21 نوفمبر، 2024

في تكريم معن مقلد

الموت لغز الوجود وسره، والحياة قرين الموت. لا تعرف إلا به . وجودها مقرون بوجوده و ربما لا يكون لها معنى من دونه. إذ كيف يكونه لها معنى إن هي امتدت من الأزل إلى الأبد؟؟؟

كل الأديان ، كل الأدب والشعر والتاريخ والفلسفة ، كل علوم الطبيعة والعلوم الانسانية ، كل السحر والتنجيم والتبصير والرجم …لم تبق ناحية من العقل البشري ومن مخيلة الإنسان  إلا وتناولت الموت والحياة بالبحث والدرس ، سعيا وراء كشف هذا السر الكامن في علاقة الموت بالحياة .

قيل إن الموت ليس نهاية الحياة. رأت فيه الفلسفات الشرقية  بداية حياة جديدة، ورأت فيه الأديان السماوية  محطة بين حياتين: الدنيا و الآخرة . وقالت الفلسفة المادية إنه المقص الذي يقطع العلاقة بين الروح والجسد لأن  الروح ، في نظر هذه الفلسفات هي حياة الجسد .  روح  الجسد هي روابطه بالعالم الخارجي ، بالحواس الخمس وبالعقل ، وحين تنقطع هذه الروابط يصبح الجسد بلا روح ، إو هي تهاجر خارج هذا العالم ، وقيل إنها تختار أجساما وأجسادا أخرى وتحل فيها ، وقيل إنها تتقمص نفوسا أخرى وتعيش فيها.

تقول الأديان إن الله قهر عباده بالموت ، وطرفة رأى العيش (الحياة) كنزا ناقصا كل ليلة ، والمتنبي رأى الشجاعة ، بما في ذلك شجاعة الرأي ،صنو الحياة ( إذا لم يكن من الموت بد فمن العار أن تموت جبانا)، وهو الذي قال: إذا أنت أمعنت الحياة وصرفها    لأيقنت أن الموت ضرب من القتل.

والموت لا يصيب البشر وحدهم ولا الكائنات الحية فحسب ، بل هو يصيب كذلك الأفكار والأحاسيس والمشاعر ، ويصيب الممالك والسلالات والأحزاب، ويصيب الينابيع والأشجار والأحلام والرغبات، ويصيب الحضارات والعادات والتقاليد والطقوس والعبادات .

 أذكر كيف كنا ، ونحن صغار من أبناء الفلاحين ، ندفع للحانوتي بيضة دجاج أو حفنة من ترمس لنشتري شيئا من الحلوى الآتية من المصانع ، وكيف كنا نكتب فروضنا المدرسية على ضوء القنديل ، وكيف كنا نحمل معنا حطب التدفئة إلى صفوفنا  ، وكيف كانت تدهشنا السيارة والراديو والتلفزيون والهاتف . إلى أن صارت المبتكرات العلمية ملء السمع والبصر وصارت السيارات والهواتف بعدد أفراد العائلة … تلك حضارة ماتت .

يدفن بعضنا بعضا وتمشي   أواخرنا على هام الأوالي

 ماتت حضارة الفلاحين والزراعة لتحيا حضارة الصناعة والتجارة واستبدلت علوم الغيب بعلوم الطبيعة ، وفي كل يوم صار يبشرنا العقل البشري باكتشاف جديد . و الحضارات كالإنسان تموت ليحيا سواها. لكن ذلك يحصل في بلاد غير بلادنا، حيث الماضي يتحول إلى كتاب مفتوح يقرأون فيه الحقائق ذاتها والدروس ذاتها ، كتاب يجمع المختلفون في الرأي ،مهما بلغ اختلافهم، على المحافظة عليه وصونه ليبنوا عليه علوما جديدة ويكتشفوا حقائق جديدة .

 أما نحن فلا نراكم معرفة ولا علما ، ونصر على قراءة ماضينا كل على طريقته ، ونختلف على القضايا التي اختلفنا عليها من مئات السنين  ، ولذلك يصبح الماضي الذي لا يموت  خاليا من المعنى ، لأنه لا معنى للحياة إن هي استمرت من الأزل إلى الأبد .

قلت هذا كله تمهيدا لكلامي عن معن الذي اختلفنا  على قراءة ما صار ماضيا من حياته وموته . لكنني ، إنصافا له وللحقيقة سأحاول أن أقرأه كصفحة في كتاب، انطلاقا من آية وردت في الإنجيل وكررها جبران خليل جبران ومفادها أنه ما من ورقة تسقط إلى بعلم الشجرة جميعا . ومعناها أن الورقة التي تتحول من الخضرة والنضارة إلى الصفرة والسقوط ليست وحدها مسؤولة عن مصيرها . هذه هي القيمة الدينية التي بنى عليها الحقوقيون رأيهم بعدم جواز عقوبة الإعدام .

تيسر لي أن أعرف معن من طفولته الثانية أو الثالثة ، يوم كان في العاشرة من عمره ، ومضينا في علاقتنا نسيبين ورفيقن وصديقين إلى أن وافته المنية.

لم يؤذ في حياته نملة ، لكنه آذى نفسه . هكذا قال فيه بعض المحبين. نعم كان منذ نعومة أظفاره هادئا وأنيقا وجميلا وذكيا ومتفوقا في علمه إلى أن فاجأته طفرات الوطن وفاجأتنا بصدمة الحرب الأهلية فكان واحدا من ضحاياها ، وزاد في الطين بلة ضيق ذات اليد ، حين بلغ معن مرحلة الدراسة الثانوية .

تعرض  لتجربة قاسية في بداية الحرب ، يوم خطف من بيته ذات ليلة فصار يخاف من الليل ، وقرر أن يلغي الليل من حياته . صار يسهر الليل كله وينام النهار  ، حتى يتفادى ذكرى الخطف وظروف العتمة .

تبديل المواقيت وانتهاك قوانين السهر واليقظة والليل والنهار جعلاه ينام حين يستيقظ الآخرون ويستيقظ حين ينام الآخرون ، يعني أنه اختار لنفسه دواما لا يتطابق مع دوامهم، فتخلى عن المدرسة الثانوية واختار أن يتابع وحده تحصيل العلم ونجح في امتحان الشهادة الثانوية من غير مساعد .

صار الليل عنده هو الوقت المفضل العمل ، لكن من غير زملاء دراسة ومن غير أساتذه ، فشكل ذلك أول هروب إلى الوحدة والعزلة والانقطاع عن العلاقات الطبيعية مع الزمان ومع البشر  ، وحين سافر لمتابعة دراسته في الاتحاد السوفياتي تعمق إحساسه بالوحدة ، حتى لم يعد الليل وحده رفيقه في عزلته البعيدة ، بل صار الكأس جليسه والكتاب نديمه والحنين أنيسه ، وتحول كل ذلك إلى مرض اضطره إلى متابعة عامه الدراسي الثاني في المستشفى ، ثم إلى قطع الدراسة و العودة إلى لبنان .

صار المرض مرضين حين تحولت الوحدة إلى اكتئاب ، وصار الاكتئاب سببا لمضاعفة العزلة والعزلة سببا لمضاعفة الاكتئاب ، وأضيفت إلى مخاوفه الإولى من الليل مخاوف أخرى من الزمن كله ، من ليله ونهاره . تراكم خوفه من ماضيه حتى صار يخاف على مستقبله ، فأمعن في الانطواء والمكابرة حتى وقفت إمكانات الطب المتاحة في لبنان عاجزة عن علاجه، فوفرنا له فرصة السفر إلى فرنسا للعلاج ومتابعة الدراسة ، لكن اكتئابه قد استفحل وصار يعصى على العلاج بسبب كبريائه ، ذلك أن جزءا من علاج الأمراض النفسية يتطلب موافقة المريض على أن يكون مساعدا للطبيب وشريكا له في علاج نفسه .

علمتني تجربة معن درسين قاسيين لما فيهما من مرارة  ودرسا ناعما  :

أول الدرسين القاسيين أن الحرب ذميمة حتى لو كانت تحت أقدس الرايات . فما الحرب إلا ما علمتم وذقتم ، على ما قال الشاعر الجاهلي . لم يكن معن ضحيتها الوحيدة غير المرئية ، ألا تسمعون بتغير ظروف الحياة حتى على النباتات بسبب السموم التي تفوح من الانفجارات والحروب ، أولا ترون كيف تزداد حالات الموت بأمراض لم تكن بلادنا تعرفها قبل الحرب ، أولا ترون كيف قتلت الحرب القيم وبدلت العادات والتقاليد وأبعدت الصديق عن صديقه والقريب عن قريبه ؟؟؟

وثانيهما أن كل إدمان مرض . والإدمان لا يكون على الخمرة والتدخين والمخدرات فحسب ، بل إن كل إمعان في أي أمر لا يجمع عليه الناس والمكابرة على التمسك به  والمضي في تنفيذه هو شكل من أشكال الإدمان .

أما الدرس الناعم فهو أن قيم القرى وحضارة الفلاحين ما زالت والحمدلله محترمة في قرانا، وقد تجسدت بالاحتضان العائلي الكبير لمعن من قبل أعمامه وأخواله وخالتيه وعائلاتهم وأصهارهم ، فكانوا كلهم بمثابة الأهل له منذ طفولته، ومن قبل أخواته الثلاثة اللواتي أحطنه بالرعاية والحب ، وعوضن له غياب الأب والأم والمعيل

له الرحمة ولكم الشكر