13 أكتوبر، 2024

في تكريم إميلي نصرالله

                                                                    المجلس الثقافي للبنان الجنوبي – النبطية

في خمسينات القرن الماضي أصدرت سيمون دو بوفوار كتابها ، الجنس الآخر ، فصادرته السلطات، لأنها  رأت فيه ما يتنافى مع القيم الفرنسية ، آنذاك .

وفي الخمسينات أخذت إميلي إبي راشد طريقها إلى الكتابة في الصحافة وفي الرواية .

لست أقصد من المقارنة إبراز ما تمتاز به إحدى الكاتبتين اللبنانية والفرنسية عن الأخرى أو ما تتساوى به معها .  بل ما أعنيه هومقارنة  العلاقة بين المرأة وتقاليد بلادها  .

الكاتبة الفرنسية تابعت تحدي المجتمع ، فكسرت التقاليد وقررت أن تعيش مع حبيبها وشريك حياتها ، جان بول سارتر ، كل العمر ، من غير عقد زواج ولا أولاد . أما الكاتبة اللبنانية ، فقد تزوجت ، في الخمسينات أيضا ، وصار أسمها إميلي نصرالله ، بدل أبي راشد ، لأنها لم تكن تريد أن تكسر التقاليد ، ففي بلادنا ، على ما تقول أديبتنا ، من المألوف أن تحمل الزوجة إسم الزوج  .

ظاهر الحكاية يعني أن الفرنسية تمردت على أعراف المجتمع واللبنانية استكانت لها . غير أن مثل هذا الاستنتاج ليس سوى تعبير عن أزمة العلاقة بين الشرق والغرب أو بين حضارتين وعقلين ، خصوصا بعد أن صار التطور الغربي عموما والفرنسي على وجه التحديد معيارا لكل تقدم ، وما على التلميذ إلا أن يحذو حذو استاذه . لكن حكاية التقدم والتطور ليست فحسب حكاية تلميذ هو الشرق وأستاذ هو الغرب ، لأن العلاقة بينهما لا يمكن أن ترى وتعالج في صورتها المبسطة ، بل هي معادلة شائكة ما زال الشرق يدفع ثمن تبسيطها  في كل كبيرة وصغيرة ، فما قضية مزارع شبعا  ، على سبيل المثال ، إلا التعبير النموذجي عن هذا التبسيط .

العلاقة ليست تفاعلا أو تقليدا فحسب ولا هي صراع فحسب .بل هي الأمران معا وبصورة أكثر تركيبا وتعقيدا . وبهذا المعنى إجيز لنفسي أن أحكم على السيدة إميلي بأنها ثائرة متمردة من الطراز الرفيع ، بل قد تكون أكثر تمردا على التقاليد اللبنانية من سيمون دو بوفوار على التقاليد الفرنسية ، وهي في الوقت عينه سيدة محافظة ، قد يحمل تمسكها بالتقاليد  على إطلاق أحكام ظالمة بحقها .

  لم يسبق لي أن التقيتها . وها أنذا آت لأتعرف عليها للمرة الأولى . لكنني ، مما قرأته لها ، تخيلت أنني سأكون في حضرة سيدة ، وإن تقدم بها العمر ، أطال الله عمرها ، ما زالت تحمل خجل الصبية الأولى التي غادرت قريتها إلى المدينة في منتصف القرن الماضي ، وهو الخجل ذاته الذي جعلها تبدو محافظة متمسكة بالتقاليد ، الخجل ذاته الذي تناقض صورته ما علق في المخيلة  عن الثورة والثوار . أحد معاني الثورة في بلادنا الصوت العالي والصراخ ومكبرات الصوت . بئس الذي جعل الثورة مرادفا للفجور .

نحن تبعنا خطواتك يا ست إميلي ، رمانا أهلنا الفلاحون في أتون المدينة ، خفنا منها ، جعلناها عدوا أو ملاذا . نظرة أبناء الفلاحة إلى المدينة تشبه نظرة الشرق إلى الغرب . المدينة غرب الفلاحين . الفلاحون المسالمون دخلوها آمنين لينعموا بفتات خيرها الوفيرحمالين وماسحي أحذية وأجراء ، ليصيروا جزءا من واجهاتها الجديده في النهار ، ومن وسخها المستور في الظلام ، أما المتمردون على حضارة الفلاحين وعلى كل حضارة فما أن وصلوا المدينة وانبهروا بها حتى نهبوها  ودمروها ، لأن المدينة ، في نظرهم عدو ، نهبوها باسم حضارة الغزو والبداوة وقيم الصحراء ، وسموا ذلك ثورة . لكنك أنت يا دكتوره إميلي رسمت التمرد  بالمثابرة وصنعته بالخجل . كنت ثورة مجبولة بالخجل .

إميلي أعادت صفها الابتدائي الثالث ثلاث مرات . لم ترسب فيه ، مع ذلك أعادته . أعادته بسبب اجتهادها ، حيث لم يكن في مدرستها صف أرفع منه ، وهي تريد أن تتعلم ، والحل هو أن تكرر الدراسة في أعلى الصفوف المتوفرة . كان ذلك ، في وجه منه ، تمردا . ذلك أن مقاعد الدراسة لم تكن من مقاصد الأنثى ولا من حقوقها ، بل هي للذكور أولا ، والمحظوظة منهن  يمن عليها أهلها المتنورون بفرصة الدخول إلى مدرسة في القرية ، ومحظوظة أكثر من يرضى أهلها المتنورون بإرسالها إلى المدينة ، بعيدا عن عيونهم . كان من الطبيعي إذن إلا تتمرد إميلي على التقاليد ، على طريقة سيمون دو بوفوار ، لأن في المجتمع اللبناني طقوس وتقاليد تساعدها ، ما جعلها تخجل إن هي اختارت نهج التمرد الشامل ضد كل الأعراف على طريقة سيمون دو بوفوار . فأعراف أهلها لم تكن عائقا أمام انتقالها إلى العاصمة ، ولا أمام  انفتاح أبواب المدرسة الثانوية والجامعة أمامها .

من الكفير إلى بيروت رحلة ، هي رحلة العمر ، وهي الانتقال السلمي من حضارة إلى حضارة ، من ريف إلى مدينة ، من الأرض إلى المصانع والمكاتب ، من أزقة موحلة وبيوت من طين  إلى اسفلت الشوارع وباطون البنايات المسلح . هذا الانتقال كلف البشرية حروبا وعرقا ودماء . أنجزته السيدة إميلي ، على الصعيد الشخصي ، بحروب غير معلنة على بعض التقاليد ، وبتمسك ببعضها الآخر . كانت تنحني ، تاركة العاصفة تمر ، لكنها لم تتراجع ، بل مضت في رحلة  التمرد  على حضارة القرى ، من غير أن تتنكر لقيم الفلاحين . تلك هي المعضلة : أن يهجر المرء حياة الفلاحين ويبقى متسلحا بقيمهم ، أن يغزو المدينة يتسلل إليها من غير بابها الأصلي ، وينتهك معايير الشطارة والتنافس والمزاحمة المشروعة وغير المشروعة فيرفع ، في ساحاتها ، قيم الفروسية التي لا تعيش على رفوف المتاجر .

هذه الرحلة تبدو سهلة و قصيرة بين الكفير وبيروت ، لكنها ، في الحقيقة والواقع ،  أصعب وأبعد من ذلك واطول بكثير ، إنها الرحلة الممتدة من ظلام القرون الوسطى حيث لا مدرسة ولا كتاب ولا مطبعة ، إلى أنوار عصر النهضة والصحافة والمدارس والجامعات ، رحلة هي قيد الانجازفي بعض مجتمعاتنا ، وقيد التشويه في بعضها الآخر ، وقيد التدمير في بلاد الظلام والأصوليات . يوم بدأت إميلي الرحلة كانت بلادنا تكرم تاريخها ، تستنهضه ، و في ربوع بعلبك أشرقت مهرجانات  ، وفي مرحلة لاحقة انتهكت جحافل الجهلة قلاع التاريخ ، ودمرت عصابات المتعصبين تماثيل التراث ، وحلت طالبان التخلف بديلا عن طلاب العلم  ، وصارت جامعاتنا اللبنانية محلا نمارس فيه كل أنواع الطقوس إلا طقوس العلم والمعرفة .

في هذا المسار المتعرج الصعب بين الحضارتين امكن لهذه الأنثى ، لهذه المخلوقة الضئيلة حسب تعبير أميلي ، أن تنتقل من أبو راشد إلى نصرالله ، ومن الكفير إلى بيروت ، ومن الصف الابتدائي الثالث إلى الجامعة ومن مشروع ربة منزل إلى الصحافة وعالم الرواية ، ثم من شطر بيروتي إلى شطر آخر ، ومن لبنان إلى بلاد المهجر ، إلى أن صار موضوع الارتحال والهجرة والسفر مادة أساسية في روايتها .

  في هذا الارتحال الدائم ، وأيا كانت محطات الوصول ، ظلت تحمل على عاتقيها وفي حقائبها وعلى صفحات ذاكرتها القريبة والبعيدة هموم الريف ، وظلت تظهر في صورة الفلاحة الطيبة ، وتحمل معها ، على ما تقول ، بعضا من طباع الفلاح وعناده ، وإن كتبت عن شاعر قالت عنه أنه يكتب على ورق الشجر ، إشارة إلى قصائده الريفية . وإن تحدثت عن نفسها ذكرت أنها كانت تعيش التقشف حتى أقصى حدوده ، تماما كما تعودته في حياتها القروية .

 هذا الريف المحمول على ريشة القلم ، في طيور أيلول وشجرة الدفلى وعلى بساط الثلج وفي محطات الرحيل وكل الذكريات هو المفضل لديها على شطارة المدينة وقيمها ، وعلى ” ما تصبه علينا حضارة التكنولوجيا والدجل السياسي والرياء الرسمي . أمور كثيرة حصلت وتعاونت على انتزاع قدرتنا على الابتسام وعلى كتابة المرح في حياتنا وصحفنا “

مأزق هذه الرحلة بين الحضارتين ، الريف والمدينة ، هو اندثار المسافة بينهما ، واختلاط حابل هذا بنابل تلك ؛ حيث صارت مدن الصفيح ريفا في قلب المدن ، وغزت تكنولوجيا الدجل السياسي كل الأرياف ؛ حيث صار لكل قرية حي في المدينة ، وغابت عن الحقول السنابل وغرست في  البساتين المكائد وتصحرت قيم الفروسية ؛ حيث المال قادرعلى إغواء سكان القرى كما الفقرقادر على إذلالهم ، والفقر والمال قادران على تهجيرهم  نحو المدن  وإرغامهم  على  استبدال  الأوطان  ” كالراقصات في المقهى ” على قول محمد الماغوط  

تحت وطأة هذا المأزق يبدو ذلك الريف ريفا مستحيلا . بل ريف كالأسماك المتحجرة من عصور جيولوجية سحيقة ، ريف تحنط في ذاكراتنا كمومياءات الفراعنة ، أو يرقص في أغاني الرحابنة الجميلة … هذا الإلحاح على ريف مستحيل وإلى حنين مستحيل  يجعل كل شيء مستحيلا ، وليس أجمل من مقاربة الماغوط لمثل هذه الاستحالة ، فهو يقول في قصيدة رسالة إلى القرية :

مع تغريد البلابل وزقزقة العصافير

أناشدك الله يا أبي :

دع جمع الحطب والمعلومات عني

وتعال لملم حطامي من الشوارع

قبل أن تطمرني الريح … أو يبعثرني الكناسون

هذا القلم سيوردني حتفي

لم يترك سجنا إلا وقادني إليه

ولا رصيفا إلا ومرغني عليه

وأنا أتبعه كالمأخوذ

كالسائر في حلمه

… لقد حاولت مرارا وتكرارا

أن أنفض هذا القلم من الحبر

كما ينفض الخنجر من الدم

وأرحل عن هذه المدينة

ولو على صهوة جدار

ولكنني فشلت

… فاقتلعني من ذاكرتك يا أبي

وعد إلى محراثك وأغانيك الحزينة

لقد تورطت يا أبي

وغدا كل شيء مستحيلا

كوقف النزيف بالأصابع

الحنين المستحيل إلى حضارة الزرع والحقل والفروسية والنخوة والعونة والكرم والطاحونة جعلها تكتب عن ضحايا الحضارة الجديدة ، ضحايا المدينة ، ” عن الناس الهابطين حتى أعماق البؤس والأسى … عن المتسولين والأولاد بائعي العلكة ، عن الحمالين تطاردهم الشرطة … عن السجون … السجين إنسان يفتديني لأنعم  بحريتي “

غير أن ذلك لم يكن مستحيلها الوحيد . الثاني هو المستحيل السياسي . هي من الكفير البلدة التي تحدر منها فارس الخوري أول رئيس وزراء في سوريا . في الأربعينات ثم في الخمسينات كانت العلمنة تشع كاللؤلؤة في أروقة السياسة ، وكانت بلادنا لا تميز بين مسلم ومسيحي ، وكان التوزيع الطائفي للرئاسات الثلاث في لبنان مجرد مرحلة عابرة في الدستور ، وكان الانتماء القومي أقوى من أي انتماء ، وكانت أبواب المستقبل مشرعة على أحلامنا الجميلة ، وكانت الثورة الفلسطينية تتفتح مقاومين وشعراء وأدباء ، وكانت الصحافة مصهرا لأقلام من كل الطوائف والمناطق ، وملتقى الرواد من كل أنواع الفنون ، وكانت أميلي تلتقيهم في الصياد ، تحت خيمة سعيد فريحة . أسماء لامعة في تاريخنا الحديث ، أمين نخلة ومارون عبود ، هاشم الأمين وهشام أبو ظهر ، يوسف الخال ومجلة شعر ، بيار صادق وسونيا بيروتي . ومن خلال الصحيفة أتيح لها أن تلتقي بعلية القوم من الرؤساء والوزراء وزوجاتهم وزوارهم الأجانب ، كما أتاح لها قلمها أن تلتقي أدباء وتشارك في مؤتمرات ، وأن يلمع إسمها  روائية لبنانية بين روائيين ، وحيدة بين الذكور في عالم الرواية ، لكن واحدة من عديدات رائدات في مجتمعنا في مجالات النشاط الاجتماعي ، الخ . الخ .

كل ذلك كان . وكان كل شيء جاهزا لكي تستكمل أميلي رحلتها من حضارة إلى حضارة ، من القبيلة إلى الدولة الحديثة ، من الدولة الدينية إلى الدولة العلمانية المدنية ، من الاستبداد إلى الديمقراطية ، الخ . الخ .

فجأة انقطع المسير في مبتداه . نكسة وحرب أهلية وأنظمة أمنية حاكمة باسم المصالح القومية العليا. تقطعت أوصال الوطن  بالمتاريس ، استسلمت سياسة المدينة وعاد الفلاحون إلى السلطة  . قيم الفلاحين رائعة إلا في السياسية ، هم أسوأ طبقة سياسية في تاريخ الكون ، على رأي ماركس ، لأنها طبقة تقدس جلاديها وتدين بدينهم ، وترضى أن تكون وقودا لنار مكائدهم .  أنقطعت رحلة إميلي ، فتهجرت ثم هاجرت ثم عادت واستوطنت ، ” على سفر جواب أرض تقاذفت به فلوات ” على رأي عمر بن أبي ربيعة  .لكن هذا السفر القسري ليس السفر الذي كانت تأمل به . ترحالها كان سفرا إلى الأجمل ، أما هذا فهو عقوبة تكوي بنارها المؤمنين بوطن دائم ، الساعين وراء أنوار العلم ، الباحثين عن المعرفة وعن السكينة .

السفر الطوعي الأول جعلها تكتب حنينها إلى ماض ريفي جميل بطبيعته وقيمه وعاداته وتقاليده ، أما السفر القسري فقد رماها في طاحونة المتاريس وصور التعصب والحروب الأصيلة والدخيلة والمستعارة ، فراحت أميلي تكتب عن هذا القفز فوق المتاريس ، حاملة معها أطفالها ، بحثا عن مكان آمن ، والآمن اليوم قد يصبح هوالخطر غدا .

ها نحن اليوم يا سيدتي ، نبحث مثلك عن وطن أحلامنا ، بين ركام القيم المندثرة . نرسم معالمه خارج حدود القبائل ، على تخوم الريف المنقرض والمدن المهدمة ، ومثلك نقاوم الجهل والتعصب بالمثابرة العنيدة على مواجهة الطائفية والطائفيين وسماسرة الأوطان ومحاصصيه وفاسديه ومفسديه.إن أجمل الأوطان وطن رسمته لنا بالقلم الفلاحة الصحافية الروائية الأديبة الخجولة الرقيقة الحنونة الدكتورة أميلي أبو راشد ، أميلي نصرالله .

تحية المجلس الثقافي لك في يوم تكريمك .