20 أبريل، 2024

في تكريم عادل مشورب أبو إبراهيم

ايها السادة الأقرباء والأصدقاء

أهلي وأصدقائي أهل الفقيدة

اهلي وأصدقائي ورفاقي ذوي الفقيد

ثمة حياة أخرى يحياها الراحلون

أترك للفقهاء ووالواعظين والمعممين الحديث عن حياة أخرى في الآخرة .

ثمة حياة أخرى يعيشونها  هنا على الأرض ، هنا بيننا في الحياة الدنيا .

قبل أن  يغادروا يتركون بيننا وبينهم جسورا للعبور , جسورا للتواصل طويلة لا تنتهي . 

هم يمسكون  طرف الخيط , ونحن على الطرف الآخر نصغي إليهم , نتحسسهم  ، نستلهمهم ، نتذكرهم .

قبل أن يرحلوا يعلموننا كيف نمسك طرف الخيط , يعني  طرف الحياة, ثم يمضون  تاركين بين أيدينا ثروة , هي ثروة الحياة  . ثروة هي كسباق البدل يحمل رايتها اللاحقون من السابقين .

يحدثنا أهلنا عن آبائهم وأجدادهم ، ونحدث أولادنا عن آبائنا وأجدادنا، ولا ينقطع الخيط .

الراحلون يعيشون بيننا في هذه الحياة الدنيا كأنهم لم يموتوا. .يعيشون في القلوب , في 

صورهم  معلقة على جدران المنازل, في تجاربهم , في سيرهم و في كل  آثارهم و في البطولات , يعيشون في ما تعلمناه  منهم وحفظناه في الأخلاق ودروس الحياة .

هذا شأن العظماء من الراحلين , وهو شأن الناس العاديين الطيبين . الأنبياء والقادة والشعراء والفلاسفة تركوا بأيديهم ، كتبوا بأيديهم ما يخلدهم . هكذا نقرأ القرآن والإنجيل والتوراة , نقرأ حمورابي وزرادشت وكونفوشيوس ، ونقرأ المتنبي والإمام عليا وصلاح الدين وعبد الناصر وكمال جنبلاط والخميني، وهكذا أيضا نقرأ أفلاطون وأرسطو والفارابي وابن سينا , ونقرأ ديكارت ونيوتن وماركس ,  نقرأهم في أعمالهم وإنجازاتهم الخالدة على مدى الدهر .

أما الطيبون من أهلنا فنقرأهم في كتب أخرى ، في الخيوط التي يرشدوننا إلى أطرافها لنمسك بها , في خيوط العادات والتقاليد والأخلاق وقيم الجماعة  , في روابط الدم  الأسرية والصداقات ، يعلموننا قيم الانتماء إلى من حولنا ويزرعون في أحشائنا بذور التواصل والتفاعل الخلاق بين الأجيال .

إن سأل أحدكم عمن كان  جده أو جدته أخا أو أختا لأجداد الآخرين لوجد نفسه موصولا بحبل النسب   إلى  نصف سكان القرية من أترابه, وإلى بعض سكان قرى أخرى .

هذه قيم لا نرثها فحسب عن أهلنا  ، بل نتعلمها منهم مع حليب الرضاعة  وفي النصائح والوصايا اليومية , فهم قبل أن يرحلوا ينسجون بيننا , نحن الأحياء , خيوطا أخرى للتواصل تجعل للحياة معنى , معنى أن يعيش الواحد منا في حضن الجماعة.

نعم هي ثروة علاقات القربى . يعتز راحلنا أن يكون له فروع في عربصاليم والبيسارية وكفرتبنيت ، أن يكون له بيوت يعيش فيها بعد رحيله ,  أن تتكرر ملامحه  في قامات أحفاده وفي عيونهم وقسمات وجوههم . ويعتز بحبال صرة تشده  إلى أرحام الصداقة ورفقة العمر والعمل اليومي ، وإلى أرحام المبادىء والأفكار والركض وراء الأحلام الكبرى .

ثروة ونعمة  علاقات الأرحام إن هي اتسعت  ، وإن هي ضاقت غدت نقمة ما بعدها نقمة  . .إن هي ضاقت ماتت .

في مراهقتنا اليسارية  انتفضنا على الرباط العائلي جملة , عددناه يضيق على أحلامنا الأممية والقومية  ، كنا على حق جزئيا , لأن الروابط العائلية الضيقة تصنع الخصومات وتصطنع الحواجز بين الناس , إلى أن جاءت الحرب بويلاتها فأقنعتنا  بأن الروابط الأهلية هي وحدها الحامية , وروابط الأهل  ليست سليلة  قرابة الدم فحسب , بل إن الجيران أهل والأصدقاء أهل و  أبناء القرية أهل , والقرية للقرية المجاورة  اهل .

واكتشفنا انه كلما ضاقت  حلقة القرابة وتشرنقت على حالها، كلما تحولت إلى سجن تحبس أهلها فيه . كلما ضاقت حلقة القرابة ماتت .

يصح ذلك على العشيرة والقبيلة والعائلة  ، ويصح على الطائفة ، ويصح على الحزب. كلما تشرنقت عائلة أوضاقت رؤيا حزب أو تحصنت طائفة ضمن أسوارها اشتبك الجار مع جاره واشتبك القريب مع قريبه، وأمامكم امثلة من هذا التقاتل في كل مراحل الحرب الأهلية لم ينج من شروره أحد .

الطائفة التي سعت للحفاط على مصالحها على حساب سواها خربت مصالحها, ودمرت الوطن ، والحزب الذي يزرع من أجل منطقة أو طائفة أو جزء من طائفة لن يجد من يشتري منه أو يبيع .حتى الوطن إذا قطع حبال صرته وتشرنق على ذاته مات .

وطننا الصغير قريتنا , في حضنها تربينا وبين ربوعها ترعرعنا . إلى عائلاتها انتمينا. وراح كل منا  يبحث عن سبل لكسر حدود انتمائه الضيق ، ولم تكن كل محاولاتنا ناجحة.

حاولنا أن نوسع حدود القرية بالنزول إلى المدينة فوجدنا أن قريتنا هي وطننا الصغير ، وأنها هي عائلتنا الكبرى , فيها نقضي أوقات الراحة وإليها نلوذ من صخب المدن وإلى ترابها نعود بعد أن تحول الموت في المدن إلى تجارة ، ما أبشع تجارة الموت! وحاولنا أن نوسع حدودها بالعلم والجامعات وقصدناهما إلى أبعد ما يوجدان ثم عدنا لنراها مفخرتنا, يشار إليها إذا عد المتعلمون في القرى من خريجي الجامعات مهندسين وأطباء ومحامين واساتذة وأساتذة جامعات .

حاولنا توسيع حدود الإنتماء العائلي بالانتماء الحزبي فأصبنا حينا  ولم نصب أحيانا.صادفتنا صعوبات لسنا مسؤولين عنها ، فالانقسامات العائلية لا تصنعها العائلات ولا الطائفية تصنعها الطوائف ، كلاهما من صنع السياسة والسياسيين  من ذوي المصالح الرخيصة .

مع ذلك نشهد أن  هذه المحاولة غدت من تراثنا , أسسها رواد من آبائنا  ، ارتضوا أن يولوا اهتمامهم لشؤون عائلات حدودها أوسع وأرحب من انتماءاتنا المحلية , من بينهم كان ابو ابراهيم .

لم أفاجأ حين روى لي كيف نقل سلاحا وآوى مقاومين للإحتلال الإسرائيلي . لم يفعل ذلك ثأرا منه للفعل  الخسيس الذي ارتكبه بحقه جيش الإحتلال  ، حين لم يحترم شيبه ولا سنا قارب السبعين , ولا حين ساق العشرات من شباننا إلى معسكرات الاعتقال . لقد  فعله بقوة الانتماء إلى الوطن وإلى الحزب.

لم أره في أجتماع ولم يتبوأ موقعا قياديا  لكن إسمه واسم عائلته ظل طيلة حياته ولا يزال بعد غيابه قرين الانتماء إلى الحزب الشيوعي اللبناني .من كان يعرف ذلك  ، كان يعرفه بالقرينة من أنسبائه شبابا وصبايا في كل حلقات النضال من أجل عروبة الوطن ووحدة ترابه وتطوره الديمقراطي, ومن أجل العلم والخبز والحرية .

لم أقصد أن أسوق هذه الحقيقة لأصادر مناسبة التكريم وأحولها إلى مناسبة سياسية كما هي الحال في المآتم , أو مناسبة دعائية حزبية ، فوسائل الإعلام متوفرة في بيت كل منكم, والبرامج الجادة والساخرة أكثر بلاغة مني في فضح سلطة مفضوحة ، والأحزاب ليست في أحسن أحوالها , لا أحزاب نعيم السلطة الجاثمة على صدور الناس بالفساد والضرائب ، ولا أحزاب أخرى  عينها على السلطة .

لكنني أدعوكم أن تأخذوا من الأحزاب فكرة التضامن

تضامنوا لأنكم مهددون بلقمة عيشكم ومستقبل أولادكم ومستقبل الوطن

غير أني ذكرت ذلك لأعود إلى النقطة التي بدأت منها .الى الحياة الأخرى التي يحياها الراحلون .

سيحيا في قيم تعلمناها من جيله  ، في عادات القرى وتقاليدها, سيحيا في صلات الوصل التي تتركها لنا العائلات , في أصدقاء  لنا ورفاق من أولاده  وأحفاده  وأنسبائه شبابا  وصبايا  يستكملون سباق البدل لنمضي معا  في سبيل أحلامنا الكبرى   لبناء جسور من علاقت القربى تخترق حدود العائلات ولا تدمرها ، تتجاوز حدود الطائفية  لتبني  الوطن  والدولة , وطنا هو وطن  الحرية والعدالة والسيادة  ودولة هي دولة القانون والمؤسسات  .

                                                        بقلم محمد علي مقلد