27 نوفمبر، 2024

في تكريم أبو علي محمود فرحات

هذا الرجل له في ذاكرتي مكانة مميزة

قبل ثلاثين عاما، حين أصيب والدي بسرطان الحنجرة ، ونصحه الأطباء عدم التدخين، امتثل أمام عائلته لنصيحة الطبيب ، لكنه كان يأتي سرا إلى رفيق دربه ، أبي علي، ليخرق النصائح ورقابة العائلة

أبو علي وحده كان موضع ثقة والدي ، رحمهما الله، في اختيار السجائر وفرم التبغ العربي. كانا ، حين ينتحي واحدهما زاوية ويجلس القرفصاء، أو على ركبة واحدة ، وفي يده سكين ماضية وقطعة  خشبية ومنديل أبيض، يستغرقان السهرة أو جزءا كبيرا منها في تأمين مؤونة اليوم التالي للتدخين ، أو ما يكفي لهما وللضيوف ، للف خمسين أو سبعين أو مئة سيكارة من لفائف التبغ الأشقر كشعر الصبية.

لست أدري ما إذا كان ألو علي قد حظي بصديق يوفر له السجائر ، بعد أن حظر الطبيب عليه التدخين ، غداة فاجأه المرض في الرئتين.

لمثل هذا النوع من المساعدة فلسفة عند أبي علي وأبناء جيله…كان على حبه لوالدي يتواطأ معه على خرق المحظور، وفاء منهما لعشرة العمر، والعشرة ليست بين البشر فحسب ، بل هي بين البشر وعاداتهم أيضا، بين البشر وأشيائهم وأدواتهم وعدة شغلهم . إنه إذن صنف من الوفاء للعادات ، حتى للسيء منها والمضر.

هو، فضلا عن ذلك،صيغة من صيغ التضامن بين أبناء الحرفة الواحدة ، ضد خصوم هذه الحرفة ، تماما كما يتضامن النقابيون ضد أرباب العمل ….بين مدخنين اثنين وسيكارتين وطبيب ، الطبيب هو الغريب، وإلفة العمرمع عاداتنا، حتى لو كانت مؤذية، تجعل الطبيب بمثابة الخصم …لأنه لم يبق ، في نظرهم ، من العمر أكثر مما مضى.

ليس هذا آخر ما تبقى في ذاكرتنا من أبي علي…كنت قبل ذلك بعشرين عاما ونيف ، أتأتئ إسمه على لساني ولا تطيعني طفولتي على تلفظ إسم محمود صحيحا . ثم مضى بنا العمر وأبو علي جزء من حياتنا اليومية حول الموقد في ليالي الشتاء الباردة . عائلتان كأننا عائلة واحدة ، وصارت الإلفة وعشرة العمر مدرسة تعلمنا منها ما تعلمناه من أهلنا الفلاحين ، من أهلنا فقراء القرى.

تعلمنا منهم ، من أبي علي محمود ، إباء وعزة نفس لا يملكهما من يملك ثروات الأرض، وتعلمنا منهم صبرا على الفقر وعلى مقاومة العوز ، وعلى مجابهة الظلم ، وكان ذلك كله ذخيرة للجيل الذي قاوم الاحتلال ودحر الغزاة. وتعلمنا منهم  الفروسية من غير أن يملكوا فرسا ولا جاه الفرسان.

وتعلمنا منهم كيف نقابل متاعب الدهر بالرضى ، وبكنز القناعة الذي لا يفنى.

وتعلمنا منهم قرين الرضى والقناعة ، تصميماعلى مواجهة المتاعب بطموح أصحاب الكفاف من الفلاحين ، نمد أيدينا بطول بساطنا ، ونمط أحلامنا بعلو طموحنا. خرجنا من الأرض والفلاحة إلى الجامعات ثم عدنا إلى علاداتنا   وتقاليدنا ، ووجدنا أن الجامعات والمدارس وفرت لنا فرصا أفضل للعمل وتأمين متطلبات الحياة، لكننا وجدنا أن مدرستهم توفر فرصا أفضل لصوغ علاقات ودودة بين الناس تقوم على الصدق والصداقة

مملكتهم هي الأرض . حقل وبستان وبقرة حلوب وقن دجاج وحطب ودخان وتبغ عربي. ومملكة سواهم قصور وشركات مساهمة وأرصدة بنوك وخدم حشم وحرس وطائرات …ومع ذلك ، كانوا هم ، على رأي الشاعر ، ملوك الأرض ، لا لأن الفلاح المكتفي هو ، على قول المثل ، سلطان مخفي ، لا لهذا فحسب ، بل لإنه كان يكفيهم ، لحماية مملكتهم ، أن يسيجوها بالشجر الشائك صونا لها من لصوص النهار وثعالب الليل ، أما مملكة سواهم فهي بالذات المملكة التي حماتها هم اللصوص وثعالب الليل والنهار.

أبو علي كان طبيب الشجرة الجراح . مبضعه لا يخطئ ، وسكينه مع البراعم مثل القلم في يد الشاعر أو الريشة في يد الرسام أو الإزميل في يد النحات . يعرف مواقيت الشجرة ، وتبوح له بأسرارها، وتأنس البراعم لدفء أنامله . مثل الطبيب أو المهندس وعدتهما في حقيبة ، كانت عدته على خصره أو في جيبه ، يلبي نداءات البساتين والفلاحين ، ويقول لمولود الشجرة الجديد ، كن فيكون: أنت في الربيع وذاك في أول الصيف ، وفي كل عام ثمر وخصب ، ومن خصبه وثمره أتى يوسف ومحمد برعمين صغيرين، وأصبحا شجرا وارفا من دفء حبه ومن مدرسته ومن الجامعات والعمل الناجح.

هكذا كان أباؤنا الفلاحون. لم يكونوا فحسب أرضا وشجرا ومزروعات. أهلنا القيم ، أهلنا الكرم والبيوت المفتوحة …أهلنا القلوب المفتوحة.

بيوت صغيرة كأنها مصممة لتسع القرى بكاملها ، وقلوب كبيرة مصممة لتسع هموم الدنيا . أين من تلك البيوت والقلوب قلوب في حضارة اليوم قاسية كالحجارة وبيوت رخوة وشاسعة بعشرات الغرف ، لا تجد فيها متسع لمظلوم ولا سرير لمريض .

بيت أبي علي الصغير ظل صغيرا بحجارته وصار كبيرا بأهله ومن تخرج منه . كبيرا بحجم إلفته.نعاهده ، ونحن نودعه ، على أن نحمي هذه القيم ، أن نصون أسلوبه الوادع في صنع محبته للآخرين ومحبة الآخرين له، في صنع إلفته مع الناس والأشياء ، مع التقاليد والعادات الجميلة في قريتنا وكل القرى.

إنها تقاليد التنوع والتعدد ، جسدها بنيان بيته صلة للوصل بين كنيسة وجامع ، وجسدها أولاده صلة وصل بين المتنوعين في أفكارهم وعقائدهم ومبادئهم وأوطانهم …المتنوعين في طقوس الحزن كما  في طقوس الفرح.

تلك هي قيمك يا أبا علي، تقاليد وعادات لا ترضى أن يتسلط عليها تعسف المطوع ولا جهل الانكشاري ، الغريبين على عاداتنا وقيمنا.

نودعك ونحن نقبض بملء قلوبنا على محبة تبادلتها مع من حولك بسخاء الفلاحين وكبرياء الملوك