19 مارس، 2024

ناضل بصمت

في تكريم خليل مشورب

منذ أقل بقليل من ستين عاما ، وفي هذا المكان بالذات ، في الحفل التأبيني الذي أقيم للشاب عفيف الشامي ، وكانت ثورة 14 تموز العراقية على الملكية في حلقاتها الأولى ، وكانت الحركة القومية بفروعها الثلاثة ، اليسارية والإسلامية والعروبية ،  تتنازع على جلد الدب قبل قتله ، وقف أحد الخطباء مترحما على شهداء كركوك والموصل في العراق ، وصار هرج ومرج وعراك بالأيدي بين المشاركين في الحفل ، وكاد تدافعهم على المنحدر الغربي خلف هذه القاعة أن يوقعهم من أعلى المرتفع . يومذاك ، عرفت أن خليل مشورب كان عضوا في حزب ، وأنه هو الذي تدخل لدى خطيب الاحتفال حتى يتفادى انتقال شرارة الخلاف المستحكم بين فصائل الحركة القومية من عراق الثورة إلى لبنان.

من مقتبل العمر التزم، وظل حتى مماته على التزامه ، مرتبطا بالقضية ، منتظما في صفوف الحزب أو من خارج صفوفه ، ناضل بصمت حتى استحق  لقب المناضل الصامت.

الثبات على الالتزام هو في حد ذاته مدرسة .  مدرسة تدربنا فيها على يديه و تخرجنا منها جميعا ، العائلة اليسارية  التي رعاها ، أبو زياد ، خليل مشورب في جرجوع  وجوارها.

منذ أن انتظم في خلية حزبية طلابية واحدة مع جورج حاوي حتى البارحة ، التزام واحد . لم يغير وجهه ولا بدل ثيابه ولا نقل البندقية . مثال للثبات على الموقف .

تبادل الخصوم الأدوار ، وهو على ثباته . وتغيرت ظروف البلاد وتناوب على منصات الحكم قادة ومحاربون ، ومنصته واحدة وقضيته واحدة : الدفاع عن المستضعفين في الأرض وعن الفقراء .

ما انحنى لجبروت ولا هادن ولا ساوم على قضية ، ولا ضيعت بوصلته اتجاهها.

حين تعطلت بوصلات الكبار أو أصيبت عقاربها بالالتواء ، حين ضاعت بوصلة اليسار، ناداه أبو زياد : أيها اليسار إلى اليسار در. ناداه بلسانه الدافئ وصمته البليغ ، وحين لم يسمع القيمون نداءه ، انطوى على ذاكرته اليسارية الجميلة ، ومضى غير نادم على شيء.

 تعلمنا منه الكثير من دروس التضحية والعصامية والمثابرة . درس واحد لم نستطع أن نجاريه فيه وأن نتعلمه  ، درس التعبير الصامت . كان يعمل بصمت ، يبني بصمت ، يعلم بصمت . ولم يأبه لمحبي الضجيج الكلامي والمنابر ومكبرات الصوت . همته العالية لم تكن تحتاج إلى منصات وبروز إعلامي وصوته كان يصل من دون مكبرات.

 تعلمنا منه أن المواقف السليمة  لا تبنى على الثرثرة ولغو الكلام ، بل على الصدق وعمق الالتزام، فلم يكن في حاجة إلى نظريات كثيرة وفلسفات وثرثرات ليعرف الاتجاه الصحيح. حدسه السليم ومعرفته الصامتة تذكرني دائما بشعر قيل على لسان  جائع أو مقهور أو مظلوم ، شعر يقول : بدون النظر إلى ساعة الحائط أو مفكرة الجيب ، أعرف مواعيد صراخي.

لباسه التواضع لا التباهي . لم نكن ننتبه ، لا نحن ، رفاقه في الحزب ، ولا زملاؤه في شركة الريجي ، إلى أنه خريج كلية الحقوق . علم المناضل نضاله، وشهادته هي المهورة بخاتم الحزب والنضال، لا بخاتم المدرسة والجامعة، فكم من متعلم لا يتدخل بالشأن العام ولا يهتم إلا باختصاصه ولذلك قيل عن المثقف إنه الذي يتدخل في ما يعنيه وفي ما لا يعنيه ، أي في حقل اختصاصه وخارج حقل اختصاصه . اختصاصه هو كان العمل في شركة الريجي ، وما تبقى من وقته بعد نهاية الدوام ، كان يقضيه مع رفاق النضال ممن ينفقون على الشأن العام جزءا مما يملكون وينتجون  .

هذه هي حال كل حزبي إلى أي حزب انتمى . إذ ليس حزبيا من اكتفى بحمل البطاقة  أو تبجح بالنطق باسم الحزب ، أو تسلق للوصول إلى موقع أو مركز أو وظيفة ، أو من استغله للسطو على ثروة أو مال.  الانتماء الحزبي يعني التضحية ، يعني أن يقدم الحزبي للقضية ، للشأن العام ، من دون حساب . الانتماء الحزبي هو العطاء . ومن يختار الانتماء الحزبي للأخذ لا للعطاء لا يكون حزبيا ولا مناضلا ، بل يكون نموذجا للوصولي الكريه . أبو زياد ، بأصالته الحزبية والنضالية كان يكره الوصوليين وعلمنا كيف نكرههم .  

تلك كانت مدرسة أبو زياد ، مدرسة العطاء بسخاء من أجل القضية ، وهو عطاء مضاعف القيمة ، عطاء من كان انتماؤه إلى الحزب ، في تلك الأيام ،  ضربا من المغامرة .  حزبي تلك الأيام كان يختار طوعا أن يلتزم  ليعطي من لحمه الحي  ويقتطع من قوت عياله ومن دخله الشهري ويدفع من ماله ليعيش الحزب .

حزبي تلك الأيام كان فدائيا قبل أن يولد العمل الفدائي الفلسطيني . فدائي لأنه اختار مدرسة التضحية . مدرسة العطاء بلا مقابل.

مدرسة أبو زياد التي تعلمنا فيها هي بالضبط ، مدرسة التضحية والعطاء بلا مقابل ، التضحية بالوقت بالمال بالصحة بالحياة العائلية ، حتى التضحية بالنفس ، تلك هي حياة المناضل . ما لانت عزيمته وما ظهرت على وجهه شكوى . كان شيخ الأسرى في أنصار وفي الخيام وفي عتليت . كلما غادر زنزانة كان يرفع  راية العزيمة والتصميم على متابعة الدرب حتى تحرير آخر ذرة من تراب الوطن . لم يكن في سن البطولات والعمليات العسكرية ، لكن ورثته وتلامذته ممن حملوا خصاله وثباته وقوة عزيمته وصدق انتمائه ، وتعلموا في مدرسته ، كانوا يتزودون من بيته هذا، خلف هذا المقام، لا بالسلاح وحده ، بل وبالعزيمة أيضا.

تلك هي المدرسة التي أسسها أبو زياد وتخرج منها أوائل المقاومين في جرجوع وفي سواها من قرى الجنوب الباسلة ، المقاومون الذين تعاونوا مع رفاق السلاح في المقاومة الإسلامية والمقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية ، وعلى منعطفات هذه القرى زرعوا البطولات وأسسوا ، على بعد عشرين عاما ، للتحرير المجيد والنصر المبين.

هذا المناضل الصامت لم يتبوأ موقعا ولم يسع إلى كرسي قيادي ، مع ذلك ، وربما بفضل ذلك ، لم يكن في حاجة إلى شهادة من القيادة ، بل هو الذي صار معلما ، وبه يقاس نقاء الانتماء إلى الشيوعية ، وبخاتمه الأصيل تمهر شهادات النضال وبيده توزع  على من يستحقها في القيادة أو في خارجها.

أبو زياد شخص لا ينهزم ، إذ كيف ينهزم رجل واثق الخطوة والعقيدة ؟

مرة واحدة انهزم خليل مشورب ومرة واحدة خذله صمته .

خذله صمته في ملابسات علاقة الشيوعيين بالطقوس الدينية  . لم يكن صمته وحده مسؤولا .كانت الحركة الشيوعية والحركة العلمانية مسؤولتين أيضا حين أسهمتا بتقديم العلمنة في صورة مزيفة  تشبه الإلحاد، ومسؤولة أيضا كل تلك الجهات التي لم تحسن قراءة الماركسية و الشيوعية  ورمتهما بتهمة الإلحاد : جهلة الدين ومناصرو الامبريالية العالمية وأتباعها والمتعاونون معها ، فضلا عن أنظمة الاستبداد التي ناصبت العداء لكل حركة علمانية ولكل مسعى لبناء الدولة المدنية

كان على حق ، قبل ستين عاما ، حين حذر من انتقال دخان الحريق العراقي من عراق الموصل وكركوك إلى لبنان. أما نحن، فلم نتنبه في أول الحرب الأهلية اللبنانية إلى خطر انتقال الحرائق العربية إلى بلادنا، لا ولا انتبهنا إلى أننا سنكون وقودها.

ربما كان علينا أن نتعلم حكمته ، أن نمنع تصويب السلاح  على غير العدو الاسرائيلي ، ألا نتقاتل مع أبناء وطننا ، طرف بالنيابة عن النظام السوري وطرف بالنيابة عن النظام الفلسطيني أو عن سواه من الأنظمة الشقيقة والصديقة والعدوة . ربما كان علينا أن ننآى بالنفس عن كل الاقتتال الطائفي ، وألا نحمل لبنان فوق طاقته على الاحتمال ، وألا نتوسل السلاح والحرب من أجل إصلاح النظام السياسي اللبناني . فهذا اللبنان ، على حد قول السيد هاني فحص ، هو لبنان القوس قزح ، لا يكتمل إلا بألوانه كلها ،  ولا يعود لبنان جميلا  إن طغى على ألوانه لون أو غاب عنها لون.

لبناننا لبنان الحضارات العريقة من الحرف الفينيقي إلى حسن كامل الصباح ورمال رمال ، لبنان التنوع والتعدد والجمال، الغني ببشره وحجره ، لبنان الحريات والديمقراطية . لبنان السيد الحر المستقل .

 لبنانهم الفساد والزواريب والحارات والمحاصصات .

لبناننا  شعب واحد جيش واحد ودستور واحد ودولة واحدة .

 لبنانهم مزارع الدويلات ، وجيوش العائلات والعشائر والطوائف . وماذا يفيد أهل الطوائف إن كسبوا طوائفهم  وخسروا الوطن.

لبنانهم  لبنان السعودي والسوري والإيراني والأميركي والإسرائيلي .

أما لبناننا نحن فهو لبنان اللبناني

انهزم أبو زياد مرة واحادة . حدث ذلك حين غلبه اليأس ، حين داهمه المرض لثلاثة أشهر فحسب، بل حين اغتاله المرض . نعم قتله المرض اغتيالا. لم يترك له فرصة المواجهة . لا هو ، ولا المحيطون به ، ولا نحن  ،  جميعنا لم نكن ننتبه إلى أنه شارف على الثمانين ، صحة سليمة وذهن صاف وهمة عالية وعمل يومي في الحقل وأكثر من علبة سجائر يوميا . لم ننتبه إلا حين عاجله المرض وحمله إلى المستشفى واختطفه الموت منا خلسة.

نعاهدك يا أبا زياد أن نحافظ على قيمك

ونعاهدك أن نبقى مع لبناننا ، لبنان اللبناني ، وأن نستمر نناضل على هدي مدرستك من أجل وطن حر وشعب سعيد .