29 مارس، 2024

أبو حسن

يغادرنا اليوم رابع وآخر أبناء ابراهيم عباس ، ابراهيم مشورب. علي، أبو حسن ، علي أفندي. وقد منحتني قرابة الدم والفكر شرف وداعهم واحدا بعد الآخر،  كلا منهم بكلمة.

 مؤمن عميق الإيمان بالدين . حفظ آيات القرآن كلها وقرأ التفاسير . في آخر زيارة له في بيته أخبرنا أنه يعيد قراءة المجلدات  المرصوفة على رف خلف سريره وهي  تفسير القرآن للشيخ محمد جواد مغنية ، وقد ظلت رفيقه يوميا حتى الليالي الأخيرة.

 في السياسة كان مؤمنا بالقضية . كأن القضية عنده هي دينه السياسي.

 بإيمانه الديني وإيمانه السياسي يشبه علما وعالما من أعلام الفكر الديني والسياسي شيعناه البارحة ، عنيت به السيد هاني فحص.نعم ، متشابهان بالإيمان. هاني فحص تخرج من مدارس الفقه وأبو حسن نهل ثقافته في حقل الدين أو في التاريخ والأدب ،  من عصاميته ، من صداقة عميقة بناها مع عالم الكتب.  

إنني الآن أكرمهما معا ، أكرم هذا المستوى الراقي من الإيمان ، فكتبت عن مولانا السيد هاني ما يمكن أن أقوله لأبو حسن .

 هو مولانا ، ولا أقولها لكل رجال الدين . هو مولانا في العلم لأننا حين نقرأ له أو نستمع إليه، نبحر معه في علوم الدين  ونتربى على احترام الآخر. نتعلم منه ما يحجبه  العاملون في حقل  الدين ، حين يجعلون من جهلهم النسبي في علوم الحياة  معرفة مطلقة في علم الله، نتعلم منه تواضع العالم : وما أوتيتم من العلم إلا قليلا  ؛ ونتعلم منه ما يحجبه عنا تعصب أهل السياسة. وهو تعصب يوازي الجهل ويفوقه خطورة ،لأن التعصب شكل من الاستبداد وادعاء احتكار الحقيقة، جعله البعض نهجا ، في العلاقات داخل العائلة أوالطائفة أوالحزب ، في السلطة وفي المعارضة ، في الأصول والفروع ، الذين خرجوا على هذا النهج الاستبدادي في بلادنا قلة معدودة .

على المفترق السياسي بين مشروعين متباعدين ، الاشتراكية هي الحل، الاسلام هو الحل، وقف أبو حسن قريبا من السيد هاني. الزمن وحده كان كفيلا بكسر شوكة الأصوليات الدينية واليسارية المعششة فينا، فصار المفترق نقطة للتلاقي ، وأقتنعنا بأن الحل بالحوار والسلم والتفاعل لا بالحرب الأهلية والصراع المسلح .

وعلى مفترق فكري بين حرية العقل وتجارة الطقوس ، كان ملاذي الآمن اثنان : فلسفة ديكارت التي أقنعتني بتعديل صيغة السؤال عن الحقيقة : لنقل إن الله موجود ، وأنه خلق الكون وقوانينه ، فلنشغل عقولنا الحرة إذن ، لا بالبحث عن الله ، بل بالعمل على اكتشاف تلك القوانين التي خلقها ليدير الكون بها ، فرحت أحفر دروب معرفتي في ما أنتجته العقول ،  فيما أقنعني هاني فحص ، بقوة المثال ، بأن الإيمان الحقيقي ، أي إيمان ، ليس طقوسا احتفالية وموسمية صاخبة بل بحث دائم وصامت عن الحقيقة ، وأقنعني ، بقوة المنطق ، بأن الطمأنينة عدو العلم ، وبأن القلق المعرفي هو السبيل الوحيد لبلوغ الحقيقة. هذا البحث الصامت عن الحقيقة ، كنت أراه في تعلق أبو حسن بالقراءة والكتب وشحن الذهن والعلم والثقافة.

كنا نلتقي غداة كل هزيمة ، أقوى عزيمة وأشد بأسا ، وأرسخ إيمانا بالقضية وبالأفكار . إلى أن سألته ذات يوم ، وقد تعددت الهزائم ، ترانا نتشابه كثيرا ، فلماذا لا نؤسس حزبا واحدا ، وكان جواب السيد هاني بكلمة : حزب الدولة. حزب يبني الدولة.

************

نقطة التلاقي هذه بين الالتزام الديني والالتزام السياسي تجسدت في شخص أبو حسن.

أبو حسن المؤمن العميق الإيمان بالدين. حفظ آيات القرآن كلها وقرأ التفاسير… كان يعتقد أن القرآن نص صعب، لا يعلم تأويله إلا الله ، الله وحده دون الراسخين في العلم ،  وأن قارئ القرآن يحتاج ، لكي يفهم مرامي آياته البينات أو المتشابهات ، إلى ثقافة لغوية غنية ، لذلك راح يقرأ دواوين الشعر العربي وحفظ جزءا كبيرا من ديوان المتنبي، وبعضا من شعر أبي العلاء المعري. ساعده على حفظ الشعر والقرآن ذاكرة قوية كانت تحفظ الأحداث والتواريخ بالأيام والساعات ولو على مسافة عشرات السنين. ولذلك كان أبو حسن كتاب تاريخ نتزود من كل حكاية فيه بعبرة أوحكمة .لم يكن يترك لسامعه أن يستخلصها، بل هو الذي كان يسرد بلسانه وعينيه وتقاسيم وجهه وإيماءاته وحركات يديه كأنه يمثلها أو يمسرحها ، ويرويها بلغة تختلط فيها العامية بالفصحى ، وبصوت جهوري ومخارج حروف واضحة، وهو الذي ما كان ليرويها إلا ليفصح عن تلك العبرة الصريحة في ختام الرواية.

الذاكرة التي حفظت القرآن والشعر ، حفظت التواريخ . ،  المرحومة والدتي أخبرتنا أنها تكبره بعام أو أقل، ومنه تأكدنا أنه من مواليد العام 1924على ما روى لنا عن والده الذي أخبره أنه ولد في السنة التي توفي فيها كامل الأسعد الجد، ولا يخطئ التاريخ حين يؤرخ للكبار.

إيمانه كان يشبه إيمان والدتي ، رحمهما الله . ربما لأنهما من قرية مختلطة تتجاور فيها الكنيسة والمسجد، وربما لأنهما من جيل تربى على الاعتدال، كان من الطبيعي أن أنتمي إلى إيمانه وإيمان والدتي التي لم تتردد في إرسالي طفلا إلى الكنيسة، مع سيدة نصرانية،لأكون مع أطفال الزياح. أما أبو حسن فقد أحب عبد الناصر من غير أن يسأل عن مذهبه الديني، وأصر على أن يمشي في جنازة جورج حاوي الذي لا يخفى انتماؤه الديني على أحد، في طول مسيرة التشييع ، حاملا صورته على صدره، وشارك في تكريم المقاومين الأبطال ، شهداء أو أسرى محررين، متغاضيا عن كل أذى شخصي،   متمسكا بشهامة الموقف من المقاومة حتى آخر لحظة من حياته، وهو الذي أحب سيرة أهل البيت من غير أن يتعصب لشيعيته.

تكريما لهذا المستوى الراقي من الإيمان ، أقدم للجنة الأوقاف والنادي الحسيني ، عن روح أبي حسن وعن روح والدتي، نسخة كاملة من المصحف المرتل مسجلة على  30 شريط .

أما في السياسة فقد كان مؤمنا عميق الإيمان أيضا . القضية هي دينه السياسي. كان يعرفه الناس أو يشيعون عنه أنه كان شيوعيا . والحقيقة أن أبا حسن لم ينتسب يوما إلى الحزب الشيوعي ولا كان مرة عضوا من أعضائه. كان شديد الإيمان بالفكرة لا بالتنظيم الحزبي، بالقضية التي كان يناضل الشيوعيون في سبيلها ، لم يكن حزبيا لكن بيته كان مركزا وملتقى ومقلعا لمناضلين في الحزب والمقاومة الوطنية اللبنانية. والفكرة عنده قد تتجسد بالشيوعية أو بالمقاومة أو بالوحدة العربية أو بالقيادات التاريخية في لبنان والعالم. الإمام علي ، غاندي ، ديغول، لينين، عبد الناصر، وقد قرأ عنهم جميعا وعن سواهم .

أول لقاء لي معه في السياسة كان في حزيران 1967 . التقيت وإياه أول الليل بعد خطاب الاستقالة الذي ألقاه عبد الناصر في أعقاب الهزيمة. رأيت على وجهه التجهم والوجوم ومسحة من الحزن . كان يجمعنا في السياسة حبنا لعبد الناصر وإعجابنا به قائدا تاريخيا لهذه الأمة . وحين حدست أمامه بأن عبد الناصر عائد عن الاستقالة لا محالة ، منحني ذلك الحدس شرف صداقة دائمة معه سأحملها معي ما حييت.

تلك الحادثة أكدت لي أنه مؤمن بالقضية من غير أن يكون حزبيا. بعدها  بسنوات، انفجرت الحرب الأهلية، وجاء يطلب المشاركة في اجتماع حزبي من غير أن يكون منتسبا. ذلك إن القضية عنده هي الأساس ولم يكن ينتبه لصرامة التنظيم الحزبي.

في ذهنه أن الإيمان بالدين متلازم مع الايمان بالقضية ، وعلى هذا الأساس راح يصوغ معادلاتيه الشهيرتين : الشيوعي الحقيقي ينبغي أن يكون مؤمنا بالله ، والإيمان الحقيقي لا يتعارض مع الانتماء الصادق إلى الشيوعية .

رأى ذلك لأنه جمع في تفكيره بين سمو القيم الدينية وسمو التضحيات التي يبذلها المناضلون في سبيل القضايا الوطنية والقومية والأممية.