23 نوفمبر، 2024

التوتاليتاريا في كتاب للدكتور حسن يونس

اللقاءات الأولى بحسن يونس مناضلاً كانت في ثمانينات القرن الماضي. التقيته صدفة بعد ثلاثة عقود وأخبرني عن دراسة أنجزها لنيل لقب دكتور في الفلسفة، موضوعها نقد التوتاليتاريا. تمنيت عليه أن يدعوني إلى الحضور يوم سيدافع عن أطروحته. أوحى إليّ عنوانها ونقاش الأساتذة بأنه يحرث في الحقل الذي أحرث فيه،  وأننا نمضي معاً في إجراء قراءة نقدية لتجربة الأحزاب الشمولية، ونمضي في الوقت عينه في عملية نقد ذاتي لتجربتنا النضالية في صفوف الحزب الشيوعي اللبناني والحركة الوطنية اللبنانية وحركة التحرر الوطني العربية، مع أنه تحاشى في دراسته الخوض في القضايا المحلية.

أسعدني، قبل اطلاعي على الأطروحة، أن أحضر مناقشتها موقّعة باسمه طالباً في الجامعة اللبنانية، لكنني اطلعت عليها قبل خروجها إلى النور كتاباً موقّعاً باسم الدكتور حسن يونس.لأنني عاينت صفحاتها كرسالة جامعية  فقد وضعت نفسي موضع عضو في  لجنة المناقشة وسجلت ملاحظاتي على هوامشها، لكنني صرت أكتشف، شيئاً فشيئاً، أنني أمام نص محكم سيفيدني كثيراً في استكمال دراستي عن الموضوع ذاته، وسأعتمده مرجعاً من مراجع دراستي، ولست أبالغ في القول، إن هذا الكتاب، إن وافق الدكتور حسن، هو بمثابة جزء أول من كتاب أعدّه عن الأحزاب الشمولية وسيحمل عنوان ” أحزاب الله”. ذلك أن حسن يطرح في نهاية دراسته أسئلة خمسة عن مخاطر تحول الديمقراطية إلى توتاليتاريا، وعن دور الإيديولوجيات الدينية والعلمانية في تأصيل القهر والاستبداد، وعن المكانة التي يحتلها العنف في ثقافة مجتمعاتنا، وعن كيفية بناء الدولة العصرية، وعما إذا كانت حروبنا ونزاعاتنا نتاج تآمر خارجي أم نتيجة عجز عن قبول التعدد والتنوع، وهي الأسئلة التي أعالجها في كتابي عن الأحزاب الشمولية، أحزاب الله.  

انصب اهتمام حسن يونس على الجانب الفلسفي في مواجهة التوتاليتاريا، وتحديداً على اثنين من فلاسفة القرن العشرين، هما حنة أرندت الألمانية الأصل، وكارل بوبر النمساوي الأصل. وهما من مواليد بداية القرن، عايشا تجربة الحرب الأولى ونشأة الأحزاب الشمولية النازية والفاشية والشيوعية. فيما ينصب اهتمامي، لا على الجانب الفلسفي، بل على الممارسة النظرية، البراكسس، أي التطبيقات النظرية لدى مفكرينا و أحزابنا العربية، القومية والدينية واليسارية، وسأخص بقراءتي  النقدية استاذي وصديقي ورفيقي مهدي عامل الذي أرشدنا وهو حي على طريق النضال السياسي والفكري، وحفزنا غيابه المفجع على البحث، داخل تراثنا النضالي الغني، عن الأسباب التي تضع كل مفكر حر كمهدي عامل أو حسين مروة داخل حقل الرماية المشترك بين أبناء الصف الواحد من حلفاء النضال المفترضين ضد الأمبريالية والصهيونية والاستعمار. وكم ذهلت حين تأكد لي أن اليقينيات هي القاتلة، أياً تكن هوية من يحمل الخنجر أو كاتم الصوت. واليقينيات ليست حكراً على أصولية فكرية أو سياسية أو دينية دون الأصوليات الأخرى.

يبحث حسن عن أصل التسمية، استبداد، دكتاتورية، طغيان، أوتوقراطية، حكومة مطلقة، فاشية، توتاليتارية، قهر، استعباد، وعن الجذور الفلسفية لهذه العاهة في سلوك الأنظمة السياسية، من فلسفات ما قبل الميلاد حتى الثورتين البلشفية والصينية. ربما انحازاً منه إلى منهج حنة أرندت، مع أنه يعترض على معظم آرائها، بدأ من حيث بدأت وراح يغوص في التراث بحثاً عن جذور الاستبداد، من أفلاطون وأرسطو إلى مكيافيلي في العصر الوسيط، إلى مونتسكيو وروسو وإريك فروم والنظريات الحديثة عن نمط الانتاج الآسيوي، فتعددت أسماؤها بتعدد مراجعها، فهي “عاشقة التراث الإغريقي والروماني” وهي فيلسوفة الحرية وفيلسوفة التعددية وفيلسوفة الثورة في آن معاً.

الانحياز عدو العلم، ويتنافى مع منهج البحث عن الحقيقة. ربما كان وقوع حنة أرندت في الانحياز هو الذي جعل حسن، بحدسه السليم، يعترض على أفكارها في أكثر من مكان في دراسته. هي انحازت للتجربة اللينينية  وأقل منه للتجربة الصينية، وحصرت بالستالينية مفاسد التوتاليتارية اليسارية، مثلما انحازت لليهود فاحتكمت إلى معيار وحيد لإدانة النازية، هو معاداة السامية، متجاهلة كل العوامل الاجتماعية والاقتصادية التي ساهمت في نشوء تلك الظاهرة، ولاسيما العامل المتعلق بالقضية القومية، وهو الأكثر توليداً للعنف في التاريخ الحديث، والقضية اليهودية ليست إلا واحدة من تجليات القضايا القومية المعاصرة.

أما كارل بوبر فهو، في نظر حسن يونس، فيلسوف التنوير، وفيلسوف العلم، وفيلسوف التواضع، وفيلسوف السلام، وفيلسوف النقد، وفيلسوف الديمقراطية، وفيلسوف الهندسة الاجتماعية، وفيلسوف الوضوح والبساطة، وهو كانط القرن العشرين. تشير هذه التسميات إلى منسوب عال من الإعجاب أبداه حسن تجاه كارل بوبر، إلى حد يوقع  البحث على شفير انحياز يبرر الأخطاء المنهجية، فيما تتحدد هوية البحث العلمي بصفته بحثاً عن الحقيقة لا إخفاء لها.

يميز كارل بوبر بين المجتمع المفتوح والمجتمع المغلق، فيسنب الأول إلى الديمقراطية والثاني إلى الصهيونية. وإذا كانت أرندت أخطأت بانحيازها حين جعلت العداء للسامية مقياساً لتفسر أسباب ولادة النازية، فإن بوبر ارتكب الخطأ المضاد حين جعل الصهيونية محركاً للتاريخ، من غير أن يقصد معارضة الفكرة الماركسية التي تحدد الصراع الطبقي كمحرك للتاريخ، لكنه ليس الوحيد، بل هناك كثر شاركوه وكثر يشاركونه الرأي اليوم  في تفسير الوقائع بمكائد ومخططات اللوبي الصهيوني في هذا البلد أو ذاك من العالم.

الانحياز أول الطريق نحو التعصب، والتعصب عدو العلم الأول. لم ينتبه حسن إلى أن الفلاسفة الأوربيين جميعاً، بمن فيهم ماركس، وقعوا في خطأ المركزية الأوربية، فيما وقع سواهم في الخطأ المضاد، وهو ما أشار إليه مهدي عامل وصادق جلال العظم في كلامهما عن استشراق إداور سعيد الذي هو نوع من المركزية الأوروبية المضادة. وخلاصتها إقامة التمييز بين شرق وغرب، على أساس أن الشرق شرق والغرب غرب ولا يلتقيان، وأن الغرب للعلم والفن والشرق للروحانيات، وأن الغرب تقدم والشرق تخلف، والغرب إبداع والشرق استبداد إلى آخر تلك المفاضلات المغلوطة المتحدرة كلها من خطيئة أصلية تنسب الحضارة الحديثة إلى أصول جغرافية فتسميها حضارة غربية، وهي مصطلح ينطوي على كثير من الغموض والالتباس. الخطأ المنهجي ذاته يرتكبه غربيون أو شرقيون يرون أن الديمقراطية ظاهرة متحدرة من اليونان القديمة أو من الشورى الإسلامية، فيشيدون كل بتاريخه،  وبه فخورون  وإليه منحازون وعن نقده ساهون. في المقابل، نقرأ نقداً غير موضوعي ينظر إلى تخلف العالم العربي كما لو كان قدراً، و إلى نهضته بعين التشاؤم واليأس كما لو أن العالم العربي لا يخضع لقوانين التاريخ.

تصويباً للنقاش وتسهيلاً للإجابة على السؤال ذاته الذي طرحه شكيب إرسلان: لماذا تقدم الغرب وتخلف الشرق، وهو سؤال ينطوي على خطأ التصنيف الجغرافي ذاته، نقترح أن نتعامل مع التوتاليتاريا بصفتها ظاهرة من إفرازات الحضارة الحديثة، وهي ليست متحدرة من أي تراث استبدادي أو دكتاتوري أو طغياني قديم، رغم كل أوجه الشبه الظاهرة والمستترة.

الاستبداد ظاهرة قديمة في التاريخ. قال المتنبي عن الظلم:

والظلم من شيم النفوس فإن تجد               ذا عفة فلعلة لا يظلم

وقال عمر بن أبي ربيعة:

ليت هنداً أنجزتنا ما تعد                        وشفت أنفسنا مما تجد

واستبدت مرة واحدة                            إنما العاجز من لا يستبد

وإن كنا لا نوافق حسن على التفسير النفسي لظاهرة الاستبداد، فإن العامل النفسي الفردي قد يكون مشتركاً في جميع أشكال الاستبداد، لكن الاستبداد، كما يؤكد حسن والفلاسفة الذين تناولهم بالدراسة، ظاهرة سياسية بالدرجة الأولى عرفتها كل أنظمة الحكم القديمة والحديثة، وواجهتها البشريةعلى امتداد التاريخ، باسم الحرية والمساواة،  للتخفيف من وطأتها ونقلها من طور وحشي إلى طور أقل توحشاً، ولم تحقق نجاحاً نسبياً ملموساً إلا في الحضارة الحديثة، وذلك لأن الحرية لم توضع كنقطة على  جدول عمل التاريخ إلا مع ديكارت والكوجيتو الشهير، أنا أفكر إذن أنا موجود، الذي جعل العقل والتفكير الحر، وبالتالي عقل الإنسان الفرد وحرية الإنسان الفرد، محور الكون. قبل القرن السابع عشر كان مطلب الحرية ظاهرة معزولة أو محصورة وإن تعددت نماذجها في تاريخنا من طرفة بن العبد على سبيل المثال إلى المعري، أو في تاريخ الشعوب الأخرى.

من ناحية أخرى، لم تتحول قضية الحرية إلى قضية سياسية عامة إلا بالثورة الفرنسية، التي شكلت بداية النهاية لتاريخ الاستبداد القديم، وقد تمكنت البشرية من تكريس الحق بالحرية من ضمن قائمة حقوق الإنسان التي أقرت في شرعة حقوق الإنسان ثم في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

المساواة هي الأخرى طرحت على جدول عمل التاريخ كقضية سياسية مع الثورة الفرنسية أيضاً، وتولى النضال في سبيلها من شحن المصطلح بدلالة قانونية  ومن شحنه بدلالة اقتصادية، فانطوت إما على معنى المساواة أمام القانون إما على معنى المساواة في تحصيل أسباب المعيشة. قبل الثورة الفرنسية لم تطرح قضية الحرية ولا قضية المساواة على جدول عمل التاريخ، ما يعني أن تلك الثورة شكلت منعطفاً في منظومة القيم السياسية والاقتصادية والثقافية أي في منظومة حضارية جديدة من سماتها أنها حضارة كونية نقطة انطلاقها بعض بلدان أوروبا ومداها الكرة الأرضية وأعماق المحيطات وأعالي الفضاء والمجرات، وقد كان ثمن تمددها حروباً طاحنة داخل أوروبا في البداية على امتداد قرنين من الزمن انتهت بحربين عالميتين ذهب ضحيتهما ملايين الضحايا على الكرة الأرضية.

هذه الحضارة هي حضارة رأسمالية، لا هي غربية ولا هي مسيحية ولا هي أوروبية، مع أن نشأتها وانطلاقتها كانت في الغرب الأوروبي والمسيحي معاً. ذلك أن حروبها الأولى كانت داخل بلدان الغرب الأوروبي وبين بلدان تدين كلها بالمسيحية، وأنها خاضت حروبها الأولى ضد سلطة الكنيسة التي واجهت الحضارة الجديدة بعنف ودفنت المبشرين بها أحياء في محاكم التفتيش. كيف يمكن إذن أن ننسب تلك الحضارة إلى المسيحية؟؟؟

خلافاً لكل الحضارات السابقة، تميزت هذه الحضارة بأنها كونية الطابع وليس لها مدى محدد، بل هي تتوسع حيث تكون قادرة على التوسع، لذلك بدا التوسع عدواناً، على أوروبا المسيحية قبل سواها، ثم على سائر بقاع الأرض، واتخذ العدوان شكل الاستعمار.

الحضارة الرأسمالية هي النسخة الثالثة من الحضارات المعروفة في التاريخ. النسخة الأولى هي حضارات ما قبل الديانات التوحيدية، ويمكن تسميتها بالحضارات الريعية التي يسود فيها العقل الأسطوري والحاكم فيها لا يمثل الله بل هو الإله ذاته؛ الثانية هي الحضارة الاقطاعية التي سادت بعد ظهور الديانات التوحيدية السماوية وغير السماوية، وفيها يسود العقل الغيبي والحاكم فيها هو ممثل الله على الأرض؛ الثالثة هي الحضارة الرأسمالية التي يسود فيها العقل العلمي والحاكم فيها يمثل الشعب.

أخذت هذه الحضارة بالتوسع من ثلاثة أبواب، باب العلم والثقافة والجامعات ومراكز الأبحاث والاكتشافات، وباب الصناعة والاقتصاد الرأسمالي والاستثمارات، وباب النظام الديمقراطي. لكن الرأسمالية لا تقوم إلا على تنافس دفعت البشرية ثمنه في حروب طاحنة، ولم يتعقلن هذا التنافس إلا بعد الحرب العالمية الثانية، إذ قررت البلدان الرأسمالية الكبرى عدم تحويل التنافس إلى عنف، وابتكرت صيغة من الديمقراطية في أنظمة الحكم هي مساومة بين الحرية والمساواة، وأخذت هذه المعادلة المزدوجة تتعمم شيئاً فشيئاً على كل دول العالم، فانتشرت الديمقراطية على سائر أنحاء أوروبا ثم على أميركا اللاتينية ثم على إفريقيا، وظلت بعض بلدان العالم ، وخصوصاً العالم العربي، تعاني آلام الولادة ، أي الانتقال من أنظمة الوراثة إلى أنظمة ديمقراطية.

احتاج التنافس الرأسمالي إلى تأجيج المشاعر القومية التي بلغت ذروتها في نظام الحكم التوتاليتاري النازي في ألمانيا والفاشي في إيطاليا، أما نظام الحكم الشمولي في الشيوعية فقد ولد خارج قضية التنافس الرأسمالي والصراعات القومية، واتخذ شكله الاستبدادي الخاص من توليفة تجمع بين نظام حكم معاصر يعتمد ظاهرياً على الدستور ونظام وراثي.

يتجسد الاستبداد إذن بأشكال شتى، قديمة متحدرة من أنظمة وراثية لا دساتير فيها، أو حديثة تنتهك فيها الدساتير والقوانين ويتم فيها تزوير التمثيل الشعبي، ويتسبب الاستبداد، عند استعصاء الحلول، بأزمات تتخذ شكل الحروب الأهلية، وهو ما تعانيه بلداننا العربية من المحيط إلى الخليج.

مخرج واحد وحيد لهذه الأزمات، توصلت إليه دراسة حسن يونس: الانتقال إلى الدولة الحديثة، دولة القانون والمؤسسات والكفاءة وتكافؤ الفرص، دولة الفصل بين السلطات وتداول السلطة، دولة الحريات والديمقراطية.

نشد على أياديك يا حسن في مشروع الحل هذا.

انت موضع اعتزازنا.