25 أبريل، 2024

في تكريم أم جمال، فاطمة نعمة مقلد

وتمضي الأيام. لا شيء يعرقلها. أو لا شيء يوقفها أو يوقف  عقارب الزمن. نحن  البشر نتوقف عن الحياة. نقف ليودع  بعضنا بعضاً. يدفن بعضنا بعضاً( على رأي المتنبي) وتمشي أواخرنا على هام الأوالي. هكذا ودعناهم الواحد تلو الأخر.  يغادرون ويتركون في القلب غصة. كلما ابتعدوا كلما حضروا، بذكرياتنا معهم، وكلما ازداد الشوق إليهم .  يغادرون لكننا نحيا مع ذكرياتهم ، و يبقون دائما في القلب وفي الوجدان.

ودعت والديّ وبعدهما أخي و حماتي وسلفتي منى  وقبلهما أعز الأصدقاء رجاء وماجد، وغيرهم كثر.

سبقهم جميعاً إلى العالم الآخر عمي أبو جمال.

واليوم رفيقة دربه  في الغربة وفي الوطن على امتداد حياتهما الزوجي. أم جمال فاطمة نعمة مقلد

لم تكن أم جمال من النساء اللواتي يعبرن دون أن يتركن أثراً.

 طليعية كانت، مبادرة، ذكية، بهية الطلة مشرقة الوجه والمحيا. قامة وجمال وأناقة حديث، بل هي شاعرة. أليفة، ودودة ، اجتماعية. كانت كالصائغ تصوغ علاقتها بمن تحب بأطيب العلاقات وأرقاها وأكثرها وداً .

ربما كانت ككل الأمهات. سهرٌ على سعادة العائلة. لكنها ليست ككل الأمهات في تضحياتها. لا أبالغ إن قلت إنها مدرسة في العطاء، تبذل أغلى ما تملك من أجل أولادها الثلاثة. مي وجمال ودينا، ومن أجل من أضيفوا إلى العائلة، محمد ومنى والأحفاد.

  ليس في هذا مبالغة، فقد بدأت تضحياتها عندما فضلت العيش بالكفاف على أرض الوطن على أن تعيش ميسورة الحال في الأرجنتين، وذلك  خوفاً من أن تضيع الهوية ويتحول أولادها إلى مجرد أسماء مضافة على لائحة المتحدرين من أصل لبناني. عادت مع العم الحبيب رضا لتحافظ على انتماء العائلة إلى الوطن الأم.

علينا أن نعود يا رضا. وإلا فإن أولادنا سيتزوجون من أجانب. ليس لنا إلا حضن الوطن ودفء العلاقات فيه. كان لها ما أرادت. عادت ونزلت إلى سوق العمل. لم تستكن ، بل راحت تصارع ظروف الحياة القاسية وأمنت للعائلة ما وفر للأبناء حياة كريمة وتعليماً في أفضل المدارس.

عندما غادر الأبناء إلى بيوتهم الزوجية، كانت تنتقل في أصقاع الأرض، بين السعودية  وبلجيكا وكندا والبحرين توزع حبها واهتمامها على ابنها وبنتيها وترعى الأحفاد وتحضنهم بكل الحب الذي اختزنته في صدرها، مثل أي أم حنون أو جدة متفانية.

لطالما كنت أشهد على أنها تحضر الطعام مجبولا بحنان أم واشتياق جدة، لترسله جوا إلى مدينة جدة وترتاح لأنه يصل إلى مائدتهم ساخناً طازجاً.

زوجة راقية هي أم جمال.

صبرت واحتضنت ورعت بكل الحب والتفاني. كانت إلى جانب زوجها، ساعده الأيمن أيام شبابه وصباها، وشريكته عندما مضى قبلها نحو شيخوخته. رعته في سنوات عمره الأخيرة كأنه طفلها، وحضنته كما يليق بشريكين في الحياة. أصيلة هي وسليلة عائلة كريمة.

بعد رحيل زوجها صار الأحفاد هم عالمها إن حضروا . و في غيابهم تعود إلى عالمها الآخر، عالم القراءة والكتابة ولاسيما حين تختلي بنفسها في بيتها في جرجوع  أو حين تتقاسم مع جارتها عفيفة مقلد سني التقاعد. لم يحل فارق العمر بينهما دون أن تكونا صديقتين  تفك الواحدة منهما عن الأخرى الشعور بالوحدة. في بيت عفيفة انزلقت قدمها وكسرت وركها ومن بيت عفيفة خرجت إلى المستشفى مصابة بنزيف في الرأس ولم تعد.

الأحفاد وعفيفة والكتب. كتب وجرائد ومجلات في كل زاوية من زوايا بيتها. هذه تقاليد العائلة منذ كان أبو جمال يحتفظ بقصاصات من مجلات عربية في الأرجنتين.

 غير أن ام جمال لم تكن حافظة لهذا التقليد الثقافي اقتداء بزوجها فحسب، بل هي كانت قارئة نهمة وشاعرة، تقرأ وتحفظ الاشعار، وكنا نأنس كثيراً إليها حين تعتلي المنابر لتؤبن عزيزاً أو لتشارك في ندوة شعرية، وكم أطربنا كلامها في عرس أول حفيد لها، ابن مي ، حين أوقفت برنامج الاحتفال لتهدي العريس قصيدة نابعة من القلب ومفعمة بكل الحب والوفاء.

وكنا نأنس أكثر حين نلتقيها في صور أو في بيروت أو في النبطية، وهي تلاحق الندوات شعرا وفكرا وثقافة وسياسة.  لم تكن تلاحق لتستمع فحسب، بل هي كانت تشارك في تأسيس جمعيات ثقافية وفي عضوية جمعيات أخرى، وتعتلي المنابر لتلقي بعضاً مما تفيض بها قريحتها الشعرية التي جادت علينا بديوان مطبوع، وبات علينا واجب تكريمها بنشر القصائد المبعثرة بين دفتي الديوان.

طليعية كانت، بكل ما تعنيه الكلمة. نظرها مصوب دوما إلى الأمام ، على شموخ وعنفوان. واثقة الخطوة تمشي كالأميرة إلى أن غدر بها العمر، غدر بها الوهن. حين هوت وكسرت وركها لم تقبل، بعزيمتها وعنفوانها أن تصير مقعدة، قامت ومشت وعادت لتلتقي الأحبة، عادت  إلى بيتها في جرجوع ، إلى بيت جارتها وقريبتها عفيفة، إلى عالم القراءة والكتب والمجلات.

حين خرجت في المرة الثانية لم تعد ام جمال قادرة على النطق. كانت عيناها تخبرنا كم كانت جميلة القد وكم كانت بليغة اللسان.

 وكم صارت حزينة.

 عينان ناطقتان باسمتان أمام زائريها، عينان طافحتان بالحب والشوق ، وفيهما يبدو ذلك الماضي، ماضينا الذي كان يحلو بها وبوجودها وبلسانها الطلق وطلتها البهية. عينان ينضح منهما وجع داخلي تحس أنها تتلوى بصمت.

 عينان باكيتان ، في سرير المرض في المستشفى، بكت وأبكتنا.

في البال ستبقين

أحبائي، مي وجمال ودينا. أعزائي أولادكم، وأزواجكم، محمد، مازن ومروان وماهر.. تيما وآدم رضا

بكيناها، لا دمع يعز عليها. لكن بعد اليوم، لا تبكوها، بل تباهوا بها ، تذكروها بافتخار واعتزاز.

أتقدم باسمي وباسم العائلة بالشكر الجزيل لكم ولكل من واسانا بفقدها بالحضور أو بالاتصال .  لروحها الرحمة ولنا ولكم الصبر، ولكم العمر الطويل.