23 أبريل، 2024

في تكريم ماجد مقلد

لم يأتك الموت في الحرب ، بل في استراحة المحارب، حين انشغلت بتشييع ذويك ، أبيك وأمك ، في ذلك اليوم الطويل الذي  كنت لا تزال تشيع فيه رفيقة عمرك رجاء ، اليوم الذي طال لسنوات أربع، كنت تزورها  فيه ، تزور قبرها في الليالي وتعانقه كأنك تعانقها ، وتزرعه بالورود وبالقبل كأنكما عروسان، كأنما كنت ترفض أن تفارقها أو تفارقك ، أو كأنك كنت تلح على الموت أن يأتي ، ولو غيلة ، ليضمكما معا في حفنة من تراب .

في ختام معركته مع الموت ، وقبل أن يفارقنا ، دعانا لوداعه.  ماجد ،أبو المجد، هو الذي دعانا ليودعنا . قال لأولاده ، أنا أعتذر منكم ، كم كنت أتمنى لو تطول إقامتي في هذه الدنيا معكم ، لكنني “استويت”… لم يترك هذا المرض الخبيث ، حقا إنه خبيث، في جسدي إلا نفسا متقطعا ،فتعالوا لأقول لكم كلمتي الأخيرة : أنا أحبكم  ورتبت لكم أموركم  ما أمكنني ذلك ، تضامنوا ضد الشدائد وأطيعوا من هم بمثابة أم لكم وأب ، وأنتم تعرفونهم . أما أنا فقد واجهت الموت حتى الرمق الأخير، لقد قتلني ، لكن لا تدعوه يقتل فيكم حبكم للحياة .

التقيته في لحظة الوداع قبل أن يفارقنا بساعة ، شاهدت معركته الأخيرة بأم عيني، كنت كأنني أمام بطل من الخيال. صدره حلبة المصارعة ، وبين ضلوعه تدور رحى المعركة، معركته مع الموت . وحده كان يخوض المواجهة…لم يكن يثبت على سريره في وضعية واحدة لأكثر من ثانية، ففي كل ثانية كان  يتقلب ، يتلوى ، يستدير جهة اليمين وجهة اليسار ، ينهض أو يحاول أويطلب بالإشارة مساعدته على النهوض ، ثم يستلقي ، يرفع ساقه ، يحاول أن يترجل عن السرير ثم يتراجع ، يطلب المساعدة للوقوف ثم يعدل …كان شيء ما يغلي في داخله ، شيء ما يضج في القفص الصدري، وهو لا يني يوزع على من حوله التحيات ، وهو في قبضة الألم ، ويخص أولاده الثلاثة بالقبل والحب وبوصايا تتقطع بتقطع الأنفاس.

الياس وحسين ومحمد وأبو عزيز وعبد الإله ، أولاده حازم و نور  و لارا  والقائمة طويلة ، كلهم ، كلنا ، كلما حاولنا أن نتضامن معه ضد الموت ، كنا نجد أنفسنا مكتوفين، لا مكان لنخوتنا في معركته مع السرطان ، معركة تدور رحاها في خلايا الدم . أبو عزيز وحده من بين أصدقائه المقربين، تفرد بهذا المجد لأنه استطاع أن يعطيه من دمه، أما نحن فما في يدنا حيلة. لكن ما ذنبنا ، إنه موت يشبه كل الاغتيالات ، وحيلتنا البكاء وانتظار العدالة والحقيقة ، لكن هذه المرة من لوح السماء.

  حين رأيت مشيعيك ورأيتك في وجوههم ، أيقنت أنك تشبه الوطن ، فالذين شيعوك ، أتوا من كل جهاته ومن كل طوائفه. رجال أتوا وبكوا ونساء أتين وبكين ، بكت الرجال كما النساء على غيابك ، فالذي ضاع منا ليس شخصا عزيزا على قلوبنا فحسب ، إنه حلمنا الجميل بوطن أنت تشبهه ، ونخاف أن يضيع .

رأيتك في وجوه مشيعيك ، فأيقنت أنك تشبه الوطن الذي رسمناه معا وتخيلناه معا وحلمنا به معا وناضلنا من أجله معا ، وكدنا نخسره معا ، وأيقنت أنك ، لكثرة محبيك، ستبقى حيا في حلمنا ، وسيبقى الوطن  حيا في أحلام من ناضلوا في سبيل  الخبز والعلم والحرية.

أرى فيك صورة وطني، لا لأنك حبيبي وقريبي وصديقي وأخي ورفيقي ، لا لأنك كل هذا وأكبر من كل هذا وأعقد وأغنى ، بل لأنك كنت تسكن  في قلوبنا حين كنت حياً  وستبقى ساكنا فيها طالما نحن أحياء …لأنك ، أنت الذي جمعتنا حولك في يوم تشييعك، كما كنت تجمعنا في منازلك الكثيرة التي سكنت فيها أو تهجرت إليها، في شارع معوض وفي الصنائع وبير العبد والحدث و الحازمية وعاليه و جرجوع، رفاقا من كل الطوائف والمناطق ، لأنك مثل الوطن ستبقى  مرسوما بالألوان في مخيلتنا ، نستحضرك مع كل طلعة شمس ونحملك راية ترفرف فوق رؤوسنا… ترفرف ضد الموت و القتل والقتلة .

 أوليس المتنبي محقا حين قال:

إذا أنت أمعنت الحياة وصرفها                                لأيقنت أن الموت ضرب من القتل

بل إن موتك هو القتل الفظيع بعينه. موتك يشبه الاغتيال. داهمك المرض كأنك عدوه .أو كأن له عندك ثأر، ولم يكفه أنه رملك قبل الأوان . كمن لك كما لو أنك ، أنت الشجاع، كنت تعيش بالتخفي  أو بالخوف. وأنت الذي أفنيت عمرك في ساحات المواجهة ، وسلاحك الكلمة، الكلمة الحازمة يا أبا حازم، والرأي القاطع والقرار الجريء والعمل المثابر الدؤوب ، لا تكل ولا تمل ولا تتردد ولا تنزوي ولا تهاب. فكم مرة تردد صوت المتنبي من حولك وهو يقول : أمات الموت أم ذعر الذعر… أنت المناضل الذي لم يرعبك الموت ، وعشت طيلة حياتك مشروع شهيد ، وبقيت حيا بالصدفة  مثل لبنانيين كثيرين…أنت الذي واجهته مئات المرات في حرب صنعناها بأيدينا أو انجرينا إليها ، لم يأتك الموت مواجهة ، بل اغتالك اغتيالا.

لا أغالي ، كلما ذكرته ، لو ذكرت الوطن تكرارا . يتراءى لنا ، نحن الذي عشنا وإياه الحياة بالطول وبالعرض واحتفلنا ورقصنا وأنشدنا للحزب والحركة الوطنية وللحرية والاشتراكية والأممية والوحدة العربية، وقدمنا أجمل لحظات حياتنا من أجل القضية، وناضلنا معا في سبيل الفقراء ودفاعا عن الثورة الفلسطينية  ودفاعا عن التراب اللبناني ، وحلمنا معا ، وفرحنا معا وبكينا معا ، يتراءى لنا أن الوطن مهدد بمرض عضال يشبه المرض الذي أصاب ماجد . مرض يقطع الأوصال ويحطم المناعة  ويفتت الخلايا ويوصد مجاري التنفس ويسد منافذ الحياة.

بدأنا معا في الحزب الشيوعي ، إلى أن ضاق صدر القيادة بأصواتنا المعارضة ، مع أن الاعتراض لم يكن سوى محاولة  لتفسير الانهيار الذي أطاح بحلمنا الجميل في بناء وطن يليق بأبنائه ويحميهم من غيلان المصالح الإقليمية والدولية. تساءلنا وما زلنا نتساءل ، بأي حق ينتهي الحلم الجميل وأصحابه إلى الفشل ، بينما يكسب المعركة تجار الطائفية وبائعو كرامة الوطن في أسواق الدول وبورصات المصالح ؟؟؟ إنه شيء يشبه الاغتيال ، يشبه اغتيال ماجد ، يشبه اغتيال الوطن والدولة.

 حين ضاق صدرهم  تشتت المناضلون واختار كل طريقه. اختار ماجد  أن يغادر الصفوف  ليبدأ من جديد . نترك للتاريخ أن يحكم في السياسة لنا أو علينا ، لكننا نشهد للتاريخ ، أن ماجد ناضل وضحى وأعطى وهو في صفوف الحزب ، وفي عز محنته وجد من يحتضنه من اصدقائه واقربائه  ومن أهل الشهامة من زملاء الوظيفة في الجمارك، ووجد من رافقه طيلة أيام محنته ، كما في لحظة الوداع الأخير، من أهل الوفاء والشجاعة ورفقة النضال ، من الذين آنسوه في وحدته وفي مشوار مرضه الصعب ، ولم يفارقوه حتى الثواني الأخيرة على فراش الموت في المستشفى،  وكانوا كلهم أو جلهم من مناضلي حركة اليسار الديمقراطي .

ويل إن أحب وويل إن عادى. حبه جارف ويعادي حتى القطيعة. لايساوم ولا يجامل، وأقرب الصياغات اللغوية إلى قلبه أفعل التفضيل ، فهو ليس مع الجميل والكريم والرفيع والسامي بل مع الأجمل والأكرم والأرفع والأسمى . كثيرا ما تندرنا ، في حضوره ، بمبالغاته الكثيرة وتشديده على بعض حروف الكلام ، لكنه ، كأن أبا فراس الحمداني كان يقصده حين قال:

                فنحن أناس لا توسط بيننا               لنا الصدر دون العالمين أو القبر

 لم يكن أبو المجد يرضى بغير الصدر والعلى . اسألوا زملاءه في الوظيفة ، إنه مرجعهم في القانون وصياغة المطالعات . إن أصغيت إليه وهو يحدثك عن مرضه ، تسمع منه تفاصيل وأسماء علمية ورموز فحوص مخبرية وأرقاما وأسماء أدوية وطرق معالجة  ما يفاجئك بمعرفته العميقة بحالته الصحية ، و بشجاعته في مواجهتها وفي التعامل معها ، كأنه يحدثك عن شخص آخر ،  أوكأنه هو الطبيب لا  المريض ؟. اسألوا عن حدته في الحوار،  حتى لو دخل حلقة النقاش متأخرا ، يدخل في الموضوع ،  يكون من البداية متحمسا منفعلا ويخوض النقاش بحدة  لا تخف وتيرتها مهما طالت المداخلة، فتسأل  أهو يخطب أم يساجل ، وتسأل : كيف لهذا المفرط في حدته أن  ينتقل مع من ساجلهم فيعيش معهم فرح الاحتفالات و صخب السهرات الراقصة حتى الثمالة . اسألوا كيف تعبد لزوجته بعد وفاتها ، معوضا لها عن كل إخلاله بمواعيده معها في حياتها ، فداوم إلى جوار قبرها على مدار سنوات أربع ، وعاش في وجد وحب صوفي لا نعثر على مثله إلا في الكتب والروايات وحكايات الحب المجنون .

ومثلما كان يحب ، كان يحب ( بفتح الحاء).أطباؤه جاؤوا لتقبلوا التعازي معنا ، لم يكن في نظرهم مريضا عاديا ، بل كانوا يعالجونه بحب. قرأنا على ضريحه بطاقة على إكليل ورد : من رشيد مشورب إلى رفيقي ومعلمي ماجد( تحية حب إلى روح الرفيق رشيد ، أبو صفوان) .هكذا يصير حبه جزءا من وصايا من أحبوه ، وينتقل مع الميراث من محب إلى محب. كنا نشتاق إليه كالعاشق والمعشوق ، العاشقون كثر وهو وحده المعشوق  . نلتقي في بيته ، نلتقي على حبه ، هو القاسم المشترك ، الجامع المشترك ، كم من مرة التقى خلانه في منزله وهيأوا المائدة قبل أن يصل … منازله الكثيرة لم تكن له وحده ، كانت بيوتا مشتركة ، أو أنه كان يوزع نسخا من المفاتيح على الخلان . سخي اليد واللسان والعاطفة ، بل هو نبع من السخاء المتدفق لم ينضب حتى لحظة الوداع.

حازم …نور …لارا.. يا أحبائي ، يا أحباءنا الثلاثة ، سنبقى نلتقي في منزله، في منزلكم ،  كما لو أنه حاضر بيننا ،  بل هو شديد الحضور فيكم ، ففي كل ركن من المنزل بقايا من بقاياهما ، شيء من عطرهما ، ماجد ورجاء . سنفتقد لحدته في النقاش ولمهارتها ولمساتها الذكية. لكن بيتهما سيبقى مفتوحا ، وسنرى  فيكم صورتهما، سيكون حازم سيد المنزل الحازم ونور طبيبته المتألقة وستظل  عبارات لارا تسبق عمرها لتكرر صورة رجاء

لنا الصبر ولهما الجنة