سعادتها . أما رجال الرواية فليسوا إلا حقول تجربة .

في كل العلاقات الثنائية الواردة في الرواية بين الرجل والمرأة ،  تجربة واحدة  كانت ناجحة . حلا المتزوجة التي لا تحب زوجها ، وخلدون الصحافي الذي طلقته زوجته الطبيبة ، ارتبطا بعلاقة حب صادقة  . لكنها تجربة لم تكتمل . اقتصرت على  لقاءات يملأ بها كل منهما فراغا عميقا في داخله ويردم تلك الهوة السحيقة التي حفرها شريكه فيه . الحب وحده هو التعويض عن قلق  نسائي عميق لم تسلم منه أية واحدة من نساء الرواية .

نساء الرواية لا تشبه الواحدة منهن الأخرى . حلا الجميلة لم يرضها مال ولا ثروة من غير حب ، أما صديقتها ديانا فهي ترضى من الرجل بالمساكنة ، وبإمكانها أن تستبدل رجلا برجل ولا يرف لها جفن ، حتى لو كان الجديد زوج صديقتها . ريم تسكت على خيانة زوجها لها ولا تستطيع أن تشكوه لأحد حتى لا يشمت شامت ، وتبقى حاضنة لعائلتها ، وتخنق غيظها في داخلها .

ليال غير مرتاحة لزوجها لأنه فقير وغبي ، ولا ريم لزوجها لأنه عديم الأخلاق ، ولا حلا لزوجها لأنه يتسلق طريق الانتهازية للوصول ، للوصول بأي ثمن ، ولا نوال الطبيبة لزوجها خلدون لأنها لا تطيق العيش في بيروت ، ولا أم حلا لأن زوجها كان بلا رجولة ، الخ ، الخ …

هل هي العلاقات الزوجية عائق أمام طموح لدى المرأة لا يحد ؟

من أجل قضية المرأة تعرج الراوية على قضايا أخرى قد تكون أكثر التهابا على الصعيد الانساني العام ،  كالحروب والصهيونية وصراع الحضارات والصراعات الطبقية والاجتماعية ، كما تستعين بأحداث من التاريخ أو بحقول علمية أو خيالية أو بقضايا مصيرية ، أو بظاهرات اجتماعية ، وما أكثرها ،غير أن الروائية كانت تعرج على كل هذه القضايا وتمر مرورا عابرا ، لأن القضية المركزية عندها هي قضية المرأة .

غير أن قضية المرأة ليست قضية كفاحية ، فهي ليست القضية التي تناضل في سبيلها الجمعيات النسائية إحقاقا لحق مهدور ، هو المساواة مثلا ، المساواة أمام القانون ، في الأحوال الشخصية ، في الإرث والوظيفة والدور الاجتماعي ، بل هي قضية فلسفية وجودية تعني البحث عن نموذج من العلاقات تتمكن المرأة فيه من تحقيق ذاتها وسعادتها .

من هذه الزاوية يظهرأن قضية المرأة ، كما تصورها الرواية ، لا تختلف عن قضية الرجل . هي وطأة المجتمع الذكوري على المجتمع ، حتى في حالة والد حلا ، الذي كان يتعرض للضرب والإهانة من زوجته ، أو حالة خلدون الذي طلقته زوجته وهجرته ، أو مهدي الذي تركته عائلته وهجرت إلى السويد . إنها جبال من الاستبداد والطغيان تمارسها التقاليد علينا ، على الرجال والنساء بالسوية . استبداد تراكم منذ عصور الظلام ولم يجد نهاية لليله الطويل ، وطغيان تكثف ليتجسد في انظمة المخابرات والأقبية والتشبيح والفساد وبيع الإعاشات وتجارة الموت والمرض وتنمية الفقر والتخلف ، الخ ، الخ …

ولئن كان نموذج الشرق المستبد لم يجترح حلا لقضية الحرية ، فلا الغرب تمكن ولا حضارته الرأسمالية ، لا في السويد ( حيث هربت عائلة مهدي ) ولا في فرنسا (حيث هربت عائلة خلدون) ،  ولا في الولايات المتحدة ( حيث صار أحد الأميركيين  شخصية عابرة في الرواية ، قدم نصائحه ومضى)، من أن يقدم في الواقع  نموذجا إنسانيا سويا عن العلاقات الثنائية بين المرأة والرجل . كلها محاولات ، لعل البشر يراكمون صورها الجميلة ليصنعوا منها ، يوما ما ، نموذجا للحب لا يعاقب من يمضي نحوه ولا يحكم عليه بالجنون .

لا تسأل الرواية عن حل هذه المعضلة التي عجز التاريخ ، بحقباته كلها ، عن حلها . الفن الروائي ككل فن لا يسأل عن المعنى الذي تقوله الرواية ، بل عن طريقة قول المعنى .

إنها تقنيات استخدمتها هدى بمهارة ، لغة سلسة في السرد و الوصف والحوار ، وفي تطويع الزمن الروائي، زمن القص ، تقصيرا ليختصر المدى بلحظة ، وتطويلا ليمتد المدى إلى أبعد من حدود العمر ، وتشابكا لتتداخل الأوقات والأزمنة ، ويختلط الماضي بالحاضر بالأحلام والذكريات .

تحية لهدى وبطلاتها وأبطالها الذين حين خرجوا من مخيلتها راحوا يدبون في الأرض ، لم يستغربوا ولم نستغرب نحن ، لأنهم من أهل  الأرض  ، أو كأنهم كانوا بيننا ذات يوم ثم عادوا ليذكرونا بأن تغيير الكون وعاداته وتقاليده وقوانينه عملية شاقة لا تحوطها مخيلاتنا الفردية .