19 أبريل، 2024

محمد مراد من العصر الذهبي

الاشكالية التي انتظمت دراسة الدكتور محمد مراد حولها هي كيفية أنتاج النخبة السياسية في لبنان. وقد عالجها الباحث انطلاقا من فرضيات أربع تتعلق الأولى بعلاقات الانتاج ، ويرى فيها أن العنصر المحدد في تلك العلاقات قوامه الزبائنية الريعية في الانتاج الاقتصادي كما السياسي ، وملكيات واسعة للأراضي في الأرياف اللبنانية و رأسمال خدماتي مديني ورأسمال اغترابي . وتتعلق الفرضية الثانية بمخزون ثقافي طائفي ، حيث لكل طائفة ثقافتها وعاداتها وتقاليدها . الثالثة هي الاختراق الخارجي ، والرابعة مرتبطة بالقوانين التي تفصّل على مقاس أهل السلطة لا على مقاس المصلحة الوطنية العليا.

بعد أن طغى مناخ عام في لبنان عموما وفي الجامعة اللبنانية على وجه الخصوص يتسم بالزبائنية الثقافية والسياسية ، مال الجسم التعليمي  تحت تأثيره ، إلى اختيار الولاء السياسي بديلا عن الكفاءة العلمية ، فتسكع كثيرون على باب الحاكم فيما اكتفى آخرون  بالاصطفاف على أبواب المتسكعين ، بدل أن ينكب هؤلاء وأولئك على التنقيب  في المكتبات وفي بطون المراجع والمخطوطات بحثا عن الحقائق العلمية عن طريق إثارة الاشكاليات وطرح الفرضيات وسلوك مناهج البحث العلمي ، فيما بقي محمد مراد صامدا في عرينه الجامعي، مع قلة قليلة من الأساتذة من هذا الرعيل،نقطة مضيئة في فضائها البعيد ، لأنه ظل متمسكا بالتقاليد العلمية والاكاديمية ، مدافعا عن مجد هذه الجامعة التي نعتز  بانتمائنا إليها طلابا ثم أساتذة ، ونحزن لما آلت إليه حالة البحث العلمي فيها .

من يقرأ كتابه ” الانتخابات النيابية في لبنان من عام 1920 إلى عام 2009 يجد هذه التقاليد ماثلة بوضوح : إشكالية وفرضيات وخلاصات ومقارنات وأرقام وإحصاءات . صبر وأناة على البحث، بحث عن المراجع وبحث فيها بعد تجميعها ،وهي عبارة عن  مروحة واسعة من البيانات والوثائق والنصوص والكتب والدراسات، شكلت مادة البحث الغني وتركزت حول موضوع التمثيل السياسي في لبنان .

 بلغ عدد الجداول في هذه الدراسة 120 جدولا. قائمة القوانين الانتخابية البالغ عددها أحد عشر قانونا أولها في  10-3-1922 وآخرها في 8-10-2009. قائمة أخرى تتضمن ست خرائط إدارية وانتخابية تبدأ من عهد المتصرفية وتنتهي في العام 2009. ثلاث عشرة خريطة عن الجغرافيا الانتخابية ، ثماني لوحات تشرح توزيع المقاعد النيابية حسب الطائفة وحسب المنطقة وحسب المهنة وحسب الشرائح العمرية، إضافة إلى أحد عشر جدولا يحدد توزيع المقاعد النيابية والتركيب الاجتماعي والتطور العددي للنواب وللدوائر الانتخابية ،الخ .

ويجد القارئ ، فضلا عن ذلك ، كلاما عن منهج في البحث أطلق عليه إسم منهج التاريخ الاجتماعي الذي “يعتمد على تشبيك مجموعة من العلوم ، ويقوم على تفكيك الظاهرة إلى عناصرها الجزئية ، ويدرس خاصية كل عنصر على حدة ومن ثم إعادة دمج وتركيب لهذه العناصر وتأليف الظاهرة من جديد، الخ.” ربما يصح إطلاق اسم آخر على هذا المنهج ، لأنه حسب التوصيف ليس سوى المنهج الديكارتي في البحث عن الحقيقة .

الكتاب عبارة عن مجموعة كتب ، في علوم التاريخ والإحصاء وعلم الاجتماع والاقتصاد والجغرافيا البشرية والقانون. وليس في وسع قارئ بمفرده أن يتناول جميع هذه الكتب دفعة واحدة لا تلخيصا ولا نقدا وتحليلا ، لتشعب مجالات البحث فيها ، وما يستتبعه من تشعب في مناهجها . لكنني ، منطلقا من هم الصديق محمد ، وهاجسه في البحث عن وطن حقيقي وعن انتماء حقيقي إليه وعن بناء ” الدولة الوطنية الديمقراطية المرتكزة إلى الحداثة والمعاصرة” ، ومن موافقتي على طريقة عرض الاشكالية ، وعلى إثنتين من فرضياته التي  بنى عليها بحثه : تأثير العوامل الخارجية على اختراق الوضع الداخلي ، (أنا فضلت أن أطلق عليها تسمية أخرى وهي استدراج العوامل الخارجية أو استقواء القوى الداخلية بالخارج ) ، وتفصيل القوانين على مقاس أهل السلطة لا على مقاس المصلحة الوطنية ،  أستأذنه في نقاش الفرضيتين الأخريين ، الاقتصادية والثقافية .

يستهويني كل حديث عن الاقتصاد ، وأتعلم من كل ما ومن أقرأه وأسمعه في هذا المجال . لكنني من موقع معرفتي المتواضعة هذه استنتجت بالحدس وبعيدا عن لغة الارقام والعلم استنتاجين أضيفهما إلى مادة النقاش المتعلق بالتمثيل السياسي اللبناني ، الأول هو أنه على اختلاف الأوضاع الاقتصادية التي تزوّدنا ، أنا والدكتور محمد ومعظم جيلنا اليساري القومي التقدمي ، في تشخيص أمراضها وتوصيف علاجاتها ، من الكتابات الماركسية أو المتأثرة بها ومن مصطلحاتها عن البنية فوقية والبنية تحتية والاقتصاد الكولونيالي ( مهدي عامل ) والبنية المأزومة ، والتفاوت الطبقي ، والطغمة المالية ، والمال الاغترابي والدور الاقتصادي الوسيط لبيروت في منطقة الشرق الأوسط والمحيط العربي ، والاقتصاد الرأسمالي الطرفي التابع للمركز( سمير أمين) ، والطبقة الوسطى والنهب الرأسمالي ، والقيمة المضافة ، والأزمات الدورية في النظام الرأسمالي العالمي ، أكبرها في بداية القرن العشرين كانت سببا في نشوب الحربين العالميتين وثانيتها في بداية القرن الحادي والعشرين ، وما بينهما من أزمات اقل حدة كانت تستطيع الرأسمالية أن تخرج منها سالمة وتجدد نفسها …الخ، الخ . ومع أنني لا أريد أن أقتنع بأفكار فوكوياما المتعلقة بنهاية التاريخ ، وما زلت أرغب بالاقتناع بما تعلمته من زبدة قوانين المادية التاريخية والمادية الجدلية …فإن دراسة الاقتصاد اللبناني في كل مراحله ، قبل الحرب الأهلية وبعدها ، وقبل الحريرية وخلالها ، وقبل الاجتياح الاسرائيلي وما بعده، وفي فترة الرخاء الاقتصادي والبحبوحة أو في فترة الانكماش ، في عصر لبنان الذهبي أو في عصره النحاسي أو الفضي أو التنكي ، الخ ، الخ . لم تتمكن الدراسات الماركسية أن تفسر بالاقتصاد سوء التمثيل السياسي في البرلمان اللبناني ، ولم تتمكن من إقناعنا بأن تدهور حال المجلس النيابي دورة بعد دورة يعود لأسباب اقتصادية. هل يعني ذلك أن الاقتصاد ليس العنصر المحدد في نهاية التحليل؟ وهل نحن نتنكر لما تعلمناه من قوانين الماديتين التاريخية والجدلية ؟ أم أننا لم نبلغ نهاية التحليل بعد ؟ أم أن علينا ،بانتظار نهاية التحليل ، أن نبحث عن عنصر آخر يلعب دور المحدد المرحلي أو الوقتي ؟

أنا أميل إلى استنتاج آخر وفرضية أخرى ،مفادها أن العنصرالذي يشكل القاسم المشترك والذي حدد ويحدد( ربما في صورة مرحلية ومؤقتة ) تطور بلداننا العربية ويحدد موقعها من الحداثة والمعاصرة ليس عنصرا اقتصاديا بل سياسي ، وهو مستوى ما وصلت إليه عملية بناء الدولة الرأسمالية في بلداننا . وفرضيتي هنا أن القوى السياسية شجعت قيام الرأسمالية في الاقتصاد وفي الثقافة لكنها لم تفعل ذلك في الحقل السياسي فلم تعمل من أجل  بناء الدولة العصرية والحديثة، الدولة المقترحة في الحضارة الرأسمالية ، بل راحت تبنيها بآليات الدولة السابقة على الرأسمالية ، بنقيصتيها الوراثة وغياب الدساتير. في لبنان نشأت دولة دستورية مع استمرار نقيصة الوراثة ونقيصة انتهاك القانون والدستور في ممارسة القوى السياسية ، في السلطة وفي المعارضة ، حتى أن بعض هذه القوى عملت على تقويض ما تم بناؤه على طريق قيام هذه الدولة . وبالتالي فإن حل المشكلة السياسية في لبنان ، كما المشاكل الأخرى ، لا يكون حلا اقتصاديا ، بل يبدأ بالسياسية ، وبالتحديد من بناء الدولة ، دولة القانون والمؤسسات والفصل بين السلطات وتداول السلطة والكفاءة وتكافؤ الفرص والحريات والديمقراطية والعدالة .

الفرضية المتعلقة بالجانب الثقافي ، أو بالأحرى بالبنية الفوقية ، التي يتداخل فيها الثقافي بالسياسي ، أكثر تعقيدا من الجانب الاقتصادي ، وهي أكثر إرباكا للباحثين وللسياسيين وللاقتصاديين على حد سواء .هي فرضية ” التطييف السياسي” ، أو إدخال ظاهرة الطائفية كعامل أساسي ، بل بصفتها العمود الفقري في كل تحليل اعتمدته القوى العلمانية واليسارية والديمقراطية بحثا عن علة العلل في النظام اللبناني .

يقول باحثنا : ” في لبنان منذ مطالع القرن السادس عشر ، اي مع بدايات ظهور الإمارة المعنية … وحتى اليوم … راحت ظاهرة التطييف السياسي تأخذا أبعادا جديدة … وانسحبت المقاييس الطائفية على البنيان السياسي والإداري للدولة اللبنانية الحديثة من نشأتها الأولى عام 1920، مرورا بالاستقلال الوطني لعام 1943 ، وصولا إلى صيغة الطائف لعام 1989. فقد استمرت المحاصصة قاعدة ثابتة … بين النخب الطائفية التي عرفت ثباتا طويلا في الحكم … بحيث بات معها المجتمع اللبناني أقرب إلى الانقسام العمودي السياسي- الطائفي …) ( ص60-61)

نستأذن صديقنا الباحث لنقدم فرضية أخرى لحل الإشكالية ، وهي فرضية تستند إلى ما توصل إليه هو في خلاصة بحثه حول المسألة ، إذ يقول (بالنص الحرفي) ، ” إن حلا جذريا للمسألة اللبنانية يكمن أولا وأخير في تغليب الخيار الوطني وتأكيد نهائية الدولة الوطنية كمشروع استراتيجي حاضن للوطن اللبناني وللشعب اللبناني الواحد وأهم مرتكزاته هي :” ( باختصار) المواطنة والعدالة الاجتماعية ووضع الدولة فوق سائر الجماعات الطوائفية وتعزيز الثقافة الوطنية بديلا عن الخصوصيات الثقافية الطائفية والمذهبية …”(ص68)

كما تستند إلى ما توصل إليه في خلاصة أخرى يقول فيها بالنص الحرفي : ” إن اختلال التمثيل الفعلي ناجم في الأساس عن قانون الانتخاب الذي يعتمد توزيعا للدوائر الانتخابية مفصلا على قياسات أصحاب النفوذ السياسي الطائفي ” (ص 330) ، مؤكدا في هذه الخلاصة ما كان قد أورده لكن ، مع تحميل الانتداب الفرنسي مسؤولية تطييف الانتخابات التي تكرست في أول قانون انتخابي صدر في العام 1922( ص89)

فرضيتي البديلة هي التالية : مع أن الطائفية متغلغلة في النفوس وفي الاقتصاد وفي العادات والتقاليد وفي كل شيء ، فإن الدستور اللبناني دستور علماني غير طائفي ينص على المساواة التامة بين اللبنانيين أمام القانون.أو لنقل بالدقة ، إن نظامنا اللبناني علماني مع نقيصتين طائفيتين هما توزيع الرئاسات وقوانين الاحوال الشخصية. وهما نقيصتان لا لأنهما تحيلان إلى انتماءات دينية بل لأنهما تنتقصان من مبدأ أساسي في قيام الدول الحديثة وهو المساواة أمام القانون ، أو لأنهما تنتهكان الدستور الذي ينص على أن اللبنانيين جميعا متساوون تحت سقف القانون . علتهما في انتهاك القانون ، ومن ينتهك القانون ليست الطائفة بل شخص في الطائفة ، سياسي أو رجل دين ، يجندها وراء مصالحه الشخصية . بسبب هذا الخطأ في التشخيص أخطأنا في التصويب وصارت نضالاتنا ضد الطائفية كالسهام الطائشة ، أو هي كانت تخبط خبط عشواء ، فأصابت المجتمع واستعدت الطوائف وبقي المسؤولون عن العلة سالمين في هرم السلطة السياسية يتفرجون على اليساريين والعلمانيين وهم يتقاتلون مع أهلهم وبيئاتهم . أكثر من ذلك . لقد نجح اليسار التقدمي والقومي، بمقاييسه هو، في تعديل الدستور ، وأجبر المعنيين على إدخال بنود عديدة من البرنامج المرحلي للاصلاح السياسي للحركة الوطنية اللبنانية ، وعند تطبيق هذه التعديلات تدهورت حال البلاد بل تقهقرت من الطائفية إلى المذهبية ، وصار التثيل السياسي على أساسها أكثر سوءا. ماذا يعني ذلك ؟ يعني أننا لم نعالج مكمن الخلل ، ولم نكتشف أن العلة في مكان آخر .هي في نواقص من نوع آخر لم ننتبه إلى خطرها ، بل لم ننتبه إلى أنها هي الخطر الحقيقي ، فحميناها بمجرد التصويب على سواها ، ما جعلها في مأمن ومنحها فرصة التجدد والتطور وبلغت ذروتها حين توفرت لها بيئة عربية واقليمية حاضنة للاستبداد.هذه النواقص هي نواقص  الديمقراطية في النظام السياسي لا النواقص الطائفية ، وهي نواقص لا تحل بتغليب صلاحيات على أخرى ، ولا باستبدال طائفة الموظف بطائفة أخرى ، ولا بالمداورة  في المسؤوليات الحكومية ، لأن مثل هذه الحلول التي اقترحناها والتي تحمل في طياتها ملامح طائفية أيضا ، وجدت من يمضي بها وبتشخيصنا المغلوط لعلتها إلى نهاياته الطبيعية ، أي إلى نزاع بين المتحاصصين باسم الطوائف ذهب اليسار ضحيته ومعه تمت التضحية بالدستور والقانون و مؤسسات الدولة.

نحن  في حاجة إلى ربيع لبناني ، يعيد الاعتبار للتجربة الديمقراطية اللبنانية ويعالج نواقصها ، بمنهج مختلف عن ذاك الذي اعتمدناه ، والذي لا يمكن أن يؤول إلى غير ما يؤول إليه كل موقف سلبي من الدولة ومؤسساتها . نعم ، نحن أهل اليسار ، نحن الذين عممنا قيما جميلة وسامية في ثقافتنا ،لكننا نحن بالذات من أطلق الحملة لتحطيم أسس الدولة،  من غير أن نكون جاهزين ومهيئين لنكون البديل الثوري ومن غير أن نكون مقتنعين بأهمية الدولة ، دولة القانون والمؤسسات ، فكان من الطبيعي أن تنحدر الأحزاب اليسارية والقومية والعلمانية ، بسبب نواقص الديمقراطية في سلوكها السياسي وفي بناها التنظيمية  لتلتحق بركب الاستبداد العربي وتدافع عنه . تلك النواقص في الممارسة الديمقراطية ، عند النظام وعند الأحزاب على السواء، هي التي تعاونت مع نظام الاستبداد العربي على تقويض أسس الدولة وساعدته على ألتمدد نحونا والقضاء على وجوه الديمقراطية في الحياة السياسية اللبنانية  وفي النظام اللبناني ، وعلى إفراغ قوانين الانتخاب من مضمونها الديمقراطي ، وتحويل عمليات الاقتراع إلى نوع من الاستفتاء المعروفة نتائجه سلفا .

فرضيتي هي أن علة النظام اللبناني كامنة في الاستبداد المتجسد في السلوك الطائفي لدى أهل السلطة وممارستهم السياسية والمتجسد أيضا في بعض النصوص القانونية ومن بينها قانون الانتخاب . بدل أن نرمي سهاما طائشة ضد الطوائف أي ضد المجتمع  فيسلم الطائفيون الرابضون على صدر السلطة ، لنجرب التصويب على من ينتهك الدستور والقوانين في كل مراتب السلطة من قاعدتها إلى أعلى الهرم. في موازاة الشعار العربي ، الشعب يريد تغيير النظام ، علينا أن نناضل في لبنان تحت شعار الشعب يريد تطبيق النظام . بعدها نناضل لتعديله.

مساهمة في نقاش كتاب الدكتور محمد مراد في المجلس الثقافي للبنان الجنوبي 30-1-2014